المشهد السياسي في عدد من الأقطار العربية، يبدو عاصفا، ومرشحا لتداعيات أعنف وأوسع، فبعد الأحداث الدراماتيكية في تونس، هناك حركة احتجاجات واسعة، طالت مصر واليمن والجزائر والأردن. وكان المؤمل أن تكون قرارات القمة الاقتصادية العربية التي عقدت في شرم الشيخ، على مستوى الأحداث الخطيرة التي تمر بها الأمة، لكن النتائج، للأسف لم تعبر عن وعي عميق بالأزمات الحقيقية التي تعاني منها معظم البلدان العربية. كانت هذه الأزمات محور اهتمام الندوة التي عقدت في الشهر المنصرم، في العاصمة اللبنانية بيروت بفندق البريستول، بالفترة من 10- 11 تحت عنوان "أزمة الدولة في الوطن العربي"، دعا لها مركز دراسات الوحدة العربية، بمشاركة مركز كارنيجي للشرق الأوسط، وبتعاون مع الجمعية العربية للعلوم السياسية، وقد شارك فيها عدد كبير من المفكرين والباحثين والكتاب، وكان لي شرف المشاركة في أعمالها. والواقع أن الدافع الرئيسي لعقد هذه الندوة، هو ما تمر به المنطقة من تحولات تاريخية، وأحداث دراماتيكية. وقد انطلقت فكرتها من التسليم ابتداء بأن الدولة العربية ومؤسساتها تعاني من أزمات عميقة ومتشعبة. إن عمق هذه الأزمات والعجز عن مواجهتها هما اللذان يحركان الشارع الآن في عدد كبير من البلدان العربية، مؤكدة عجز هذه البلدان، ومشككة في إمكانية استمرار أنماط سياساتها. بل إن هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، فأكد على حتمية انهيار هذه الدول. إن الأزمة كما عبرت عنها الندوة، تتمثل في خلل التوازن في العلاقة بين نخب الحكم والمواطنين، وغياب قبول الشعب بمؤسسات الدولة وأدائها، وتعاظم أدوار القوى الخارجية. والنتيجة المؤكدة هي إعاقة التنمية وتعثر مساعي التحول نحو الديمقراطية وتآكل السيادة الوطنية وتفكك الدولة وتقطع أوصال المجتمع. وانطلاقا من هذه الرؤية، ركزت الندوة على الروابط الناظمة بين نخب الحكم وحركات المعارضة، الحزبية وغير الحزبية، المدنية والدينية، ليس بهدف تأكيد ما هو مؤكد، عن هيمنة النخب وغياب الإرادة في تحقيق الإصلاح السياسي، بل التركيز على دور منظمات المجتمع المدني، والتسليم بأنه كلما ارتقت المجتمعات العربية على سلم البناء المؤسسي، كلما تعاظمت قدرتها على فرض حكم القانون وتعميم مبدأ المواطنة المستند إلى الحقوق المتساوية وتهميش الكيانات الأولية المذهبية والعرقية والقبلية والطائفية، باعتبار ذلك من بديهيات التحديث. ورغم توفر عدد من البحوث في المكتبة العربية، ذات العلاقة بدراسة أسباب ضعف المؤسسات العامة والمنظمات المدنية، وعدم قدرتها على الاضطلاع بالمهمات التحديثية التي يفترض فيها أداؤها، والتي تناولت أسباب الأزمة، من خلال توصيف آليات الاختراق للمؤسسات العامة وتفريغ المجتمع من الجوهر التحديثي، والتركيز على فهم الظواهر الجزئية المشكلة للمشهد السياسي في البلدان العربية، كضعف السلطة التشريعية والقضائية في مقابل تغول الأجهزة التنفيذية، إلا أن ما هو منجز لا يرتب تطوراً معرفياً ومفاهيمياً يسمح بتجاوز طروحات الماضي حول أزمة الدولة العربية. ولذلك يأتي الاهتمام بدراسة الدولة، ومشروعها التحديثي، وفاعلية مؤسساتها. إن أزمة الدولة تكمن في تعثر مسيرتها نحو تحقيق الإصلاح، كما تتجلي الأزمة في ضعفها، وتآكل شرعيتها. لقد بات وجود الدولة الوطنية، مهدداً بالسودان واليمن، وقد اقترب من فقدان مضمونه في لبنان والعراق. بينما توارى المشروع التحديثي في عدد من البلدان العربية، وتم اختطافه وتعطيله من قبل عناصر فئوية في بعض الأقطار. وكانت النتيجة إخفاق الدولة الوطنية في إنجاز مهمة دمج قوى المجتمع وكياناته بإطار حكم القانون ومواطنة الحقوق المتساوية والتوزيع العادل للتنمية وتحقيق أهدافها، وتقديم الخدمات الرئيسة التي وعدت المجتمع بها في قطاعات حيوية كالتعليم وفرص العمل والصحة والضمانات الاجتماعية. إن تفكيك أسباب أزمة الدولة العربية، ينبغي أن ينطلق من قراءة تاريخيتها، وظروف نشأتها، والعوامل التي تأثرت بها تلك النشأة، وأن يركز على الثنائيات التي حكمت السياقات التاريخية لنشأتها، وكيف أثرت حالات التقابل في تكريس الأزمة. في هذا السياق، تميز القراءة التحليلية، بين أربعة أنماط من الأزمات التي تواجه الدولة الوطنية العربية: خطر عجز الدولة وانهيارها، أزمة تراجع قدرات الدولة وغياب فاعليتها وشرعيتها المجتمعية، أزمة استمرارية الممارسات السلطوية وغياب الحكم الرشيد، وأزمات الاندماج والهوية المكرسة لانفصال المجتمعات عن دولها. فيما يتعلق بخطر عجز الدولة وانهيارها، تنبئ التطورات الراهنة، بخطر انهيار الدولة في حالات الصومال واليمن والسودان، بسبب العجز عن ضمان الأمن والخدمات الاجتماعية والاقتصادية لأغلبية المواطنين، وتمرد مناطق مختلفة على السلطة المركزية بعد معاناة طويلة من التهميش الاقتصادي والسياسي والثقافي. ولا شك في أن المحدودية الشديدة لموارد المجتمع الأساسية، وبشكل خاص المياه ومصادر الطاقة، والكثافة المتزايدة للسكان، والتدخلات الخارجية، الدولية والإقليمية، ومن تنظيمات عنفية كالقاعدة التي وجدت في بعض مناطق هذه البلدان، فضاءات مفتوحة لعملياتها، أسهمت مجتمعة في مضاعفة الأزمة. وكان التعبير الأوضح عن هذه الأزمة هو حصيلة الاستفتاء الأخير على انفصال جنوب السودان عن المركز. فيما يتعلق بأزمة الاندماج والهوية، تتركز في الغالب بالمجتمعات، التي تتعدد فيها الأعراق والطوائف. وفي الحالات التي تسود فيها المحاصصات، تفقد الدولة قدرتها على الاضطلاع بإدارة موارد المجتمع الاقتصادية والاجتماعية لمصلحة المشروع الوطني، بعد استيلاء الطوائف والتنظيمات الرديفة لها على الوظيفة التوزيعية للدولة. وتبقى محاور أخرى مهمة، بحاجة إلى القراءة والتفكيك، في أحاديث أخرى بإذن الله. نقلا عن الوطن السعودية