تتكلم الفلسفة بوجه عام لغة خاصة بها هي لغة المبادئ والمفاهيم، الماهيات والتقابلات، الحدوس والبراهين. اما الفلسفة عند ناصيف نصار ومنذ البدايات حاولت ان تتكلم لغة النقد والحوار والتساؤل والمراجعة الذاتية. وبذلك نأت عن ايديولوجية القرن الفائت القائمة في العالم العربي على اشتراكية الشيوعيين، وقومية المفكرين أمثال أنطون سعادة، وقسطنطين زريق، وذكي الأرسوذي. ولكن نأي الفسفة عند نصار لم يكن بهدف الانضواء في فلسفة ما، أو ابتداع فلسفة أخرى، وإنما بهدف الاستقلال فلسفياً عن جوّ ثقافي عربي اعتاد رفع العقل الطائفي والاصولي والإيديولوجي الى مرتبة المقدسات، وبهدف تحرير القول الفلسفي العربي من كل ضروب الوصاية، تراثية كانت أو حداثية، ايديولوجية أو دينية أو سياسية، كل ذلك من أجل الخروج من المأق المزمن، أي من ضياع الهوية الجماعية للعرب بين متخيل مزيّف للأصالة والوفاء للتراث من جهة، ومتخيّل مضادّ لهذا التراث، ينجذب الى الحداثة بالاعجاب والانسحار، ويأخذ منها القشور والمظاهر الخارجية فقط، دون النفاذ الى الجوهر وبلوغ الوعي التاريخي الناجز، من جهة أخرى. هذا الكلام عن القول الفلسفي عند المفكر اللبناني ناصيف نصار مناسبته الكتاب ? التكريم لنصار الصادر عن منشورات الجامعة الانطونية بعنوان"ناصيف نصار ? علم الاستقلال الفلسفي"وقد يشارك فيه محمد المصباحي، جورج قرم، أحمد برقاوي، فارس ساسين، بسكال لحود. يتفق المشاركون في الكتاب ان نصار عبر كتاباته المتعددة ناضل من أجل توفير عناصر المعرفة الموضوعية الملتصقة بالواقع، التي تسمح للعرب ان ينهضوا من تهميشهم في التاريخ البشري، وأن ينجحوا في تأكيد وجودهم الفاعل في النظام الدولي، وإعادتهم الى عالم الابداع والانتاج على قدم المساواة مع سائر الأمم. حدَّد نصار مجال فلسفته منذ ان نشر عمله عن الفكر الواقعي لابن خلدون في عام 1967، ونشره لبحث حول"ابن خلدون في منظور الحداثة". عام 2006، حدد مجال فلسفته في"الوجود التاريخي الحي"لينأى بنفسه بعيداً من"الوجود الأنطولوجي"أو"الوجود اللغوي، أو حتى عن"الوجود التراثي"، وهي الموضوعات المعتادة للفلسفة العربية الحديثة والمعاصرة. وبهذا يكون قد اقترب من ابن خلدون فيلسوف الاجتماع، ليدلو بدلوه في هذا المجال انطلاقاً من عقل متحرر، في معالجة مصير الأمة السياسي والثقافي أي بالعمران بالتعبير الخلدوني. يعترف نصار باعتزاز بأثر ابن خلدون على مسار حياته الفكرية، وتكييفه لطريقته ورؤيته في التناول الواقعي الجدلي الاجتماعي لقضايا الوجود العمراني، وفي التعرف على الذات العربية. بيد ان المفكر اللبناني لم يهمه النظر كابن خلدون الى مظاهر الانهيار الحضاري الشامل للعمران العربي الاسلامي، وتأريخه وتبيان أسبابه، وإنما كان هاجسه تجاوز مظاهر الانهيار الحضاري العربي بغية الوصول الى"عصر أنوار عربي جديد"عصر ينتقل بفضله العالم العربي من ثقافة لا تعترف بمحورية العقل، الى ثقافة تقرّ بمكانته ودوره التنويري لأنه"لا سبيل لصنع المصير في الطبيعة والمجتمع والتاريخ أفضل من السبيل الذي ينيره النور الذي يحمله الانسان في ذاته ويضيء بذاته ومن ذاته". لكن من الصعب على العالم العربي ان يحقق الانتقال المذكور من دونون معاناة تاريخية، ومن دون خوض ضروب من الصراع، العنيف في جبهات متعددة. فالقوى المناوئة للعقل والعقلانية، شعوراً منها بالخطورة التي يشكلها العقل عليها، بسبب قدرته الفائقة على تفسير كل الظواهر الطبيعية والانسانية تفسيراً علمياً، لا يترك فيه مكاناً للخرافات والاعتقادات الباطلة، تفتعل الصراع تلو الصراع لعرقلة مسيرة العقل التنويري. والعقل التنويري عند نصار هو القدرة عند الانسان على التفكير تفكيراً مستقلاً متحرراً من الوصاية والحجر، تجاه كل سلطة خارجية غير سلطة العقل، للحكم والبت في أمر الحقيقة، ولكنه في الوقت نفسه يملي على الانسان ان يتصرف تصرفاً راشداً، في تدبير شؤونه العملية، وفي التقليل ما أمكن من مظاهر العبث والمجانية والفوضى والاعتباطية والمزاجية، التي تتحكم بالحياة والكون. غير أن الدعوة الى العقل والتنوير ليست شعاراً ايديولوجياً يطلقه المفكر اللبناني ابتغاء تعبئة النفوس واستنهاض الهمم، وإنما ضمن أفق حضاري شامل. هو ما يسميه"بالنهضة العربية الثانية". النهضة القادرة على ضمان الهوية والتقدم التاريخي والابداع الذاتي، وعلى اعتبار"الانسان هو الكائن الذي يصنع مصيره بنفسه". ولعل معاينة نصار للأزمة المركبة والشاملة التي يعاني منها العالم العربي هي التي فرضت عليه ان يطرح مفهومه عن النهضة العربية الثانية. فما دامت الأزمة شاملة فينبغي ان يكون علاجها بدواء أشمل هو النهضة الشاملة. يعتبر نصار ان النهضة هي الغلاف السياسي الذي يستمد جذوره من العقل، وقد انبنت في العالم العربي انطلاقاً من مفهوم الحرية. وضمن هذا المنظور انكب مفكرو النهضة الأولى بفعل احتكاكهم بالغرب على استيعاب درس الحرية، والعمل على تأسيس الفعل الانساني على مبادئ جديدة تمكن الفرد والجماعة من المبادرة والابداع وقد تسنى لهم ذلك من خلال اندفاعهم في محاربة الفساد والاستبداد في السياسة والفكر. غير ان النهضة العربية الاولى لم تنجح في ترسيخ قيمة الحرية"لا في المؤسسات ولا في العقليات"فظلت ظاهرة عرضية سواء في وجهها السياسي الليبرالية أو وجهها الفلسفي الحرية والاستقلال، الأمر الذي سهل على دعاة الثورة والانقلابات الانقضاض عليها باستعمال مفاهيم بدت في حينه أقوى ايديولوجياً من حجج الحرية، كحجج"الوحدة والاتحاد والأمن والنظام والتصدي للعدو والمؤامرة". يرى نصار ان النهضة العربية الثانية التي يدعو اليها هي عبارة عن فعل دخول العالم العربي في مرحلة جديدة مختلفة جذرياً عن الحضارة العربية الاسلامية، مما يعني أنها ليست مجرد استمرار للماضي، أو انبعاثاً للحضارة العربية الاسلامية، أو صدى لها، وإنما هي أمر قريب مما اصطلح عليه ابن خلدون بالانبثاق الجديد للوجود التاريخي العربي. هذا الانبثاق هو بكلام آخر اعادة بناء وتحرر من الثنائيات الانفصامية التي انهكت الذات العربية وعطّلت قدراتها، بل وهددتها بالغاء وجودها، كالثنائية بين الشرق والغرب، بين التراث والمعاصرة، بين الاصالة والحداثة. ولا يعني التحرر من هذه الثنائيات اتخاذ شكل التوفيق بينها، بل يعني وجوب مجابهتها والتصادم معها من أجل تغيير العلاقات بين الذات وذاتها، في اطار من الاستيعاب النقدي للتراث والمعاصرة، وتحرير الذات من التبعية لهما معاً. ووضع نصار لمشروعه حول النهضة العربية الثانية أساساً آخر لانطلاقه وهو ضرورة التخلص من"فكرة النموذج". لأنه ليس من طبيعة الحضارات الجديدة، بما فيها النهضة الأوروبية ان تتخذ لها نموذجاً تقتفي آثاره لكن هذا لا يعني ان عليها تجاهلها ومناصبتها العداء لها ولمكتسباتها المعرفية والسياسية والثقافية، وإنما يعني ان ما كان نصار يخشاه من اقتفاء النموذج الغربي للحضارة، ليس هو علمانيتها أو عقلانيتها، أو قدرتها الهائلة على الابداع والتغيير، ولكن تهديدها للذات بمحوها وإلغاء فاعليتها من جراء طغيانها الثقافي والحضاري والعلمي الهائل. ان مواجهة التخلف والتعصب اللذين يعيقان النهضة والوقوف في وجه الايديولوجيات التي تنظر لهما، لا يمكن ان يتم من دون دعامة الفلسفة، التي هي المرادف عند نصار للعقل، لكون مهمتها الاساسية هي بالضبط"إرجاع الانسان الى حكم العقل، واستخدام العقل لخير الانسان". والفلسفة التي يعتمدها المفكر اللبناني هي الفلسفة التي يدعو العرب الى اعتمادها"من الضروري على أهل الفلسفة من العرب اليوم ان يتجردوا للاختصاص في فلسفة الفعل، وبخاصة في الفعل الاخلاقي والسياسي، الذي تعود اليه كل همومنا الحديثة والمعاصرة". ان من يقرأ ناصيف نصار، أو يقرأ من كتب عنه يكتشف أن القول الفلسفي عند المفكر اللبناني متحرر من الدوغمائيات المعروفة، ومترفع عن التبسيطات الفلسفية والوجودية التي تأخذ طابع الشعار أكثر مما تأخذ طابع المادة الثقافية الجوهرية الساعية لارساء دعائم نهضة عربية جديدة. ان الكتاب التكريمي لناصيف نصار ? علم الاستقلال الفلسفي ? يعبّر عن النبرة الاستقلالية غير الانطوائية، وغير العدائية، التي تسود اعمال نصار من أولها الى آخرها، نبرة تصلح ان تكون مثالاً للتحرر والانفتاح في مجتمعاتنا العربية التي ما زالت تتريث في حسم ثنائيات الشرق والغرب الأصالة والحداثة. التخلف والتقدم.