لنا، إذا نظرنا إلى مجمل المشهد السياسي العالمي، أن نتحدث عن لحظة أزمة حقيقية تعتري علاقة الدول بمجتمعاتها ومواطنيها، جوهرها إما اختلال متعدد الإرهاصات لعقد اجتماعي متوازن تبلور واستقر في مراحل سابقة أو استمرار لغيابه في ظل صراعات وتصدعات متواترة تعصف بأسس العيش المشترك. الديموقراطيات في أميركا الشمالية وأوروبا، وبعد حقبة طويلة استقر خلالها عقد دولة الرفاه الاجتماعي وجمعت في صياغات مختلفة بين ثلاثة مكونات هي التزام اقتصاد السوق وضمان عدالة الحد الأدنى وممارسة الحريات المدنية والسياسية، تعاني من اختلالات عميقة الأثر تطال دور الدولة وحدود مسؤولياتها والخيط الناظم لعلاقتها بالمجتمع والمواطنين. فقد أخذت الهوة الفاصلة بين مداخيل الشريحة العليا من أغنياء الولاياتالمتحدة وبين حظوظ بقية السكان من الثروة في الاتساع منذ الثمانينيات مع تراجع دور الدولة الضامن للعدالة التوزيعية وتغير النظم الضريبية لتصل اليوم إلى معدلات غير مسبوقة. وفقاً لإحصاءات عامي 2005 و2006، يستحوذ ما لا يزيد عن 10 في المئة من الأميركيين على أكثر من 70 في المئة من ثروة المجتمع تاركين ما يقل عن الثلث لغالبية ساحقة 90 في المئة من الفقراء ومحدودي ومتوسطي الدخل. هنا تكشف مقارنة سريعة مع معدلات السبعينيات، وخلالها لم يتجاوز نصيب الشريحة العليا من الثروة 30 في المئة، عن راديكالية التحولات المجتمعية التي تشهدها الولاياتالمتحدة في ظل تراجع دور الدولة وانحسار مسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية. بيد أن الدولة المتراجعة أخلت كذلك مع إدارتي بوش الابن المتعاقبتين 2000 - 2008 بتعهدها الدستوري بحماية الحريات المدنية والسياسية والتزامها بمبدأي حكم القانون والرقابة بين السلطات، على ما دللت فضائح بوش المتعاقبة بدءاً من غوانتانامو والسجون السرية مروراً بممارسات التعذيب والتنصت غير المشروع على المواطنين وانتهاءً بالتضليل المنظم للسلطات التشريعية والقضائية. والنتيجة الحتمية هي أزمة مجتمعية خانقة، يعمّق بكل تأكيد من تداعياتها شبح الكساد الاقتصادي وانهيار سوق العقار وارتفاع كلفة المغامرة العراقية، ذهبت بثقة غالبية الأميركيين بمؤسسات الدولة وبالنخبة السياسية وأعطت زخماً لدعوات التغيير الرامية إلى تجديد العقد الاجتماعي وإعادة التوازن إلى أدوار الدولة ومن ثم إلى جوهر علاقتها بالمجتمع والمواطنين. وإذا ما استثنينا جنات المساواة والعدالة الاجتماعية في الدول الإسكندنافية، تكاد صيرورة التطور المعاصر لغرب أوروبا أن تتماهى مع الخبرة الأميركية وإن اختلفت النسب والمعدلات. فعمليات تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي وكف يدها العادلة عن اقتصاد السوق، والتي دشنتها أوروبياً رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر 1979 - 1990، اتسع نطاقها تدريجياً ليشمل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا واسبانيا وتعاقبت على تطبيقها حكومات من اليمين واليسار رفعت شعار المنافسة في زمن العولمة وزجت بمجتمعاتها في أتون تحولات اقتصادية واجتماعية أخلت بتوازنها وحالت جزئياً بين الدول ونخبها وبين شرعية القبول الشعبي. خلال العقدين الماضيين، وكما أظهرت بيانات إحصائية ومسحية مختلفة، ارتفعت معدلات تركز الثروة في معظم الحالات الأوروبية على نحو عمّق من الفوارق الطبقية وقلّص المساحة التي تشغلها الشرائح المتوسطة الدخل على الخريطة المجتمعية وجعل من الفقر ظاهرة متنامية. فعلى سبيل المثال تراجعت نسبة الطبقة الوسطى إلى إجمالي السكان بألمانيا من 62 في المئة عام 2000 إلى 54 في المئة عام 2006 وتجاوزت نسبة المهددين بالفقر 12 في المئة، بل بلغت هذه النسبة في بريطانيا 17 في المئة وفي إيطاليا 18 في المئة. ومع أن نخب السياسة في أوروبا، وعلى نقيض الخبرة الأميركية، لم تتبع تفكيك دولة الرفاه بانتقاص جوهري من الحريات المدنية والسياسية، إلا أن هذه النخب أضحت هي الأخرى تعاني من أزمة شرعية تسهم في تكريسها سواء فضائح الفساد المتتالية أو التحالفات العضوية بين السياسة والمال أو الغياب شبه التام للاختلافات الفعلية أي البرامجية بين قوى اليمين واليسار، ما يؤدي الى عزوف المواطنين عن السياسة وفقدان ثقتهم بمن يمارسها. وما التنامي اللافت لظواهر مرضية كالعنصرية والشعبوية والعنف في التحليل الأخير سوى تعبير عن الاختلال المستمر في العقد الاجتماعي الناظم لعلاقة الدولة بالمجتمع والمواطنين وعجز الأوروبيين عن صوغ لحظة توازن جديدة وشرعنتها توافقياً. إن كانت هذه هي وضعية الديموقراطيات الغنية في الغرب، وفيها جميعاً استقر الفهم الحداثي للدولة وللمواطنة المدنية الجامعة المتجاوزة للولاءات الأولية النوع واللون والعرق والدين ولحدودها الفاصلة، فما بالنا بالحالات الأوتوقراطية التي لا تزال ترابطات الدولة والمجتمع والمواطنين تدار فيها على نحو سلطوي يجرد أي حديث عن عقد اجتماعي طوعي من المضمون والصدقية، أو بتلك التي لم يتبلور فيها بعد فهم حداثي للدولة يفصل بينها وبين فسيفساء الولاءات الأولية المكونة للمجتمع ويؤسس للتعاطي الحيادي معها؟ نعم تتفاوت حظوظ الأوتوقراطيات الحاكمة في الصينوروسيا الاتحادية وإيران ومصر والمغرب وفنزويلا من النمو الاقتصادي والتحديث المجتمعي كما تختلف أنماط إداراتها للحياة السياسية من احتكار صريح وقمع منهجي إلى اعتماد تعددية منقوصة ومشوهة تقف دون مستوى تداول السلطة ولا تخلو من قمع متواتر، إلا أنها تتلاقى على الجوهر الاستعلائي لتعريف علاقة الدولة ونخبتها بالمجتمع والمواطنين وكذلك على النظر إلى قضايا الشرعية والقبول الشعبي باعتبارها بمثابة حقوق عضوية للدولة لا تنزع عنها أو تحرم منها، بغض النظر عن وجهة سياساتها وحصاد ممارساتها. وواقع الأمر أن تواكب هذين المكونين إنما يفسر بوضوح نزوع مثل هذه الأوتوقراطيات إلى التعامل بعنف بالغ وغير مرشد مع إرهاصات التململ أو الرفض الشعبي، كما يشهد سحل عسكر الحزب الشيوعي الصيني للمتظاهرين من اجل الديموقراطية في"ميدان السلام السماوي"ببكين سنة 1989 وتنكيل روسيا بوتين المستمر بالأصوات المشككة بالموقع الأبدي للرئيس الحالي ورئيس الوزراء القادم في أعلى نخبة الحكم وقمع الأمن المصري لحركات احتجاجية عفوية لا مطالب لها سوى تأمين حد أدنى من العيش الكريم. هو إذاً عقد قسري لا فكاك طوعياً منه ذلك الذي يربط بين الاوتوقراطيات وبين مجتمعاتها ومواطنيها، بيد أن أزماته وتوتراته لا نهاية لها. أما الحالات التي لم تعتمد بعد فهماً حداثياً للدولة وللمواطنة الجامعة، وتحت هذه الفئة يندرج جل المجتمعات العربية، فقد يربط حكامها بسكانها منطق ريعي خير يعتمد توزيع عوائد الثروة المجتمعية بصورة تلبي مطالب غالبية واضحة ومن ثم تضمن رضاها على ما نراه اليوم حاضراً في غالب دول مجلس التعاون الخليجي، وقد تختزل العلاقة الرابطة إلى جوهر قمعي أحادي يروم سطوة المجموعة العرقية أو الطائفة المذهبية أو القبيلة في مواجهة الآخرين، وهو ما عبّر عنه عراق صدام بقسوة بالغة. المعضلة هنا هي من جهة افتقاد الريع للثبات ومن ثم حتمية التغيير الدوري لنمط توزيع العوائد مع ما يرتبه ذلك من توترات مجتمعية، ومن جهة أخرى استحالة استمرار قمع الطائفة الواحدة أو القبيلة الواحدة إلى ما لا نهاية ومأسوية لحظة البحث عن عقد اجتماعي بديل كما تدلل تراجيديا عراق ما بعد صدام منذ السقوط وحتى اليوم. عقد اجتماعي مفقود هنا وهناك وأزمة دول يغيب التوازن عن علاقتها بالمجتمع والمواطنين. * أكاديمي مصري