مع التصريحات الأخيرة للرئيس السوري بشار الأسد، خرجت المفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل من ميدان التكهنات والتقارير الصحافية إلى ميدان الوقائع الموثقة. ويمكن إجمال ما توصلت إليه هذه المفاوضات، منذ انطلاقتها غير الرسمية في العام 2004، بموافقة أولمرت على إعادة هضبة الجولان كاملة إلى السيادة السورية مقابل شروط تمس التحالفات الإقليمية لسورية إيران وحزب الله وحركة حماس. أما القضايا المتعلقة بالضمانات الأمنية المتبادلة وتطبيع العلاقات وغيرها من المسائل ذات الطابع الإجرائي، فيبدو أنها محلولة منذ الجولة الأخيرة من المفاوضات بين الجانبين برعاية أميركية في شيبردز تاون العام 2000، وهو ما دأب المسؤولون السوريون على تأكيده في تصريحاتهم بالقول إن سبعين في المئة من المشكلات العالقة تم الاتفاق عليها. العنصر الجديد الذي أتى على ذكره وزير الخارجية السوري وليد المعلم في محادثاته مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يتعلق بموضوع مياه هضبة الجولان، فقد قال إنها لن تشكل عقبة في المفاوضات إذا لبّت تركيا الحاجة السورية إلى المياه. ويبدو أن الطموح التركي لا يتوقف عند دور ساعي البريد بين الجانبين، بل يريد المساهمة الفعلية في إنجاز التسوية، عن طريق ثروتها المائية في أقل تقدير. العقدة إذن تتحدد في ما يلي: هل بمقدور حكومة إيهود أولمرت الضعيفة أن تعيد هضبة الجولان إلى أصحابها السوريين؟ وهل تخاطر دمشق بعلاقاتها الاستراتيجية مع حلفائها الإقليميين؟ على الجانب الإسرائيلي سرعان ما تم نشر استطلاع للرأي حول موضوع الجولان، فعبر ثلثا الإسرائيليين عن رفضهم لإعادة هضبة الجولان إلى السيادة السورية، وأرسل المستوطنون الإسرائيليون رسالةً إلى أردوغان عشية زيارته المقررة إلى دمشق، ناشدوه فيها"إيجاد حل لموضوع الجولان يشبه الحل التركي لموضوع لواء إسكندرون"، أي طريقة لإلحاق الهضبة السورية بإسرائيل بصورة نهائية. ويمكن التذكير بالمخاوف الأمنية التاريخية لدى القادة العسكريين الإسرائيليين فيما يتعلق بالأهمية الاستراتيجية للهضبة السورية. ومع أن هذه المخاوف تفقد مبرراتها بإبرام معاهدة سلام بين الجانبين تتضمن ضمانات أمنية متبادلة، فهي تبقى مادة للمزايدة السياسية في يد المعارضين الإسرائيليين للتسوية السلمية. أما المطالب الإسرائيلية ذات الطابع السياسي فيمكن قراءتها على مستويين: فهي تبدو من جهة أولى وكأنها شروط مقحمة في مفاوضات تتعلق بالتسوية السلمية وفقاً لصيغة الأرض مقابل السلام، وأميركية أكثر منها إسرائيلية، برغم الرفض الأميركي لأي مفاوضات بين الجانبين، في الوقت الحالي.. لكن الشروط الإسرائيلية المعلنة تبدو، من جهة ثانية، أقرب إلى تحصيل الحاصل إذا نظرنا إليها من منظور استراتيجي، فلا يعقل أن تقيم سورية سلاماً مع إسرائيل وتستمر في دعمها لحركة حماس أو لحزب الله اللذين يخوضان صراعاً مسلحاً ضد إسرائيل، ويتنافى مع منطق الأمور استمرار التحالف الاستراتيجي بين طهرانودمشق بعد إبرام معاهدة سلام سورية ? إسرائيلية، فضلاً عن أن من شأن هذه الأخيرة أن تنقل سورية إلى موقع جديد في النظام الشرق أوسطي يختلف جذرياً عن موقعها ودورها التاريخيين، فيما يشبه النقلة المصرية في العام 1979. من هذا المنظور تبدو الرعاية الأميركية شرطاً لا غنى عنه لإبرام أي معاهدة سلام بين الجانبين، وهي غير متوفرة في ظل إدارة بوش التي لم يبق من ولايتها إلا أشهر معدودة. ومن الجانب الإسرائيلي لا يمكن توقع اندفاع حكومة أولمرت نحو تسوية سلمية مع سورية من غير موافقة أميركية، الأمر الذي يعني أنها تعمل على إنضاج صفقة تسوية مع السوريين بانتظار حلول رئيس جديد في البيت الأبيض محل جورج بوش. وتمتزج في الدوافع الإسرائيلية حسابات تتعلق بالتجاذبات الداخلية ومستقبل أولمرت السياسي، مع حسابات استراتيجية لمحاصرة المسار الفلسطيني في الزاوية الضيقة والانتهاء من كابوس حزب الله عبر البوابة السورية. أما في الجانب السوري فيمكن القول إن دوافع استراتيجية تتعلق بمستقبل النظام هي الفاعلة في اندفاعته السلمية. المخاوف الآنية التي يكثر الحديث عنها، كهاجس المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، على أهميتها، قد تفسر"حملة علاقات عامة"نحو إسرائيل والولايات المتحدة، عنيت بها الإكثار من التصريحات الإعلامية التي تعلن عن نوايا سلمية تجاه إسرائيل، لكنها لا تفسر المسار الطويل من المفاوضات غير المباشرة التي توقفت برهةً ثم تم الإعلان عنها بصورة رسمية مؤخراً. أعني أن الأمر يتعلق هذه المرة بمفاوضات جدية من الجانبين، ورغبة جدية في التوصل إلى اتفاق سلام. فما هي هذه الدوافع الاستراتيجية من وجهة نظر النظام السوري؟ يمكن القول إنها تتألف من شقين داخلي وخارجي، يعزز كل منهما الآخر. من غير الدخول في تحليل مفصل لا يتسع له المجال هنا، يتعلق الأمر بحقبة ما بعد لبنان وضرورة التحول الليبرالي: البورجوازية الجديدة التي نمت في بيئة النظام الشمولي، باتت أطر الاقتصاد الموجه ودولة الرعاية الاجتماعية تضيق بها، لا سيما بعد تقلص المجال الحيوي لمصالحها إلى داخل الحدود الوطنية في أعقاب الخروج السوري من لبنان. ومع اقتراب المخزون الوطني من النفط من النضوب، وانقطاع الإمدادات الريعية الخارجية، المتأثرة مباشرةً بالعلاقات العربية للنظام، وإدراك هذا الأخير بأن البديل الإيراني في هذا المجال لا يمكن أن يدوم طويلاً، وأن مصلحته الاستراتيجية مرتبطة بالانفتاح على الخارج واستقطاب الاستثمارات التي لا غنى عنها لحسن دوران عجلة الاقتصاد الوطني، بات أمامه طريق وحيد هو العمل على الاندماج في النظام الإقليمي الذي تديره القوة العظمى الوحيدة. النموذج الذي يتطلع إليه النظام هو النموذج المصري، أي الانفتاح الاقتصادي والاندماج السياسي مع النظام الإقليمي ? الدولي، مع الاستمرار في الآليات الاستبدادية في الحكم. لكن ما كان واقعياً في الربع الأخير من القرن المنصرم قد يكون محالاً في الحقبة الأميركية ما بعد هجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001. * كاتب سوري