دعا حازم صاغيّة في "الحياة" إلى دراسة التحولات اللبنانية وامكانية الوصول إلى رؤية ومنهج يثبتان جديّة الرغبة في التغيير الديموقراطي بعد ثلاث سنوات على تظاهرة 14 آذار الكبرى عام 2005 الحياة 11 و18 آذار/مارس. لقد تابع اللبنانيون الصراع الكلامي بين المعارضة والموالاة خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث استعملت يافطات واعلانات تلفزيونية وتصريحات ومهرجانات وغيرها من وسائل البروباغندا. ورغم مرور ثلاثة أعوام على بدء الصراع الحالي لم يتقدم أحد بمحتوى أو مضمون ثقافي مقنع يشبع فضول المراقب لشرح واف حول ماهية هذه الثقافة من منطلقات أكاديمية علمية اي في ابواب الفلسفة والسيكولوجيا والسوسيولوجيا والتاريخ والدين. ولعل عدم مساهمة أهل العلم واساتذة الجامعات في هذا الموضوع دلالة على غياب المنطلقات الجدية وعلى عدم جدوى هذا السجال، وكذلك على عدم رغبة أهل العلم في أن يكونوا وقوداً في الصراع السياسي. ليس أنّ قوى 14 آذار لم تحاول حتى اليوم بلورة مفهوم تميزها الثقافي. فاضافة إلى حملة"أحب الحياة"الترويجية التي بدأت مباشرة بعد حرب صيف 2006، شهدت بيروت مؤتمر"ثقافة الحياة"في تموز يوليو 2007 ومؤتمر"ربيع لبنان"في الذكرى الثالثة في مركز"البيال"في 14 آذار مارس 2008. ولكن الكم الهائل من الكلام والمؤتمرات والشعارات لم يتطرّق إلى جوهر الموضوع أو يُجب عن سؤال أساسي: هل أنّ ما يحصل في لبنان هو فعلاً صراع بين ثقافتين؟ لأنّه إذا كان ذلك صحيحاً، فهذه فعلاً كارثة تستحق الكثير من التأمل. بداية لم نرَ في لبنان - أو في اي بلد آخر - ثقافتين، واحدة للحياة أو للسلام وأخرى للموت أو للعنف. كما لم نر دراسة أكاديمية وعينية مباشرة - لا اليوم ولا في الماضي ? عن تنوّع ثقافي أو"تعددية ثقافية"في لبنان، كما يحلو للبعض ومنذ 1975 أن يقول على سبيل التباهي الايديولوجي وليس من المنطلق الحصري لمعنى كلمة ثقافة. إذ على بساط البحث الموضوعي الذي يستند إلى العلوم الاجتماعية ثمّة في لبنان ثقافة واحدة لدى الجميع هي ثقافة الطائفية التي درجت عليها البلاد منذ أواسط القرن التاسع عشر، والتي فصّلتها أقلام أكاديمية كثيرة. ويبقى الفرق بين أطراف الصراع في لبنان اليوم في موقعها على سلّم درجات الثقافة الطائفية، إذ لا يمكن لعاقل أن يطلق نعت"ثقافة"على كل طائفة. أمّا الاختلاف في نمط العيش واساليب الاستهلاك والترفيه إنّما هو"تنوّع من منوعّات البحر المتوسط"بالاذن من ميشال شيحا. وقد يجد المثقف اللبناني نفسه مشدوداً أكثر إلى"14 آذار"لأنها جمعت أطرافاً هي أكثر اقتراباً من ملامح الحداثة انفتاح على الغرب وتعلّق بلبنان تقليدي يجمع"عائلاته الروحية"، وقبول مسائل الاستهلاك الحديث، الخ، مقارنة ب"حزب الله"التنظيم الذي يحمل عقيدة جهادية ويحمل السلاح ويتخذ الضاحية عاصمة مغلقة ولا يكترث بشؤون الحياة العصرية ولا بفيروز ورموز لبنان الأخرى، الخ. ولكن الأمر ينتهي إلى هنا لدى المثقف في مفاضلة آنية بين فئات أقل طائفية وأخرى أكثر حدّة في طائفيتها على سلّم الثقافة الطائفية مثلاُ، 5 على 10 طائفية أفضل من 7 على 10. فيختار الأقل تعصّباً وانطواء. إذ بعد فترة تأمل لا يجد المثقف في خطابي معسكري الصراع ما يجعله يحزم أمره وينتمي إلى احديهما. بل يجد نفسه واقفاً"على الضفاف". وفي رأيي أنّ الموقف المبدئي للمثقف يجب أن يكون لا مع هذا ولا مع ذاك من مبدأ أن المثقف الحقيقي لا يحتمل أقل من السعي إلى دولة الرعاية المدنية المجرّدة من الانتماء الطائفي والمناطقي والعائلي فماذا يعني الموت في سبيل أمير الحرب أو الزعيم؟ وماذا تعني عبارة"يا أشرف الناس"لغير جمهور"حزب الله"؟ أو عبارة"يا أبناء بيروت"لغير جمهور"تيار المستقبل"؟ وماذا تعني الأسماء البراقة للتنظيمات والأحزاب والتيارات والشعارات ? وطني، تقدمي، حرّ، ديموقراطي، الخ - على أرض الممارسة؟. باتت الثقافة الطائفية في لبنان اليوم في أوضح صورها منذ ولادتها قبل 150 عاماً حيث تتجسّد اليوم أكثر من اي زمن سابق في نطاقات طائفية جغرافية. أي أنّ العراك الديمغرافي بين الطوائف الكبرى هو الطاغي على الصراع المحلي في لبنان. أما"الحوربة"حول ثقافتين فهو فولكلور لذر التراب في العيون. وخارج النطاق السياسي نرى كل اللبنانيين متعلقين ب"الحياة"بمواصفاتها السطحية، كاقتناء منازل جميلة وسيارات حديثة وملابس وآلات ترفيه الكترونية، والسفر . أو بمواصفاتها الاستراتيجية وهي الصراع على السلطة المادية لدى جميع الأطراف. إنّ كافة ما تراكم منذ 2006 من كلام عن"ثقافتين"لم يكن أكثر من تلوينات على المواجهة السياسية في البلاد. فكل اللبنانيين يسعون إلى هذه الحياة وليس صحيحاً أنّ المنضوي في عقيدة"حزب الله"لا يحب أفضل السيارات وبناء الفيلات؟ لقد مرّت الطوائف اللبنانية في مرحلة صراع البقاء فيما بينها أو تجاه عدو خارجي، وكان قتال شرس حتى الموت. ومسألة أنّ الطوائف تتكتل في معسكرين لا يجعلها وطنية ذلك أنّ المنحى الطائفي هو محركها الأساس. وقد يكون لب الموضوع الللبناني هو خلاف بين التوجه نحو ثقافة الحداثة كما يقول الفيسلوف الألماني يورغن هابرماس وما وراء الحداثة، بمعنى العودة إلى الوراء ذلك أنّ حركة المجتمع ليست دائماً نحو التقدم بل تكون في أوقات كثيرة نحو الانكفاء والعودة إلى الدين. وفي الحال، لا يختلف طرفا الصراع في لبنان في كونهما حركة رجعية. إذ لا يبدو أنّ اي الطرفين يسعى إلى مشروع تنويري لعلمنة الدولة وتشريع الزواج المدني وقيام دولة المؤسسات البعيدة عن المحاصصة وهيمنة المؤسسة الدينية، الخ. وعلى سبيل المثال جاء في وثيقة مؤتمر"ربيع لبنان"التي تلاها فارس سعيد أنّ قوى 14 آذار ترى"الطوائف في لبنان جماعات يجب أن تحظى كلها بضمانات متساوية". وهذا مناقض لجوهر الديموقراطية التنويرية الحقيقي الذي إنما يريد أن يكون المواطنون أفراداً. خلاصة القول إنّ الجدل حول ثقافتين لا اساس علمي له وهو ينطلق - في طرفيه - من الثقافة الطائفية. وإذا كانت الثقافة ذات مضمون اجتماعي نفسي فلسفي ديني أدبي وتاريخي، فلا يمكن اختصارها بمناوشات سياسية وتفاهات الانشاء الأدبي. والنقد الصحيح ل"حزب الله"هو أنّ نضاله ينضح عن مجتمع ذاهب عميقاً في التمذهب، يحوّل الضاحية الجنوبية إلى غيتو شيعي يمارس الانعزال عن الاجتماع اللبناني. ولكن خطاب قوى 14 آذار لا يريد أن يمشي في هذا النقد لأنّه يصيبه كما يصيب الطرف الآخر، من قيادات اقطاعية وسياسية ومؤسسات دينية. إنّ كل الفئات تملك مؤسسات طائفية خاصة بها من مدارس ومعاهد ونقابات ومعابد وحصص في الدولة وتملك وسائل اعلام وتلفزيون، الخ. ولذلك تدور جميع القوى في لبنان حول الموضوع الأساسي لأزمة لبنان وهو ثقافة الطائفية وتختبيىء وراء كلام سطحي عن ثقافتين. وكل هذا لا يعفي أساتذة جامعيين ومفكرين متخصصين أن يدلو بدلوهم في هذا النقاش. ليس من موقع طوباوي كالكلام الشعري عما يوحّد اللبنانيين بل من موقع يذهب أبعد من الخطاب السياسي المرتجل وأكثر من تبادل تهم وشتائم لا تحتمل النقد. * أكاديمي لبناني مقيم في كندا