يسطع اسم الفنان السعودي محمد عبده في سماء الأغنية العربية الخليجية منذ عقود. الرجل الهادئ، يلفت النظر بتواضعه وبتلك الحماسة للتجديد. ينتقي كلمات أغانيه وألحانها بعناية، ويتعامل مع كل أغنية كأنه في البدايات، كما قال ل"الحياة"على هامش تكريمه في مهرجان الدوحة التاسع للأغنية العربية، ولمناسبة صدور ألبومه"الهوى الغايب"بعد 3 سنوات من آخر ألبوم. لا يتنازل عن التراث السعودي في أغانيه، لكنه يستثمر"الحداثة في تطويرها وتسويقها عبر تقنيات تكنولوجية متقدّمة". التواصل المباشر مع الجمهور عبر الخشبة هو عشقه الأول والأخير. يجيد تخطيط فنّه، ويتحدث من الآن عن الألبوم المقبل. لم تطاوله الإشاعات السلبية يوماً. جمهوره تعدى حدود الخليج والعالم العربي. اسمه يرمز للوفاء والتواضع في الوسط الفني. عدوّه الوحيد"الفشل والتشاؤم في كل شيء"، يقول حازماً. ربما لهذه الأسباب استطاع"فنان العرب"أن يُحافظ على مكانته المرموقة في الوسط الفني، خلال قرابة نصف قرن. ولا يمل الحدث عن أمّه"البسيطة المتفانية المضحية"التي سهرت على راحته وإخوته"عندما غدر بها الزمن"وخطف زوجها في عزّ شبابه، تاركاً لها 3 أولاد وبنتاً"ينهشهم الفقر"، فأمه هي"المحفّز الأول لنجاحي واستمراري وطموحاتي". تميّز في عصر العمالقة، أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ووردة الجزائرية وفيروز ووديع الصافي وغيرهم. واستطاع صوته الحنون أن يشقّ طريقاً صعباً في وقت لم تكن الوسائل المساعدة كثيرة، كما هي الحال الآن... صوته وحده كان الوسيط."الصوت الصالح للغناء لا يحتاج الى تسويق"يؤكد بثقة عالية بالنفس. صوته الشجي نجح منذ البداية في استقطاب أبرز الشعراء والملحنين الخليجيين، بل صار رمزاً من رموز الفن العربي الذي يمنح المتعامل معه الشهرة. لم يستسلم لليأس يوماً. لم يمزّق الفقر الذي ذاق مرارته في الطفولة، طموحاته. نجاحه الفني وشهرته لم يسبقه إليهما أي فنان خليجي قبله. ... خير من ألف لقب في السبعينات لُقّب محمد عبده ب"فنان الجزيرة العربية"، ثم أطلق عليه الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة لقب"فنان العرب"، في منتصف الثمانينات. وقلّده الرئيس اليمني علي عبدالله صالح وسام الدولة. عدا عن تكريمه في دول عربية وأجنبية. لكن صاحب أغنية"أبعاد"التي دخلت التاريخ وتُرجمت الى الهندية واليونانية والإيرانية والتركية ونهل منها كثيرون من المطربين العرب، ليس"مهووساً بالألقاب والجوائز والتكريمات، فاحترام الجمهور للفنان وحبّه له خير من ألف لقب". ولا يخفي ابن الجزيرة العربية شعوره بالفخر والاعتزاز بتكريم مهرجان الدوحة له، وتلفزيون قطر وإذاعة"صوت الخليج"القطرية. ويعتبر أن هذا التكريم استحقّه من خلال استحواذه وجدان المستمعين ومشاعرهم. خوف على الأغنية السعودية يرى عبده أن الأغنية السعودية تعيش اليوم"مرحلة انتقالية صعبة جداً، كما يحصل الآن في الأغنية المصرية حيث تطغى التجارة على غالبية الأعمال الفنية، ولا وجود للتواصل بين الجديد والقديم ذي الأصالة والاحتراف". ويخشى من انحدار الأغنية السعودية،"بعدما تربّعت على قمّة هرم الأغنية العربية في السنوات الأخيرة". إذ"يحاول الجيل السعودي الجديد أن يبتدع تاريخاً وأسلوباً خاصين به، وهنا مكمن الخوف". ولا ينفي عبده أن خوفاً مماثلاً انتاب الجيل الذي سبق جيله،"لكن جيلنا استطاع الحفاظ والبناء ومحاكاة الجيل السابق، من دون أن يُشوّه هوية الأغنية العربية والخليجية خصوصاً، على رغم أننا جدّدنا الأغنية وحدّثناها من خلال السرعة في الإيقاعات والتلوين في الكوبليهات والنقلات الموسيقية لئلا يبقى اللحن على وتيرة واحدة". وتشبُّث عبده بالأغنية الأصيلة، لا يلغي اعترافه بأهمية التجديد في الأغنية، لكنه"تجديد اللون العربي المنفتح على الشرقي". ويحذّر من الاستغراق في الغناء العربي المنفتح على الغربي، داعياً الى"استثمار التجارب الغربية والاستعانة بالتقنيات الحديثة للارتقاء بمستوى الأغنية العربية"، ومشدّداً على"الحفاظ على الهوية والتراث والقيم العربية". ويبدو خوفه من المرحلة المقبلة عميقاً ، لأن"الأصوات السعودية ذات الخامة الجيّدة قليلة، وهناك محاولات لأصوات كثيرة لا تلقى النجاح لأنها ما زالت تتخبّط بين القديم والجديد ولم تعرف كيف ترسم خطّاً واضحاً لمستقبلها". وحفاظاً على الإرث السعودي الغنائي الأصيل، يدعو عبده الفنانين الشباب الى الانطلاق من القاعدة المحلية، أي التعاون مع شعراء وملحنين سعوديين:"إذا بحثنا في العالم العربي عن كلمة قوية وعذبة ومتألقة نجدها في الجزيرة العربية". ويحذّر من انحدار الكلمة"لكونها في العالم العربي ما زالت قاعدة الأغنية وأهم من اللحن، فالعرب خوطبوا بالكلمة". الصوت الجميل يدعم نفسه لكن، هل ينوي عبده، وهو أحد رموز الأغنية العربية، دعم فنانين شباب من الخليج وتوجيههم؟ يجيب بأن"الصوت الصالح للغناء يدعم نفسه في الدرجة الأولى، ومن ثم تأتي مساعدة الفنانين أصحاب"السلطة"له". ويؤكد استعداده لمساندة الأصوات الجميلة، مشيراً الى دعمه كثيرين عندما كان مسؤولاً عن برنامج مسرحي غنائي يبثّه التلفزيون السعودي، ومنهم عبدالمجيد عبدالله ومحمد عمر وعلي عبدالكريم وغيرهم. ويرفض القول إن الفضل له في شهرة عبد المجيد عبد الله، معتبراً أن الأخير بنى شهرته من خلال عذوبة صوته وذكائه في تقديم نفسه بالطريقة الصحيحة للناس. أما المطربة الإماراتية أحلام، فجاء دعمه لها من خلال إشادته بصوتها في كل لقاء صحافي وتلقيبه إياها بفنانة الخليج الأولى، ما أشعل المنافسة بينها وبين نوال الكويتية لنيل هذا اللقب عن جدارة. وينفي عبده تحضيره أغنية مشتركة دويتو مع نوال أو مع أحلام، مؤكداً أن ال"دويتو"الوحيد الذي سجّله رسمياً مع مطربة كان مع التونسية الراحلة ذكرى. ولا يبدو متحمّساً لتكرار التجربة، أقلّه حالياً. كما ينفي ما ذكرت الصحف عن خلافه مع نوال الكويتية، مشيداً بكفاءتها ومكرّراً تأكيد إعجابه بصوتها. وكذلك ينفي خلافه مع ملحّن أغنية"الأماكن"التي صارت أشهر من نار على علم بين الخليجيين، مؤكداً استمرار التعاون في الألبومات المقبلة، لأن"ناصر الصالح مغن وملحّن ممتاز يتّقن التطريب". القاهرة مسرح لقاء العرب لكل بلد يغني فيه عبده طابعه الخاص، كما يقول. لكنه يصف القاهرة ب"المسرح الواسع حيث ملتقى العرب". ويبقى للعاصمة التي بدأت فيها حياته الفنية مطرح مميّز في قلب الفنان السعودي. أما في بلده الأم،"فهناك جانب مفقود في المسارح حيث الحفلات مخصّصة للرجال فقط". ويتمنى"أبو نورة"الذي يقدر العائلة وتماسكها، ان يأتي الرجال الى حفلاته بصحبة زوجاتهم وأولادهم، و"حينها سيكون لها طعم خاص". لكن، في الوقت الحالي، يفضلّ عبده الغناء في الصالات المغلقة والحفلات الخاصة:"أسلطن فيها وأركز أكثر، إذ يغلب الجوّ الحميمي الراقي والخصوصي". وعن لندن، مدينة الضباب، حيث عاد عن قراره اعتزال الفن بعد سبع سنوات، مقدماً حفلة تاريخية عام 1997، قال إنها"تنفح زائريها بروح الشباب". ويؤكد عبده الذي لم يُغنِّ يوماً إلا باللهجة السعودية، أنه لن يغيّر رأيه ويغني باللهجة المصرية وإن كانت"اللهجة البيضاء"الأقرب الى مسامع العرب جميعاً، كما لن يتعامل إلا مع شعراء سعوديين. ويسترسل قائلاً بنبرة منفعلة:"دوري كفنان سعودي أن أُعرّف بثقافتي ولهجتي وأنشرهما، وهذا ما فعلته خلال 48 سنة. فسهّلت لهجتنا لتُغنّى في كل العالم العربي. لذلك من الصعب بعد هذا العمر أن تصدّق نفسي أو تلفظ شفتاي غير الكلام السعودي". رجل أعمال أيضاً لكن ما الذي جعل هذا الأسمر الشغوف بالفن يتّجه الى الصناعة والتجارة، وما القاسم المشترك بينهما؟ يجيب محمد عبده بثقة:"الاستمتاع بالنجاح". ويشرح أن الاستثمار في الفن"تشوبه محرمات في المجتمع السعودي، وهو موضوع مختلف عليه وليس مجزوماً بأنه حرام". وبما أن الرجل مؤمن بعادات مجتمعه وتقاليده، تنبّه الى الأمر ودخل معترك تجارة العقارات وأسّس مصنعاً لتغليف المواد الغذائية المعلّبة، وآخر لطباعة اللوحات الإعلانية في الطرقات. ويعترف عبده بأنه ليس صاحب رأس المال وحسب، بل يتابع أعماله بدقّة طوال مدّة إقامته في المملكة:"هو نوع من التغيير أحياناً". لا احتكار في الفن يرفض محمد عبده توقيع عقد احتكار مع أي شركة أو قناة تلفزيونية. فعقده مع"روتانا"ينصّ فقط على إنجاز أعمال فنية محدّدة وبتواريخ معيّنة، وينتهي كل مرّة بانتهاء الأعمال. وحول سياسة"روتانا"التسويقية، يقول إن"الدعاية لا يجب أن تكون أكبر من العمل، لأن نوعية الأخير ومستواه الفني يروّجان له". اللافت أن محمد عبده لم يصوّر فيديو كليب لأي من أغنياته. فهو يعتبر أن الكليب، وإن شكّل وسيلة مكمّلة تساعد على انتشار الفنان،"لا يجب الاعتماد عليه كلياً، فالصوت هو الأساس ثم تأتي الصورة،"وأنا أفضل الغناء على المسرح... لأن الفنان الحقيقي هو الذي يغني مباشرة أمام جمهوره مباشرة، في المستوى ذاته أو حتى في مستوى أفضل". ماذا يشاهد وماذا يقرأ؟ ليست ل "فنان العرب" أوقات كثيرة للترفيه. "أُقسّم يومي بين بيتي والمكتب والاستوديو"، يقول بصوت منخفض متنقلاً بين محطة تلفزيونية وأخرى بواسطة جهاز التحكّم عن بعد. يُحاول التقاط قناة"ديسكوفري"الوثائقية أو"روتانا - طرب"، فالتلفزيونات الإخبارية"باتت تقلقني وتشنّجني وأحاول الابتعاد منها". يأسف محمد عبده لأن السياسة"صارت مشكلة بحدّ ذاتها تجعل الإنسان أكثر تشنّجاً"، لافتاً الى أن القنوات الإخبارية العربية على رغم مهنيتها المتقدمة يوماً بعد يوم،"تبدأ صباحها بالقتل وتنهي مساءها بالكوارث". أما الصحف، التي"لا تختلف كثيراً في أخبارها عن التلفزيونات"، فيقرأها في الطائرة فقط. لكن الشعر ملاذه الأول والأخير، يلازمه باستمرار، الى جانب سريره وفي السيارة وفي المكتب وفي البيت، وفي رحلاته خارج المملكة. ويقتني عبده مجموعة كبيرة من الدواوين لشعراء من العصر الجاهلي الى العصر الذهبي وحتى العصر الحالي. ومن الشعراء الذين يعاود قراءة قصائدهم أكثر من مرّة، أبو تمام والبحتري وابن الرومي على رغم تشاؤمه. هذا عدا عن عشقه قصائد نزار قباني الرومانسية، وقصائد المصري فاروق جويدة، واليمني عبدالله البردوني. للشاعر أحمد شوقي مكانة مفضّلة عند عبده،"لأنني أشعر أن قصائده تمثّل امتداداً ما بين العصرين العباسي والحالي. وهو ينفرد بأن قوّة شعره الغزلي توازي شعره الاسلامي". ويعتبر عبده أن قراءة الشعر وحفظه يوازيان بالنسبة الى المطرب المحترف، حفظ القرآن وتجويده، بعيداً من المقارنة طبعاً. فالشعر يكمّل أهمية حفظ القرآن الذي يقوّم بدوره مخارج الحروف عند الانسان، كما أن التجويد يفيد المنشد والمطرب في النطق السليم ومخارج الحروف. والشعر يقوّم اللغة الفصحى ويساعد المغني على تبسيطها لتصل الى المتلقي بسهولة.