} هذا هو نص المحاضرة التي ألقيت في دمشق في الخامس والتاسع من الشهر ذاته، واعتقل على اثرها بعض الناشطين والمعارضين. على رغم كل ما يبدو على السطح من معالم الاستمرار والاستقرار، تعيش سورية لحظة مراجعة حقيقية وإن كانت هذه المراجعة لا تريد ان تسمي نفسها. وهي مراجعة تجري، وسوف تجري، مهما حاولنا ان نمنعها او نحدّ منها، بصرف النظر عن ارادة اي واحد منا. فهي لا تهدف الى شيء آخر سوى تقويم المسيرة الوطنية وإنقاذ الرهانات الاجتماعية الأساسية. ويدفع الشعور بالاستحقاقات التاريخية المجتمع السوري الى الغليان ويفتح باب الحوار والصراع كما لم يحصل من قبل. فلا يمكن لطرف من الاطراف الاجتماعية ان يقبل بأن يظل بعيداً من النقاش الذي يتوقف عليه تحديد طبيعة النظام الاجتماعي المقبل وأهدافه وأولوياته. ولا يعني ان يُترك ذلك الى طرف آخر سوى التخلي الإرادي عن حقه في المشاركة في تشكيل المستقبل، وبالتالي في ضمان مصالحه الأساسية فيه. ومن هنا اخذت ظاهرة المنتديات السورية مكانها في النقاش العام وتحوّل وجودها ذاته الى موضوع معركة سياسية. فلا يتعلق الأمر بالحفاظ على وسيلة للتعبير وممارسة الحريات الفكرية كما يبدو للوهلة الأولى، ولكنه يتجاوز ذلك بكثير. فهي تمثل اليوم الإطار الوحيد الذي يقدم للقوى والأطراف الاجتماعية الكثيرة المفتقرة لأي تمثيل سياسي والمبعدة من وسائل التعبير العامة في الصحافة والإعلام المرئي والمسموع ومن النوادي ومراكز الثقافة والجامعات والأحزاب، الفرصة للتعبير عن نفسها وبلورة إرادتها وتفعيل وزنها وبالتالي ضمان ألاّ يصاغ المستقبل من وراء ظهرها وضد مصالحها. ولا اعتقد ان هدف المثقفين الذين اسهموا في اطلاق هذه المنتديات وإحيائها يتجاوز مساعدة المجتمع ككل على التوصل من خلال الحوار الى تفاهم يضمن مصالح كل السوريين، خصوصاً تلك الاطراف التي لا تستطيع وليست لديها الوسائل الكافية لتعبّر عن نفسها وتؤكد مصالحها. ولا نستطيع ان نضمن ان يكون المستقبل للجميع، اي قائماً على التوازن في المصالح والتساوي في الحظوظ، من دون مشاركة جميع الاطراف في تصوره والتفكير فيه. فليس الإصلاح مسألة تقنية بمقدار ما هو مسألة اجتماعية، وعندما نتحدث عن المجتمع فنحن نتحدث عن مصالح بالضرورة متباينة او متناقضة. وفي معركة كبرى كهذه، يتقرر فيها مستقبل مجتمع كامل، من السذاجة ان يتصور المرء ان تجري الأمور ببساطة وسهولة وسرعة، وألاّ يترافق التحول بتفاقم التوترات واشتداد الصراعات والضغوط المتبادلة من شتى الأطراف. وكما ستشهد هذه التوترات والصراعات نمواً متصاعداً ستعرف مرحلة الانتقال الطويلة الكثير من المدّ والجزر. فلن تتوقف القوى التي تريد ان تبني المستقبل على ضوء الماضي ونموذجه، وأن تجعل منه مناسبة لإعادة تعويم نفسها وتوسيع قاعدة مصالحها وامتيازاتها عن السعي للوي ذراع المجتمع للقبول بالأمر الواقع وبما هو موجود. لكن مسار التحول سوف يستمر، وسيفرض نفسه في كل مرة اقوى من قبل. فليس هناك بديل من التغيير إلا الاعلان عن الافلاس الشامل، اي افلاس المجتمع والنظام في الرد على استحقاقات التاريخ، وبالتالي انهيار الاوضاع والسير نحو غياهب المجهول. ليس لدينا من سبيل لتكوين معرفة موضوعية بأوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والوطنية عموماً إلا وسيلتين: الأولى كمية تقوم على الاستنارة بالمؤشرات الاحصائية، والثانية كيفية تعتمد على الملاحقة والتحليل. والمعطيات الاحصائية اصبحت اليوم متوافرة بكثرة وفي متناول الجميع، ومعظمها يرجع لتقرير التنمية البشرية وتقرير البنك الدولي السنويين وبعض احصاءات صندوق النقد الدولي، او لمصادر محلية، هي تلك التي يقدمها المكتب المركزي للإحصاء. وكل الارقام المستخدمة هنا مستمدة من هذه المراجع، وفي شكل خاص من دراسات الاقتصاديين السوريين الذين جمعوا غالباً بين الاحصاءات السورية الرسمية والاحصاءات الدولية وقارنوا في ما بينها. ماذا تقول هذه المعطيات؟ تبيّن الارقام الاحصائية ان هناك تراجعاً ثابتاً في كل المؤشرات الاقتصادية، فقد هبطت حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي بين عامي 1980 و1997 اي خلال 18 عاماً بما يعادل 6937 ليرة سورية او نسبة تقارب 16 في المئة. وانخفض متوسط نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي من 7،6 في المئة لأعوام 1953 - 1965 الى اقل من واحد في المئة لعامي 1998 - 1999، مع وجود تقديرات اخرى تقول انه كان سالباً في هذه السنة. وتراجع معدل التراكم الداخلي من 19 في المئة عام 1980 الى 12 في المئة عام 1990 و14 في المئة عام 1997. وزاد الدَين الخارجي من 8،10842 مليون دولار عام 1985 الى 7،20864 مليون دولار عام 1997، اي ان الدين ازداد بما يقارب 6،5 في المئة سنوياً وهو معدل اعلى من معدل نمو يقارب 6،2 في المئة خلال السنوات 1985 - 1998، اي بزيادة اجمالية تقارب 40 في المئة عن عددهم عام 1985. وازداد عدد طلاب المرحلة الاعدادية بما يقارب 24 في المئة خلال الفترة نفسها، كما ازدادت نسبتهم في التعليم الثانوي بفروعه المختلفة بما لا يقل عن 30 في المئة. وهذا يعني ان نصيب الانفاق على تعليم الفرد قد لحظ انخفاضاً هائلاً في العقدين الماضيين. وبينما تبلغ نسبة الطلبة الذين يتابعون دراساتهم الثانوية 3،74 في المئة من اصل الذين يبلغون السن المناسبة في تونس، و1،75 في المئة في مصر، لا يتجاوز في سورية 3،42 في المئة. ولحظت الأجور تدنياً ملفتاً جعلها تقل عن مستوى الكفاف. وقد قدّرت احدى الباحثات السوريات ان الحد الأدنى للأجور يقل 300 في المئة عن حد المعيشة. كما حصل تدهور مماثل في القوة الشرائية، فقد وصل الفارق المتراكم بين الارتفاع في الأسعار والأجور منذ عام 1985 وحتى عام 2000 الى 200 في المئة. وتفاقم التوزيع غير العادل لعوائد النمو والثروة الاجتماعية. وتشير حسابات الدخل القومي الى ان كتلة الارباح زادت بمقدار 184 مرة عن كتلة الأجور، وأن الأجور تتراجع بالفعل بنسبة 12 في المئة في العام وذلك قياساً لارتفاع الاسعار وانخفاض القدرة الشرائية. ويقدّر الباحثون ان نسبة الفقر في سورية في ارتفاع مذهل، فبالمقارنة مع مستويات الدخل وتكاليف المعيشة يتبين ان النسبة العظمى من السكان العاملين بأجر، اي نحو 6،75 في المئة، يتقاضون شهرياً ادنى من خمسة آلاف ليرة سورية لا يكفي الاحتياجات المطلوبة للغذاء فقط لأسرة من خمسة اشخاص. وإذا اخذنا في الاعتبار استمرار المعدل المرتفع لنمو السكان الذي لا يزال من اعلى المعدلات في العالم اي 2،3 في المئة، وأن حجم الاستثمارات المطلوبة لإيجاد فرص عمل للوافدين الجدد الى سوق العمالة كل عام تقدّر ب5،187 بليون ليرة سورية، تبيّن لنا حجم التحديات التي تواجهها سورية في السنين القليلة المقبلة. ان من يتأمل في شكل معمّق في مؤشرات التنمية السورية التي تبدو جميعاً في هبوط لا بد ان يلاحظ بوضوح ان تراجع هذه المؤشرات بالنسبة الى الفرد لا يعني انه لم يحصل نمو في شكل عام للثروة الوطنية. ولكنه يعني ان هذا النمو قد تركز في بعض الميادين وعند بعض الفئات وترك الميادين والفئات الأخرى من دون نمو فعلي، ان لم يكن في تراجع. ومن هنا، أعتقد انه لا ينبغي ان نتحدث هنا عن ضعف النمو فحسب وإنما ايضاً وأكثر من ذلك، عن النمو المشوّه، والفارق بينهما كبير. فالتشوّه يعني عدم التناسب في النمو في اطراف الجسد الواحد. ليس هناك خلاف بين جميع الباحثين حول ما تعنيه هذه المؤشرات، لكن السؤال الذي يتوقف على الجواب عليه نوع الحلول المقدمة هو معرفة في ما اذا كان ما تعيشه سورية من اوضاع اقتصادية واجتماعية متراجعة هو تعبير عن ازمة اقتصادية نابعة من سوء الادارة والفساد، كما تميل الى تأكيد ذلك الدوائر الرسمية، ام هو تعبير عن ازمة تنمية لم تأخذ في الاعتبار المؤشرات الانسانية والاجتماعية، ام هو تجسيد لأزمة نظام مجتمعي. وإذا أردنا التوضيح قلنا: هل تكمن المشكلة في سلوك الافراد وكفايتهم وفي انعدام الخبرة والمهارة في المجتمع، ام في قواعد العمل التي يقرّها النظام العام بحسب الاهداف التي يسعى اليها، والتي تتحكم بتنظيم الموارد وتشجيع السلوك؟ لقد شهدت السنوات الاخيرة تركيزاً كبيراً من جانب المسؤولين الرسميين في الحزب والدولة على اطروحة الفساد لتفسير اسباب الأداء الضعيف للاقتصاد. وهناك من يسعى اليوم الى الربط بين هذا الفساد وظاهرة العولمة ليشير الى ان ما يصيب سورية هو مرض عالمي لا يقتصر على نظام حكم او قطر. وإنما ينتشر في كل البلاد والأنظمة النامية منها والصناعية. ويميل عدد كبير من الاقتصاديين الى التركيز على مسؤولية الادارة الاقتصادية اللاعقلانية التي اساءت اساءة عامة الى القطاع العام ودفعته الى الافلاس، وهو ما يعتقده الاشتراكيون، او التي عرقلت الاشتغال السليم والضروري لقوانين السوق الطبيعية في العرض والطلب وقيّدت النشاطات الاقتصادية كما يشير اليه الليبراليون. في المقابل، تنزع اوساط المعارضة وعلى رأسها المثقفون الى تحميل المسؤولية في شكل اكبر للنظام السياسي الذي يلغي اي مراقبة او محاسبة شعبية. ومن هنا اصبحت الديموقراطية كلمة السر ومفتاح الخروج من مأزق الحال الاقتصادية والاجتماعية المتردية. كما اصبح إحياء المجتمع المدني المنصة التي يستطيع من خلالها الناشطون من اجل الديموقراطية وتخليص البلاد من نير السلطة الاستبدادية المطلقة الوصول الى التعددية وتغيير قواعد عمل النظام السياسية. على رغم ملامسة كل منها الحقيقة، لا تستطيع هذه العوامل اذا اخذت كل على حدة تفسير ما حصل. فالفساد ليس سبباً بمقدار ما هو نتيجة لغياب القواعد السليمة في الادارة، وما يبدو وكأنه سوء في الادارة الاقتصادية ولاعقلانية يمكن ان يكون عقلانياً جداً من وجهة نظر المصالح الاجتماعية التي تخدمها الادارة. كما ان الديكتاتورية الفرانكوية في الماضي والكورية الجنوبية في فترة اقرب إلينا لم تمنع هذين البلدين من تحقيق تراكم في الكثير من الميادين الصناعية والتقنية والعلمية. باختصار، ليس الفساد الاخلاقي والسياسي، وسوء الادارة والتسلط السياسي وإلغاء المجتمع المدني والحريات الأساسية والتحكم المباشر في الاعلام وتنظيم مراقبة شمولية وعامة على حركات كل فرد وأفكاره، ليس ذلك كله إلا مظاهر لحقيقة واحدة ومتكاملة هي النظام المجتمعي الذي خضعنا له خلال العقود الماضية. وهو النظام الذي اطلق عليه الغربيون اسم النظام الشمولي والذي أسمّيه النظام البيروقراطي لأنه يعتمد في تشيغله والسيطرة عليه وتوجيهه على طبقة بيروقراطية عسكرية ومدنية استطاعت من خلال تماهيها مع الدولة والاحتماء بها من توحيد نفسها والتصرف كطبقة قيادية اي ايضاً سياسية وليست مجرد طبقة ادارية. وعندما نتحدث عن نظام مجتمعي فنحن لا نتحدث عن اشخاص او فئات ولكن نعني مجموعة القواعد والمبادئ والقيم التي تنظم العلاقات بين الافراد فتحدد نوعية المؤسسات التي تؤطر نشاطهم، وعلاقة هذه المؤسسات في ما بينها، وعلاقتها بالمجتمع، وطريقة عملها وتجديدها والسلطات والصلاحيات المرتبطة بها. وهذا ما يجعل من المجتمع كياناً واحداً ينتج عنه من الموارد والنشاطات والقيم والمعايير والمعارف غير ما ينتج عن كل فرد فيه بالكلية. فالنظام المجتمعي، اي اسلوب انتظام الافراد في سياق واحد هو الذي يحوّل الفرد الى عضو في مجتمع، اي جزء من كل واحد وموحد، وهو الذي يجعل من المجتمع، اي من مجموع الاعضاء المتفاعلين، وعلى مقدار ما يتيح لهم من التفاعل والتواصل والإثراء الذاتي، مجتمعاً منتجاً ومبدعاً يستخدم موارده لتطوير قدراته وتعميم القيم الانسانية على افراده كما يمكن ان يجعل منه مجتمعاً بائساً تعساً غير قادر على استخدام موارده ولا تثميرها. فالنظم الاجتماعية هي التي تفقر وتغني، وهي التي تنشئ الحريات او تلغيها، لا الأفراد. وقد دخلت سورية في هذا النمط من التنظيم الاجتماعي منذ نهاية الخمسينات، مثلها مثل المئات من البلاد الاخرى. وافتتنت نخبها به لما اظهر من فاعلية في تعبئة البشر وقيادتهم، ولما اتسم به من تطابق مع افكار التقدم التاريخي والعقيدة التحديثية التي نشأت في الصراع ضد النمط الاجتماعي القروسطي السابق المتميز بالركود والتكرار. وقد تبين مع الزمن ان هذا النظام الذي يظهر ديناميكية قوية في المرحلة الأولى لا يلبث بسرعة حتى يقود الى الجمود والركود والاستنقاع، وذلك بسبب تعرض الطبقة الحاكمة التي تكرس نفهسا بنفسها نخبة قيادية ولا تقبل بإخضاع ممارستها واختياراتها لأي محاسبة شعبية جدية، للفساد، وفي اثرها الى فساد شامل يمس كل نشاطات الحياة والعلاقات الاجتماعية. ولعل من اهم نقاط الضعف التي ميّزت هذا النظام هو انه يقصر اختيار كل عناصر القيادة والادارة والتسيير والتنظيم والتعبئة، اي كل ما يتعلق بتنظيم الحياة العمومية، والخصوصية احياناً، على نخبة احادية، تشكل حلقة مغلقة، تدور حول نفسها، ولا تتجدد إلا نادراً وبشق النفس. اضافة الى ذلك، فإن هذه النخبة التي سرعان ما تدرك انها تسيطر على مقاليد الامور جميعاً وتتحكم بكل موارد البلاد، ليست معرضة لأي نوع من المنافسة او المزاحمة او الصراع الذي يمكن ان يحثها على الارتقاء بأدائها وتحسين تأهيليها ورفع كفاياتها. فهي نخبة مكرسة ومحمية حماية مطلقة بمنظومة من اجهزة الرقابة والتفتيش والتحقيق ومن الاجهزة القمعية. ولأنها تستند في وجودها وتعرف انها تستند الى الدبابات وليس الى تصويت الرأي العام وموافقته. فهي تميل بسرعة الى الجمود والتراخي وتفقد شيئاً فشيئاً اي حافز لبذل الجهد والقيام حتى بمسؤولياتها الروتينية، بل تفقد حتى الشعور بالمسؤولية العمومية والشخصية. انها نخبة سياسية مدللة تعيش في كنف الجيش والأجهزة، ولا تخضع في سلوكها ولا في قراراتها لأي محاسبة او مساءلة من خارجها. ومن الطبيعي ان تنزع مثل هذه النخبة التي تعيش في دارة خاصة معزولة ومنعزلة عن بقية المجتمع وعن مشاكله وانشغالاته الى التنافس في ما بينها والصراع بين افرادها وفرقها على حيازة اكبر ما يمكن من سلطة القرار او من التحكم بالموارد المادية والمعنوية، وتكوين شبكات دعم وتضامن زبائنية من داخل النظام وخارجه لتدعيم مركزها. وسرعان ما يؤدي الاقتسام الثابت والمكرس للموارد ومناطق النفوذ الى التجميد والتحييد المشترك لكل الفرق المتنازعة ومن وراء ذلك الى القضاء على هامش الفاعلية الذي كان يميز نظامها، اي على ميزة السرعة في اتخاذ القرار والحسم في تنفيذه. وقد وصلت الاوضاع في بعض مراحل الحكم السوفياتي الى العجز عن اتخاذ اي قرار، بل الى الجمود والشلل الكامل للدولة. لكن تكوين نخبة مكرسة ومحفوظة لا تخشى اي منافسة وليس لديها اي حافز لتحسين ادائها ليست العلة الوحيدة لهذا النموذج. فإلى جانب ذلك، تنبغي الاشارة الى ما يكلفه بالنسبة الى المجتمع نظام قرار يستبعد المجتمع كلياً من المشاركة ويقصر امر مناقشة القضايا العامة، إذا تمت مناقشة بالفعل، على نخبة صغيرة، بل على اعضاء المكتب السياسي للحزب، إن لم يكن على امينه ا لعام وحده، من آثار سلبية على الرأي العام. إذ يقضي نظام القرار هذا في الواقع بالتحييد الكامل للمجتمع وإخراجه تماماً من ميدان التفكير بمصيره وبالتالي من ميدان الشعور بالمسؤولية. ومن الطبيعي ان ينزع مثل هذا المجتمع المستبعد من الأمور العمومية والمطلوب منه العمل والطاعة والتنفيذ وتلقي الأوامر الى ان يصبح مجتمعاً سلبياً عديم التفكير بمصيره العام، او مسلّماً به لغيره، وغير قادر على محاكمة اي قرار من القرارات السياسية. وكما يؤدي الوضع الاحتكاري وغير التنافسي بالنخبة الحاكمة الى الترهل وفقدان الشعور بالمسؤولية والبحث عن تحسين الكفاية الشخصية، كذلك يؤدي الوضع الهامشي والتحقيري للمجتمع الى تساهل الافراد في كل واجباتهم المهنية والشخصية وانعدام الحافز للتقدم والارتقاء بالجهد وبالنفس. وهذا هو الذي يفسر ان كل هذه الانظمة تسير في مرحلة او اخرى نحو التسيّب الكامل وتدفع الى الاستهتار المعمم بالموارد والمصالح والحاضر والمستقبل. كل يبحث عن موقعه الصغير ويسعى الى حماية امتيازاته المحدودة وليس لديه لا طموح للتغيير ولا للتحسين، بما في ذلك تحسين اوضاعه المادية. انه التسليم للأمر الواقع والاستسلام لدافع التقهقر والانحطاط العام. والواقع ان كل هذه الانظمة انتهت الى ما يشبه الآلة الجهنمية التي تولّد القهر المستمر لكل فرد فيها، ويشكو منها الجميع ويعاني من جمودها وتخشبها بما في ذلك في قمة الهرم، لكن من دون ان يستطيع اي فرد ايضاً ان يقف ضدها او ان ينجح في التفاهم مع غيره لمقاومتها. ومن ينجح في نزع نفسه من سياقها، ويتحرر من قهرها، وذلك لقاء تضحيات وجهود استثنائية وأحياناً فوق انسانية، يصبح خارجاً على المجتمع، اي منشقاً وليس صاحب رأي او عقيدة. انه متعاون او متآمر او مدسوس على الدولة والمجتمع، ومن الطبيعي والقانوني ارساله الى معسكرات الاعتقال او الى المصحّات العقلية بعد نزع حقوقه السياسية والمدنية. والسبب في ذلك هو ان شبكات المصالح المكرّسة لكل الفرق والعصبيات لا تقوم على أي أسس قانونية ثابتة. فهي تحتمي بعضها بالبعض الآخر وأي انشقاق عنها يهدد بالعمق استقرارها. وفي سورية ترافق توطين هذا النموذج البيروقراطي الاجتماعي مع الأزمة السياسية الخطيرة التي واكبت الانفصال عن مصر وأدّت الى انقلاب موازين القوة والانهيار الكامل للنخبة الحاكمة المدينية في الستينات وصعود نخبة قيادية من اصول ريفية مكانها. وقد دفع ذلك الى حصول تحوير في وظائف النظام الشمولي الكلاسيكي كي يلبي الحاجة الطارئة الى التمكين لنخبة عديمة النفوذ في الدولة والإدارة ومساعدتها على ارساء أسس قوية وثابتة، مادية واجتماعية، لسلطتها المتنامية. وهو ما اضفى على هذا النظام طابعاً عصبياً وفلاحياً ميّزه عن تلك النظم البيروقراطية الشمولية القانونية التي عرفتها الدول الشيوعية. وقد أظهرت التجربة ان الالتقاء بين نظام شمولي بيروقراطي يقوم على التركيز الشامل للسلطة من جهة ونظام العصبية من جهة اخرى، يضاعف من تراكم القوة ويشكل محركاً انفجارياً جباراً لتسريع النقل الخالص للسلطة والثروة. فقد تحقق في هذا المجال في اقل من ثلاثين سنة ما كان يحتاج الى قرن من الزمن في الحالات العادية. وهذا النقل الذي هو جوهر النظام كما تبلور في العقود الثلاثة الماضية هو الذي يفسر كل ما تميز به الأداء الاقتصادي والإداري والاجتماعي والتعليمي ومؤشرات التنمية البشرية المنخفضة، فكيما يتحقق نقل الثروة على نطاق شامل وبسرعة كبيرة كان لا بد من خلق حال تسمى في العلوم الانسانية بالفوضى الخلاقة، وهي فوضى منظمة هدفها تحرير العناصر من القواعد والالتزامات المعروفة وخلق فرص للحراك الاجتماعي ولتبديل المواقع لم تكن ممكنة في اطار السير العادي للنظام. لقد كان المضمون الاجتماعي الرئيسي للوضع الذي عرفناه في العقود الثلاثة الماضية هو دمج الريف، من خلال نخبه العليا، في المجتمع الوطني، اي في الثقافة والسياسة والحضارة المدينية، بعد حقب طويلة من الاقصاء والتهميش. بيد ان ثمن ذلك، بسبب الطريقة التي تم بها، كان مرتفعاً جداً، وهو تدمير البيئة السياسية والاجتماعية الحديثة التي تكونت خلال مرحلة الصراع ضد الاحتلال وبعده. فلم يكن من السهل تحقيق الصعود والارتقاء الكاسح والسريع للنخبة الجديدة الى موقع القيادة الاجتماعية والسياسية ونشر قوتها في كل النظام الاجتماعي وطرد النخب المدينية الراسخة الجذور في كل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني تقريباً من دون التعليق العملي للقانون وتدمير الأطر المؤسسية وتفريغها من محتواها لمصلحة تنمية علاقات التبعية الشخصية والزبائنية، وتحويل الدولة، بما تتضمنه من وسائل امنية وقانونية وقضائية، الى أداة حماية خاصة من جهة وأداة قهر للآخر وسيطرة عليه من جهة ثانية، ومن دون تحييد وتهجير او تشريد عناصر النخبة المدينية وأطرها بطريقة او اخرى. وقد حصل ما يشبه ذلك، وإن بطريقة مختلفة، منذ الربع الأول من القرن الماضي، في العراق وبعض دول الخليج، حين استُبعدت النخب المدينية، بدعم مباشر من البريطانيين، لمصلحة نخب ذات أصول بدوية. وما حصل لم يكن في الواقع إلا شكلاً من اشكال الانقلاب الاجتماعي العنيف الذي عرفه الكثير من الشعوب على طريق تكوينها الطويل والصعب. ففي دولة اخذت بمبادئ الوطنية الحديثة، من عدالة ومساواة بين جميع الافراد، لم يكن من الممكن الحفاظ على النظام الاجتماعي التقليدي الذي سيطرت عليه النخب المدينية سيطرة مطلقة خلال القرون السابقة ووضعت كل العراقيل التي تحد من استيعاب النخب الجديدة والاعتراف بها ودمجها في النظام الوطني. وبالمثل، ما كان بإمكان النخب المدينية التي اعتادت في غالبيتها الساحقة على مثل هذه السيطرة واستبطنت كل رموزها، بما فيها نبذ النخب الفلاحية وتجاهلها وأحياناً تحقيرها لضمان السيطرة المعنوية عليها، ان تقبل ببساطة الخروج السريع من ساحة العمل السياسية. وجاءت حوادث الثمانينات لتهدم كل ما بقي من اوهام وطنية تساعد على تجاوز الهوة وتحقيق الحد الأدنى من التواصل الذي يحفظ مظهر الوحدة الاجتماعية ويخفف من مناخ الحرب الأهلية الاجتماعية. ومن هنا شكلت هذه الحوادث نقطة فاصلة ايضاً في تطور النظام ذاته. فمن يتأمل جيداً في المعطيات الاقتصادية والاجتماعية يجد ان هذا العقد هو الذي شهد بداية التدهور الذي سيستمر في ما بعد على رغم كل محاولات الاصلاح الاقتصادي حتى يومنا الحاضر. فقد انقطعت الروابط القائمة بين الدولة والمجتمع بمقدار ما تحولت الدولة الى دولة الفريق المنتصر وحده، وزال مضمونها العمومي والقانوني، وأصبح المجتمع كما لو كان في حال حصار، وزال الدافع لدى النخبة المسيطرة لبلورة اي سياسة اجتماعية فعلية، ودب التسيّب والبحث عن المصلحة الشخصية والخاصة محل السياسة الوطنية. وفي موازاة ذلك، عمّ الفساد وساد الشلل في الادارة وتوقف اي جهد استثماري او اصلاحي وكانت النتيجة كارثة بيئية بالمعنى الاجتماعي جعلت النظام العام، اي كل ما يؤطر المجتمع وينظم علاقاته ويبث فيه الاتساق والانسجام، ينهار ويصبح غير صالح للاستثمار والعمل وبذل الجهد والانتاج، بل للحياة. ولم يكن ممكناً في اطار نظام مجتمعي يلغي كل مكتسبات الدولة الحديثة والنظام العمومي المواطني، ويمسك بالدولة من احشائها من خلال تعميم منطق التبعية الشخصية والولاء والاستزلام، ان تنمو اي ممارسة مؤسسية وأن يتحقق اي تراكم ايجابي فيها. هذا هو في نظري مضمون الازمة التي تعيشها سورية منذ عقدين، وهي ازمة تتجاوز بكثير الميدان الاقتصداي لتدخل في عمق الوجود الوطني، وفي اساسات الاجتماعي السياسي. انها ازمة الوطنية السورية التي تعني انهيار الأسس الضرورية لقيام جماعة سياسية موحدة ومتضامنة ومتفاهمة ومتفاعلة. وتتجلى هذه الازمة العميقة في الشرخ الذي يخترق كل هيئات ومؤسسات الدولة والمجتمع ويقسمه الى مجتمعين متنابذين ومتباينين تماماً، لا تجمع بينهما لا وحدة هدف ولا وحدة صف ولا وحدة عقيدة ولا وحدة قيم ولا وحدة شعور، وليس لهما اي تقويم مشترك للماضي ولا تصور مشترك للمستقبل: المجتمع الذي تتكفله الدولة وترعاه وتحميه، والمجتمع المتروك لنفسه من دون حماية قانونية او امنية او قضائية، المجتمع الغالب والمجتمع المغلوب. والنتيجة هي ما يميز الاوضاع السورية الحالية من ركود اقتصادي وإفقار اجتماعي وشلل للمؤسسات والهيئات المدنية وإحباط معنوي وعجز واضح في القيادة عن تحفيز الأفراد ودفعهم الى المبادرة والعمل وبذل الجهد وعلى الاستثمار والتثمير في الحاضر والمستقبل، بمن في ذلك الأفراد التابعون للنظام والمنضوون في مؤسساته الحزبية. والترجمة المباشرة لهذا الوضع ما يعيشه معظم السوريين على مختلف مستوياتهم وانتماءاتهم اليوم من احساس مؤلم بالاحباط والخسارة ونقص الانجاز. وهكذا، لم تنجح سورية، على رغم التضحيات المادية والمعنوية الهائلة التي قدمها المجتمع في نصف القرن الماضي، في الرد على اي تحد من التحديات التي كانت تواجهها في الخمسينات، لا في مواجهة سيطرة اسرائيلية ولا في بناء دولة وإدارة او تطوير علم او تجديد تقنية او توطين بيئة صناعية حقيقية. وتكاد تخرج من صراع القرن الماضي كله وهي مفتقرة الى اي نظام ناجع من النظم المؤسسية التي ترتكز عليها قوة المجتمعات في العصر الحديث. فهي لا تملك لا نظاماً صالحاً للانتاج، ولا للدفاع ولا للإدارة ولا للبلديات ولا للسياسة ولا للأجور ولا للتعليم ولا للصحة ولا للبحث العلمي ولا للتأهيل ولا للتأمين عن البطالة او ضمان الشيخوخة ولا حتى في المواصلات والنقل، او في التغذية بالماء او الكهرباء. ولا يتفق اي منها مع الحد الأدنى من معايير الادارة العصرية او يعمل بحسب ادنى مستوى من هذه المعايير. وإذا لم يكن لدينا نظام واحد سليم من النظم المدنية قادر على تلبية الحاجات الراهنة، فليس لدينا بالأحرى اي نظام يستطيع ان يصمد امام التحديات المقبلة والمستقبلية. * كاتب سوري مقيم في باريس.