ربما كانت السنوات الأربعون التي قضتها راوية مع زوجها كفيلة بتأمين حد أدنى من التفاهم بينهما تُعينها على الاستمرار معه إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، لكن يبدو أنها لم تعد مستعدة لمزيد من الإهانات، والضغوط فآثرت الرحيل. والواقع، أن رحيلها لم يأتِ مفاجئاً لأولادها الأربعة، ولا لعائلة زوجها التي أصبحت فرداً"عزيزاً"فيها، لاسيما أنها كانت في السادسة عشرة عندما زُفَّت إلى الابن البكر في هذه العائلة طارق، بيد أن المفاجئ كان التوقيت. ظنَّ الجميع أن راوية اعتادت على خصال زوجها"البائسة"، واستطاعت إيجاد تسوية مع نفسها لتقبل سيئاته، فهو خائن وقاسٍ ومتسلط. تزوج عليها ثلاث مرات، وأنجب من إحداهن بنتين وصبياً قبل أن يطلّق زوجته الثانية، التي عادت إلى طليقها في الولاياتالمتحدة، تاركة الأطفال الثلاثة في عهدة راوية، التي اتكل طارق عليها في تنشئتهم باعتبارها الملاذ والصدر الحنون الذي يغفر الأخطاء، ويصفح عنها. تاريخ زواجهما مليء بپ"الكوارث والنكبات"، فطارق الذي بلغ الستين من عمره قاس جداً معها، وفي مرات عديدة ضربها ضرباً مبرحاً، إضافة الى تعرضها لمسلسل طويل من الإهانات. فيما حافظت هي على توازنها، واستمرت تضحي حتى حان وقت الرحيل. تقول أخت طارق الصغرى فردوس: إن شقيقها لم يكن يوماً زوجاً صالحاً، ولطالما آذى زوجته، ونكّد عليها حياتها، واصفة إياه بپ"الأناني". وعن تفاصيل ارتباطه براوية، توضح:" كان زواجاً تقليدياً شأنه شأن معظم الزيجات في ذلك الوقت، اختارتها أمي إذ كانت قريبتها، ذهبنا إلى سورية وتمّ النصيب، وحضرت للإقامة معنا في عمان"، وقالت إنها"أقامت في منزل العائلة لأكثر من عشر سنوات توطّدت خلالها علاقتها بحماتها حتى باتت تعاملها كابنة لها". وتوضح أن قوة العلاقة التي ربطت زوجة طارق بوالدته لعبت دوراً جوهرياً في دعمها وتحملها كل تلك السنوات، مشددة على أنها ساندتها، وكثيراً ما كانت تعنّف طارق بسببها. وليست الحماة وحدها من أحبّ راوية، تقول فردوس:"بل إن والدي وقف لأخي طارق بالمرصاد عندما أعلن رغبته في الزواج لأول مرة، ورفض بشدة هذا الأمر، كما انه طرده من المنزل عندما أصر على موقفه". ولأن طارق كان لا يزال يعيش في جلباب أبيه انصاع إلى أوامره، وألغى فكرة الزواج الثاني إلى حين استقل في بيت آخر وعمل منفصل عن والده، فنفّذ ما كان يخطط له. راوية أحبت طارق جداً، بحسب تأكيدات فردوس التي اعتبرت ذلك الحب سبباً منطقياً دفعها للاحتمال، وإهدار كرامتها كأنثى على مذبح البقاء معه. لكن يبدو أن الحب ليس وحده ما جعلها تحتمل صنوف القهر التي مارسها طارق على راوية، فقد أوضحت فردوس أن أهل راوية لم يكونوا ليسمحوا بطلاق ابنتهم تحت أي ظرف، لأن ذلك يندرج تحت بند"باب العار". وباستقلال راوية وطارق في منزل خاص، بدأ فصل جديد من العذاب، تصاعد معه حجم تضحيات راوية، وفق فردوس التي بيّنت أن طارق كان يجبرها على استضافة صديقاته في منزل الزوجية، والاحتفاء بهن، وتقديم الطعام والحلوى لهن في مشهد يكرس تسلطه، وتجبّره. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى إجبار راوية، على حضور حفلات أعراسه الثلاث رغماً عنها، بهدف إرضاء غروره. والأنكى أن طارق هجر فراش الزوجية بعد أن أنجبت له راوية ولدين وبنتين على رغم أنها كانت في ريعان شبابها، تشرح فردوس:"حاولت أمي جاهدة أن تقنعه بحرمة ما يفعله بزوجته خصوصاً أنها لم تقصر يوماً في واجباتها زوجة وأماً، بل على العكس كانت تسعى لأدائها على أكمل صورة. غير أن تلك الجهود تحطمت على صخرة عناد طارق وأنانيته". استمرت راوية في بذلها، ربّت أبناءها على الأخلاق والفضيلة، وكسبتهم إلى صفّها، حاولت تعويضهم عن غياب والدهم الذي قسّم وقته بين زوجاته الأخريات، وصديقاته، وسهراته، ومتعه، ونزقه الذي لا ينتهي. وتستذكر فردوس حادثة مرت بها راوية تجسد معنى الصبر والقدرة على التحمل، عندما ألقت القبض على زوجها متلبساً مع إحداهن تحت درج منزلها، مشيرة إلى أن راوية فقدت الوعي يومها، وانتقلت للإقامة في منزل العائلة لأكثر من شهر قبل أن تنجح مساعي الصلح في إقناعها بالعودة إلى"مملكتها". وتضحك فردوس وهي تفسر حال راوية بعد تلك الواقعة، معتبرة أنها ربما"أعطتها مناعة لاحتمال الخيانة المتكررة". ومع موت والدة طارق قبل نحو عشرين سنة، فقدت راوية داعماً أساسياً كان يعينها على المتابعة. ومع مرور تلك السنين كانت راوية أمنت مساندين جدداً هم أبناؤها، واخوة زوجها الذين وقفوا دائماً إلى جانبها. وتصف فردوس راوية بأنها تقية جداً، صبرت على أذى زوجها طمعاً بمرضاة الله، وبأنها مسالمة، وصبورة، وربما حكيمة حيث طلّق طارق زوجاته الثلاث تباعاً، وكان في كل مرة يعود ولكن من دون أي تنازلات، أو اعتراف بفضلها في حماية منزله وأولاده من الانهيار والتشتت. تعدد فردوس مآثر كثيرة لراوية التي بقيت إلى جانب زوجها حتى في ظلّ أحلك الظروف، فلم تتركه عندما تعرّض متجره لخسارة فادحة اضطرته إلى بيعه، كما لم تفعل عندما أكال لها ضربات موجعة في صلب علاقتهما الزوجية، وأيضاً بقيت معه عندما أصيب بجلطة كادت تقضي على حياته... وعلى رغم اقتناع فردوس بكم تضحيات قدّمتها راوية طوال تلك السنوات، إلاّ أن ذلك لم يمنع فردوس من الوقوع في حيرة وطرح سؤال:"لماذا قررت راوية ترك زوجها الآن؟".