شغل الحديث عن النقود العربية اهتمام العديد من العلماء والباحثين من الناحية العلمية والفنية، الذين كان لهم فضل الكشف عن حقائق كثيرة في هذا الميدان، ويأتي في مقدمهم ادلر ودر كاستيلوني وشتكيل. وجاء من بعدهم المؤرخ الكبير لينبول Lane-Pole بإنتاجه الضخم في ميدان النقود والموازين العربية. وعلى رغم وفرة الباحثين من المستشرقين الا ان النقود العربية لم تلق عند الشرقيين العناية بتاريخها غير ما كتبه ادباء كقدامة بن جعفر، والقلقشندي او رحالة كناصر خسرو وابن بطوطة وحتى هؤلاء تناولوا في كتبهم موضوع النقود العربية في نبذ عرضية او فصول خاصة ما عدا المقريزي الذي خصص لها كتيباً مستقلاً اسماه"شذور العقود في ذكر النقود". ولكنهم جميعاً يشتركون في الاكتفاء بتعميم من دون استيعاب الموضوع كما فعل المستشرقون الذين كتبوا في المادة نفسها بكثير من التخصص والإحاطة، وإن كان لكتابنا العرب على كل حال فضل السبق في تسجيل معلومات هامة عن النقود في مؤلفاتهم استفاد منها المستشرقون القدامى منهم والمحدثون. وأهمية الحديث عن النقود العربية هي في كونها وثائق مهمة يمكن الاعتماد عليها في معرفة الحقائق التاريخية، سواء ما يتعلق منها بالأسماء، او بالعبارات الدينية المنقوشة، فهي سجل للألقاب والنعوت التي تلقي الضوء على كثير من الاحداث السياسية، التي تثبت او تنفي تبعية الولاة او السلاطين والبلاد للعلاقة او للحكومات المركزية في التاريخ العربي الاسلامي. ولذلك تعتبر النقود العربية الوثائق الرسمية الصحيحة التي لا يسهل الطعن في قيمتها، وهي فوق هذا كله تعتبر مستندات الوحدة السياسية والاقتصادية في العالم العربي، منذ ان كانت دمشق وبغداد والقاهرة مراكز الاشعاع الاقتصادي، ففي سورية تم على يد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان 65-86ه تأميم دور السك وتعريب النقود التي تداولتها الشعوب الاسلامية كافة، فلم تعد نقود العرب تدور في فلك النقود البيزنطية او الفارسية او ترتبط بأسعارها وأوزانها، ثم حملت مصر والعراق مشعل الإصلاح النقدي الذي أضاءته العاصمة الاموية دمشق فأسهمت القاهرة وبغداد في ضرب النقود العربية ونشرها خلال العمليات التجارية في الخليج العربي وحوض البحر المتوسط بقدر ما اسهمتا في اقامة دور جديدة للسك وتزويدها بالفنيين فضلاً عن المعادن النفيسة اللازمة. وتقتضي الامانة التاريخية ان نشير الى ما أجمع عليه العلماء بأن الليدين في آسيا الصغرى في عهد كرويسوس او قارون الليدي 561-546 ق. م هم اول من سك النقود المعدنية من الذهب والفضة استناداً الى رأي هيرودوت وقد انتشرت هذه السبائك النقدية في ليديا من طريق المدن الساحلية اليونانية في آسيا الصغرى الى بلاد اليونان نفسها حيث تطورت الى اقصى درجات التطور الفني وانتشرت على أيدي التجار في انحاء العالم، وقد اتخذت كل دولة إلهاً لها يرمز اليها فنقشته على نقودها، وعلى هذا الاساس سارت سنة الاشكال النقدية حتى العهد الاسلامي حيث نقشت على النقود العربية شهادة التوحيد"لا اله الا الله وحده لا شريك له". اما في ما يخص النقود العربية فتحدثنا المراجع التاريخية عن محاولات مبكرة لإصلاحها وتعريبها، تلك المحاولات التي بدأت على يد عمر بن الخطاب سنة 17 ه حين ضرب الدراهم على نقش الكسروية وشكلها والفلوس البرونزية على الطراز البيزنطي وكذلك محاولات معاوية بن أبي سفيان الذي ضرب الدراهم والفلوس وعليها اسمه أو صورته. وقد اشار المقريزي الى دنانير الخليفة الاموي معاوية 41-60ه ذات الصورة وهي اول دنانير اسلامية ضربت على طراز الدنانير البيزنطية التي تحمل صورة الأباطرة البيزنطيين. ومهما قيل حول محاولات عمر ومعاوية في توحيد النقود العربية فإنها لم تحمل محاولات خلق وابتكار بقدر ما كانت عمليات تقليد للنقود البيزنطية او الساسانية. وفي عهد الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان ضربت اول نقود عربية كضرورة من ضرورات الاستقرار الاقتصادي والسياسي. ولا يختلف المؤرخون العرب في نسبة الطراز العربي للنقود الى عبد الملك بن مروان بقدر اختلافهم في الدافع الذي أدى به آخر الامر الى ترك التعامل بالنقود البيزنطية، ويمكن الوقوف على هذا الدافع من خلال تلك النصوص التي ذكرها البيهقي في"دور المحاسن والمبادئ"والدجيري في"حياة الحيوان"والبلاذري في"فتوح البلدان"والمقريزي في"شذور العقود"وأبو المحاسن في"النجوم الزاهرة"وهي نصوص تتلخص في ان السبب في ضرب النقود العربية هو ان أوراق البردى التي تصدَّر من مصر الى بيزنطية كانت تسجل عليها عقيدة الايمان المسيحية، فكتب عبد الملك بن مروان الى عامله في مصر عبدالعزيز بن مروان بإبطال هذا الطراز من الكتابة على البردى وأمره ان يكون طرازها شهادة التوحيد. ولما وصلت اوراق البردى الاسلامية الى امبراطور الروم جوستينيان الثاني احتج على عبد الملك، ما أغضب الأخير فأشار عليه أهل الرأي بضرب نقود عربية عليها شهادة التوحيد والرسالة المحمدية. فعمل عبد الملك بهذه الشورى. وهناك رأي آخر في سبب النزاع بين عبد الملك وجوستينيان الثاني عندما عمل عبد الملك على تطوير هذه النقود الاسلامية خطوة جديدة في سبيل استقلالها عن التأثيرات البيزنطية فاستبدل صورة هرقل وولديه بصورته هو مع الإبقاء على بعض التأثيرات المسيحية كالعمود القائم على المدرجات الاربعة الذي كان يحمل الصليب اصلاً وأصبح على وجه الدينار صورة الخليفة عبد الملك وعلى ظهره كتابة هامشية نصها"بسم الله ضرب هذا الدينار سنة ست وسبعين او سبع وسبعين". والمهم ان ظهور هذه النقود الاسلامية المزينة بصورة عبد الملك كان سبب النزاع الحاد الذي قام بين الامبراطور البيزنطي والخليفة الاموي اذ ان ضرب نقود ذهبية بصورة حاكم آخر غير امبراطور الدولة البيزنطية لم يجرؤ عليه احد من الخلفاء قبل عبد الملك، وكان جوستينيان الثاني يدافع عن هذا الحق كقاعدة عامة يجب احترامها كالمبدأ، ولذلك عارض عبد الملك في الوقت الذي ظهر فيه هذا الطراز من النقود العربية الجريئة، بل فسخ المعاهدة المبرمة بين البيزنطيين والعرب لأن الأتاوة العربية السنوية لم تدفع بنقود تحمل صورة الامبراطور البيزنطي، لكنها قدمت بنقود عربية تحمل صورة خليفة عربي، وعبثاً حاول عبد الملك ان يقنع الدولة البيزنطية بقبول نقوده الجديدة المصورة ما دام وزن الذهب هو المعول عليه. وعلى اية حال فإن النقود العربية التي تزينها صورة عبد الملك كانت خطوة ثورية في سبيل الإصلاح النقدي لأنها كانت في حقيقتها ثورة على نظام النقد البيزنطي العالمي الذي اشاد به نورمان باينر إذ ذكر ان"هذا الاستقرار العجيب في السياسة المالية الرومانية قد ضمنت للبيزنطي عملته العالمية التي كانت مقبولة عند جميع الامم المجاورة بسبب وزنها المضبوط كأساس ثابت للتعامل واستطاعت بيزنطية ان تسيطر بنقودها هي على العالمين المتحضر والبربري"وقد استغرقت هذه الثورة الإصلاحية اربع سنوات منذ سنة 73 ه وهو تاريخ فسخ المعاهدة البيزنطية ? العربية وتمت بتعريب النقود تماماً سنة 77 ه حين احتلت الكتابات العربية وجهي الدينار العربي واختفت الدنانير المصورة واصبحنا نقرأ في هامش الوجه عبارة تشير الى الرسالة المحمدية نصها"محمد رسول الله ارسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله". وفي المركز شهادة التوحيد ونصها"لا اله الا الله وحده لا شريك له"وعلى الوجه الثاني في الهامش كتابة تشير الى تاريخ الضرب"بسم الله ضرب هذا الدينار سنة سبع وسبعين"وفي المركز ثلاثة اسطر هي النص القرآني من سورة الإخلاص"الله احد الله الصمد لم يلد ولم يولد"وهكذا نجح عبد الملك في تعريب النقود العربية الاسلامية تعريباً كاملاً، وبتعريب النقود سنة 77 ه بدأ عهد من الاستقرار المالي للدولة العربية فلم تعد نقود العرب تدور في فلك الدنانير البيزنطية او غيرها او ترتبط بأوزانها وأسعارها.