ما نعلمه عن عمارة الأندلس في عصر الولاة أتى من شواهد غير واضحة المعالم أكثر من حقائق تتعلق بالأعمال الإنشائية القائمة، وهناك مسجدان نقلت لنا أخبارهما روايات بعض المؤرخين وهما اللذان أسسهما حنش الصنعاني وهو من التابعين وقد وفد إلى إسبانيا بصحبة موسى بن نصير. وبنى حنش أحد المسجدين في حاضرة البيرة على مقربة من غرناطة في أدنى جبل البيرة وبنى حنش المسجد الثاني في سرقسطة وعُرف هذا المسجد باسم"المسجد الأبيض". وفي سرقسطة مات مؤسس المسجدين عام 718. ولما قَدِمَ موسى بن نصير إلى الأندلس استقر المقام بجند دمشق من القيسيين الذين كان يتألف منهم معظم جيشه في غرناطة وانتشروا في سهولها حول المسجد الذي بناه حنش الصنعاني في حاضرة البيرة عند بداية الفتح ، وقد استكمل الأمير محمد بناء المسجد وهدم بعض أجزائه وأعاد بناءها سنة 864 ثم أحرقه البربر عندما ثاروا سنة 1010م 101ه. وقد تبين أن هذا المسجد كان مبنياً من كتل من الحجر الجيري، وأن أروقته كانت تدعمها أعمدة رومانية كبيرة وكان بسقفه رقائق من الرصاص بها قنوات صغيرة ربما كانت لتصريف ماء المطر. أما زخرفته فكانت من الجص قوامها توريقات نباتية تنم عن تقدم فني عظيم. وقد ازدهرت الحياة حول هذا المسجد ونشأت بجانبه بلدة صغيرة كانت تُسمى في أول الأمر كاستيليا Castili، وصارت في ما بعد حاضرة إقليم البيرة وفي سنة 101ه 719م أمر الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز والي الأندلس السّمح بن مالك الخولاني أن يعيد بناء ما كان تهدم من جسر قرطبة الكبير قنطرة الذي كان قد تداعى قبل الفتح الإسلامي، كما أمره أن يُرمم الجزء القائم المتبقي من القنطرة على نحو ما هو قائم دون تغيير، فأمر السّمح بأن يُحمل إلى القنطرة الأحجار اللازمة لإعادة البناء من بعض أسوار المدينة نفسها إذ لم تكن توجد محاجر في هذه المنطقة لجلب الأحجار منها، وقام السّمح بسد الثغرات التي نشأت في الأسوار بالآجر، ولكن لم يتم عمارة الأسوار بالكامل إلا سنة 149ه 766م وتم تجديد وترميم هذه القنطرة عدة مرات في العصور التالية. والقنطرة ترتكز على ستة عشر عقداً ومازالت تحتفظ بكثير من معالمها الأندلسية، وهي تقع تجاه المسجد الجامع في قرطبة من الناحية الجنوبية وتربط قرطبة بضاحيتها المُسمّاة"حي الروح القدس". أما المسجد الثاني الذي بناه حنش الصنعاني في سرقسطة وعُرف باسم المسجد الأبيض فقد أُدخلت عليه زيادات معمارية سنة 242 ه 856 م بأمر موسى الثاني أحد رؤساء بني قصي، وقد تم الاحتفاظ بمحرابه الأصلي على ما كان عليه دون تغيير. وحملت لنا روايات بعض المؤرخين أن عبدالعزيز بن موسى بن نصير أول ولاة الأندلس بعد رحيل أبيه إلى دمشق، كان يشجع المصاهرة بين المسلمين والإسبان ، وأنه هو نفسه تزوج بالملكة إيغلونا أرملة رودريك واختار دير سانتا روفينا في إشبيليه ليكون مسكناًَ له ولزوجته بعد أن أدخل عليه تعديلات معمارية على الطراز العربي الإسلامي. ولا نعرف أكثر من ذلك عن أوجه النشاط المعماري في عصر الولاة قبل إعادة بناء المسجد الجامع في قرطبة في مستهل عصر الإمارة على يد الأمير عبدالرحمن. وكانت المعارك بين المسلمين والفرنجة بعد دخول الأندلس تتوالى في كل اتجاه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً للاستيلاء على أراض ومدن جديدة لتدعيم الوجود الإسلامي في إسبانيا، ولم تستقر الأحوال السياسية والاقتصادية في الأقاليم التي فتحها العرب بسبب توالي الثورات والفتن الداخلية، وتوالى عدد كبير من الولاة على حكم الأندلس في فترة زمنية قصيرة نسبياً. لذلك لم تظهر فنون زخرفية أو فنون ترف في عصر الولاة. كما يظهر طراز فني يحمل السمات العربية الإسلامية في تلك الفترة القصيرة، واعتمد العرب الفاتحون على الفنون والصناعات التي كانت قائمة في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي مثل صناعات وفنون النسيج والزجاج والمعادن والفخار والخزف والأثاث وفنون النجارة وفنون النحت على الأحجار والرخام وغيرها. وكان من الطبيعي أن يأخذ ظهور طراز فني أندلسي فترة من الزمان. ومن خلال الشواهد والأدلة الأثرية فيمكن القول إن الصناعة الوحيدة التي ظهرت في السنوات الأولى فور دخول الإسلام إسبانيا كانت هي صناعة سك النقود المعدنية، والسبب أن النقود في هذه الفترة في الشرق الإسلامي وغربه كانت هي رمز السلطة والحكم وكان إصدار عملة نقدية باسم سلطان أو خليفة أو والٍ هي اعتراف بتوليه الحكم واعتلائه عرش الخلافة. وقد حرص حكام الأندلس منذ السنوات الأولى على إصدار عملات نقدية بأسمائهم أو من دونها، لذلك وصلت إلينا أمثلة جيدة من تلك العملات التي ترجع إلى سنوات حكم موسى بن نصير وبعض من أتى بعده من الولاة، وتُلقي هذه العملات الضوء على تطور صناعة سك العملة، كما تلقي الضوء على بعض الأمور الاقتصادية والسياسية في هذه الفترة المبكرة للإسلام في الأندلس. ويحيط الغموض بالعملة النقدية في الأقاليم العربية، خصوصاً في الفترة الزمنية الواقعة بين فتوحات عمرو بن العاص في برقة وطرابلس وحتى فترة حكم موسى بن نصير، فالأحداث المتتابعة لم تتح للعرب الفاتحين فرصة تدعيم سلطتهم السياسية والاقتصادية في الأقاليم المفتوحة في أفريقيا والأندلس. وفي أول الأمر سمح وُلاة إفريقية والأندلس بتداول العملات النقدية التي تحمل نقوشا بيزنطية وشارات مسيحية في الأسواق. وكان من الطبيعي أن تأخذ السكة الإسلامية خطوات تعريب تدريجيّة منذ عهد موسى بن نصير الذي ضرب النقود أولاً على الطراز البيزنطي ذات الكتابات اللاتينية وهو الطراز الذي كان شائعاً ومتداولاً في ذلك الوقت وسجّل عليها كتابات منقوشة بحروف لاتينية. وهكذا لم تخضع السكة الأفريقية والأندلسية في عصر الولاة للقواعد النقديّة الصّارمة التي كانت تصدر من العاصمة المركزيّة دمشق لتنظيم إصدار وسك العملة في الأقاليم التابعة للخلافة الأموية، بل تُرك للوالي المحلي حريّة ضرب هذه السكة الإقليمية. أخذت السّكة الإفريقية والأندلسية طابعاً خاصاً أساسه الطراز النقدي الروماني البيزنطي ذات الكتابات المنقوشة بالحروف اللاتينيّة إلى أن ظهر أول دينار ذهب عربي خالص ضرب إفريقية سنة 102ه 720-721 م . وقد تعدّدت دور سك العملة التي ضُربت فيها النقود الأفريقية والأندلسية في مراحل تطورها الأولى من الطراز اللاتيني البيزنطي إلى الطراز العربي الخالص، فنجد أن النقود في إفريقية ضُربت في عدد من المدن كما ضُربت في القيروان العاصمة. أما السكة الأندلسية في عصر الولاة فقد ضُربت أولاً في أشبيلية وطليطلة، واستمرت تُضرب فيهما حتى انتقلت إلى التعريب الكامل فتم ضربها في العاصمة قرطبة. وكان اسم دار السّك يُنقش على وجه العُملة النقدية بحروف مختصرة. فعلى سبيل المثال نجد أن طرابلس اختصرت إلى TRPL، وأفريقية ظهرت مختصرة بالحروف اللاتينّية AFRK، وأحياناً ظهرت AFRC أما الأندلس فقد ظهر اسم SPAN اختصاراً لإسبانيا. وقد ضُربت أكثر النقود في أفريقية وفي الأندلس في عصر الولاة من دنانير الذهب وفلوس النحاس وأقلها ضرب من دراهم الفضة، وكانت لا تحمل تاريخ السك في معظم الأحوال، وحتى القطع النقدية التي سُجّل عليها تاريخ السك جاءت فيها الأرقام متباعدة إلى درجة صعوبة تحديدها بمعرفة المتخصصين ما أدى إلى ظهور تفسيرات متباينة وقراءات مختلفة. كما ظهرت على بعض النقود حروف محورة أو منقوصة ما يدل على أن النقّاش لم يكن خبيراً باللاتينية. وترجع أقدم الدنانير الذهب العربية المنقوشة بكتابات لاتينية وتحمل صورة الإمبراطور البيزنطي إلى ما قبل سنة 85ه 704م في أفريقية، وظهرت فلوس عربيّة من النحاس منقوشة بكتابات لاتينية مصحوبة بصورة الإمبراطور البيزنطي النصفيّة وعليها اسم موسى بن نصير بين سنوات 80ه - 85ه وبعضها ضُرب في طرابلس. أما الدنانير العربية بنقوش لاتينية وغير مصّورة ، و تحمل تاريخ الضرب أو بدونه فينحصر إصدارها بين سنوات 85-95ه 704-713م. أما السكة العربيّة المضروبة في الأندلس في عصر الولاة ومنقوشة بكتابات لاتينيّة فهي عبارة عن مجموعة من الدنانير الذهب ولا تحمل صورة الإمبراطور البيزنطي وتحمل تاريخ الضرب أو بدونه فقد صدرت بين سنوات 93 ه، 94، 95 711، 712 ،713 م وهي السنوات التي تولى فيها موسى بن نصير الحكم في الأراضي المفتوحة في الأندلس. وهناك مجموعة من الدنانير الذهب ضُربت في الفترة التي حَكَم فيها الأندلس الوالي الحُر بن عبد الرحمن الثقفي 97-99ه 715-716 م ، وتحمل هذه المجموعة تاريخ الضرب ومكان الضرب وهو"الأندلس"بالعربية واللاتينية. أما العملات المضروبة من البرونز على الطراز العربي اللاتيني فقد ورد على العديد منها اسم موسى بن نصير وظهر على بعضها مكان الضرب"طرابلس"باللاتينيّة وبعد التعريب الكامل للعملة بعد سنة 102 ه 720م ظهرت مجموعة من الدراهم الفضة المعربة ابتداء من سنة 104 ه 722م، ومجموعة ثالثة من الفلوس النحاس ابتداء من سنة 108 ه 726م. وقد وصلت إلينا بعض الدنانير الذهب العربية منقوشة بحروف لاتينيّة تحمل تاريخ الضرب بالحروف الكوفيّة إلى جانب ظهور اسم دار السك"الأندلس"وذلك منذ سنة 98ه 716 م وقد حملت نقود الأندلس المبكرة نفس الطراز العربي - اللاتيني الذي ظهر على السّكة الأفريقية وظهر عليها الصّليب المحوّر منقوشاً على شكل حرف T اللاتيني يرتكز على ثلاثة مدرجات أو أربعة، وظهر على الوجه الثاني كتابات لاتينيّة تمثل البسملة وشهادة التوحيد. وقد اتفق مؤرخو الفنون استناداً إلى ما وصل إليهم من العملات النقدية الأندلسية أنها اتجهت إلى التعريب الكامل منذ سنة 102ه 720 م شأنها في ذلك شأن السكة المضروبة في أفريقية. وقد ظهر أول دينار عربي معرب سنة 102ه في ولاية السمح بن مالك الخولاني، كما ظهر أول درهم فضة معرّب بالكامل سنة 104ه 722 م في ولاية عبدالرحمن الغافقي الأولى ومن بعده الوالي عنبسة بن سحيم الكلبي. وقد استمر ضرب السكة المعربة تعريباً كاملاً في الأندلس في عصر الولاة بشكل متقطع بسبب تعاقب الولاة في فترات حكم قصيرة حتى سنة 138ه 756 م حين تمكن عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك من دخول الأندلس في أيار مايو 756م حيث أسس الدّولة الأمويّة فيها. * كاتب فلسطيني مقيم في أبو ظبي