مثّل إدوارد سعيد إحدى الظاهرات الاستثنائية في الغرب وخصوصاً في الولاياتالمتحدة الأميركية عبر السجالات الصاخبة التي خاضها مفنداً فيها الدور الذي لعبه الاستعمار المباشر، ثم الإمبريالية لاحقاً، في إدامة تخلف شعوب العالم الثالث. وقد أولى اهتماماً مركزياً لقضية الثقافة ودورها في الهيمنة، بادئاً رحلته هذه مع كتابه الشهير"الاستشراق"وأكمله بكتاب"الإمبريالية والثقافة". وقد شكل الكتابان الأساس في نظرية إدوارد سعيد في مواجهة مقولات غربية تتسم بالعنصرية تجاه الشعوب غير الغربية. في كتابه الصادر بعنوان"إدوارد سعيد، أسفار في عالم الثقافة"المؤسسة العربية، 2008 يحاول محمد شاهين إضاءة مفهوم الثقافة عند سعيد وبلورة نظريته، لا سيما تلك المتصلة بالهيمنة الثقافية للإمبريالية. يعتبر إدوارد سعيد الثقافة من أهم مكونات المجتمع البشري، ويصفها بأنها تتجاوز الهويات بل تقع في الأولويات تجاه الهوية. يرفض المقولات الغربية القائلة بخصوصية ثقافات محددة وموقعها المتقدم على الثقافات الأخرى، ويرى أن العالم أزال الحواجز بين الثقافات والحضارات بحيث يصعب الحديث عن الحضارة الصافية، تلك التي يقول بها بعض الكتّاب في أوروبا والولاياتالمتحدة الأميركية أمثال هنتنغتون وبرنارد لويس وغيرهم ممن يعتبرهم إدوارد سعيد من منظّري الاستعمار والإمبريالية. ويرى سعيد أن الثقافة تكتسب أهميتها من كونها نمط حياة شاملاً، ويضعها في أعلى المستويات الاجتماعية لأنها برأيه الأساس الذي تقوم عليه الحضارة. ينتقد العرب الذين يلهثون وراء القيم الغربية ويتبنونها في شكل أعمى غير مخضعينها للنقد والتمحيص. ويشدد أيضاً على الدور الإيجابي الذي تلعبه الثقافة في مقاومة الهيمنة الإمبريالية التي تعتمد بدورها على الثقافة لتكريس سيطرتها. لذا يبدو من الأهمية بمكان تفعيل الثقافة، لأن تفعيلها سيكون أبلغ تعبير عن تجسيد المقاومة. ويُلفت سعيد الى أن المقاومة وثقافتها يجب أن تكونا بعيدتين من رفض الآخر، لأن من شأن هذا الرفض تكريس المقولة الاستعمارية القائلة إن"الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا". ويشير محمد شاهين الى الاهتمام الذي أولاه سعيد لمسألة الهيمنة الإمبريالية في الثقافة. وهو ناقش هذه المقولة في كتابه"الاستشراق"مركزاً على قضية المواجهة بين الغرب والشرق، وكاشفاً فيه الوسائل التي وضعها الغرب لتعامله مع الشرق والخطط الموضوعة للهيمنة عليه. لكن التجلي الأكبر لنظريته هذه حملها كتابه"الإمبريالية والثقافة"حيث كشف فيه الكيفية التي استخدمها الاستعمار في توظيف ثقافته الخاصة لإدامة هيمنته بوسائل غير سياسية أو اقتصادية، ما دفعه لاعتبار أن الثقافة من جهة والإمبريالية من الجهة الأخرى تشكلان وجهاً لعملة واحدة أساسها"هيمنة القوة ذاتها". يعرض سعيد لمسار الهيمنة الإمبريالية هذه المرة من خلال التراث الأدبي المتمثل بروايات لكتّاب غربيين، ساعياً الى كشف الوسائل"الثقافية"في التنظير للاستعمار وإبراز دوره الإيجابي. يعرض لرواية جين أوستن"مانسفيلد بارك"، ويشيد بأسلوبها الأدبي وبجماليتها، لكنه يصنفها رواية تهدف في النهاية الى نشر ثقافة الاستعمار من خلال إبراز دوره"الحضاري"وعمله في تأهيل الشعوب التي استوطن أرضها. ويتناول أيضاً رواية"كم"لروديار كبلنغ التي يتهمها بتوظيف الفن الروائي في"تجسيم منظوره الاستعماري"، وعلى جعل هذا المنظور يشكل رؤية فنية تندغم فيها أطروحة الثقافة في الشكل الفني. أما رواية"قلب الظلام"لكونراد فقد أعجب سعيد بها لأنها تتناول الاستعمار ووسائل مقاومته وتتصدى لوسائل الاستيعاب الذي تمارسه الهيمنة الإمبريالية. يتصدى سعيد للمعضلات والمحن التي تواجه الثقافات المحلية، لا سيما منها ثقافة السكان الأصليين، سواء خلال السيطرة الاستعمارية المباشرة أم بعد زوال هذا الاستعمار. وتكمن الصعوبة في أن هذه الثقافة تكابد من أجل استقلاليتها، في وقت تجد نفسها مكبلة بثقافة الاستعمار التي تكون قد تغلغلت في كل ميادين المجتمع. وتنجم عن هذه المقاومة في التخلص من الإرث الاستعماري تشوهات في الثقافة الخاصة للبلد المستقل وانفصام في الشخصية الثقافية للمجتمع. ولأن الثقافة الاستعمارية المهيمنة قادرة على اختراق البنى الاجتماعية، ترى البلدان المستقلة نفسها مشدودة مجدداً الى هذه الثقافة، خصوصاً عندما ترى النخب هذه نفسها عاجزة عن إنتاج ثقافتها الخاصة بمعزل عن التأثيرات التي تكون ثقافة الهيمنة قد زرعتها سابقاً. قد يساء فهم إدوارد سعيد المشدد على مقاومة الهيمنة الثقافية للإمبريالية على أنها دعوة للقطيعة بين الشرق والغرب. على العكس من ذلك يسلط سعيد سيف النقد على تلك الدعوات الانعزالية الهادفة الى نبذ الغرب والتقوقع في خصوصيات تحت ستار الحفاظ على الهوية. يدعو سعيد العالم العربي بنخبه ومؤسساته الى البحث عن الأسباب الذاتية التي تمنع العرب من اللحاق بالتقدم الغربي والعوامل التي جعلت العرب عاجزين عن إنتاج رجال مثل إبسن وأينشتاين وتولستوي وغيرهم. فنقد الهيمنة الإمبريالية الثقافية لا يعطي العرب مبرراً أو سبباً لتقصيرهم الذاتي ولتعيين العناصر البنيوية الكامنة وراء هذا العجز. إن أطروحة سعيد في ميدان الثقافة والإمبريالية تعبير عن وجهة تنويرية شاملة. لا يقتصر توجه هذه الأطروحة الى الشعوب التي وقعت عليها ثقافة الإمبريالية قط، بل إن هذه الأطروحة عامة وتتجاوز ثنائية الشرق والغرب لتطاول مجمل الشعوب، نظراً لكونية هذا الصراع في بعده الثقافي واستمراريته، طالما أن الصراع السياسي ضد الهيمنة الإمبريالية مستمر ومتواصل.