هبّت رياح الخير دفيئة ومليئة بالعطاء على الأوبك، فجعلتها تعيش عصر الرخاء المادي من عائدات نفوطها التي قدرت في العام المنصرم بنحو 750 بليون دولار، وتلك الرياح هطلت سحبها بثروات هائلة في السنوات ما بين 2002 و2007، وكل المؤشرات تقول ان سحب تلك الرياح ما زالت مترعة بالخيرات والعطاء، وأنها ستستمر تجود على أعضاء المنظمة في ظل ظروف الحروب والصراعات الدولية، ومنها احتلال أميركا وبريطانيا لأفغانستان والعراق، والاحتلال الأثيوبي للصومال بوكالة عن العم سام، والحالة الكارثية التي وصلت إليها القضية الفلسطينية بانسداد طريق مسيرة السلام، مصطدمة بصخور الصلف الإسرائيلي الذي يرفده الدعم الأميركي الصارخ، والوضع المتدهور في لبنان، وبوادر عودة الحرب الباردة بين العملاقين الدب الروسي والغول الأميركي. والأمثلة تطول. وزيادة مداخيل النفط واضحة في دول مجلس التعاون الخليجي، خصوصاً في السعودية والإمارات والكويت وقطر، وبلغ نصيبها العام المنصرم أكثر من 400 بليون دولار، دخلت خزائن هذه الدول بسبب ارتفاع أسعار النفط التي بدأت متسارعة منذ احتلال العراق! وعلى رغم ان هذا الرقم 750 بليون دولار المتحصل من إيرادات نفط الأوبك التي يمثل إنتاجها نحو 40 في المئة من إجمالي إنتاج النفط العالمي، فإن قوتها الاقتصادية محدودة في ساحة الاقتصاد العالمي فمثلاً هذا الرقم 750 بليون دولار يبلغ نحو 5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الأميركي فقط، بل ان هذا الرقم لا يتجاوز إجمالي صادرات اليابان. يبدو من هذا ان الثقل الاقتصادي لدول الأوبك مجتمعة يبدو هزيلاً حتى بعد ان بلغ سعر النفط هذا المستوى القياسي، وبجانب ذلك وهو الأسوأ فإن قدرات هذه الدول الاقتصادية ليست مستقرة بل متذبذبة، فخزائنها تمتلئ مع ارتفاع أسعار النفط وتصبح خاوية بانخفاض أسعاره، وتبدو هذه الدول غير قادرة على تعديل هذا الخلل الخطير، ففي منتصف الثمانينات وأواخر التسعينات من القرن المنصرم عندما زادت فوائض هذه الدول من إيرادات النفط فإنها بدت عاجزة عن التخطيط لاستثمار هذه الأموال الطائلة التي هبطت عليها فجأة، فلم تجد بديلاً للأسف سوى استغلال معظم تلك الأموال في دول الغرب والشرق المستهلك للنفط عن طريق استثمارها خصوصاً في الغرب الذي يستهلك 75 في المئة من إجمالي الاستهلاك العالمي من النفط، هذا لأن دول النفط تفتقد للخبرة التي تمكنها من استثمار تلك الأموال في أوعية استثمارية في الداخل. وعلى الجانب الآخر ومع هذا الارتفاع التاريخي لأسعار النفط وامتلاء خزائن دوله بالدولارات من عائداته فإن الدول المنتجة اجتاحها التضخم وأثر فيها هبوط سعر الدولار بشكل قياسي، فارتفعت أسعار المواد الأساسية منها والكمالية بنسب تزيد على نسب ارتفاع أسعار النفط، ونحن إذا نظرنا إلى أسعار النفط وقدرناها تقديرها الصحيح وهي عند مستوى مئة دولار مع انهيار سعر صرف الدولار إلى هذه الدرجة نجد ان السعر لا يزيد على سعر النفط عندما كان مابين 29 - 30 دولاراً في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن المنصرم! إذاً الحقيقة أن أسعار النفط لم تزد إنما السلع والخدمات هي التي تضاعفت أسعارها وأصبحنا أهل النفط ننفق أضعاف ما كنا ننفقه عندما كان سعر برميل النفط بحدود 29 دولاراً للحصول على ما نحتاجه. وعلى رغم أن السوق النفطية الدولية مشبعة بالنفط فهناك نفط يبحث عن مشترين، أي ان العرض زاد على الطلب على رغم أن النمو الاقتصادي المستمر في آسيا خصوصاً الصين والهند يعني زيادة الطلب على البترول في السنوات المقبلة عن مستواه الحالي نحو 17.25 مليون برميل في اليوم، نصيب السعودية منه أكثر من 4.5 مليون برميل في اليوم، أي نحو نصف الإنتاج السعودي من البترول، هذا بعد ان أصبحت دول آسيا تحتل المرتبة الثانية بين اكبر مناطق استهلاك النفط عالمياً. ان ارتفاع الأسعار بهذا الشكل القياسي ليس له ما يبرره من العوامل الأساسية المعروفة اقتصادياً سوى تدهور العملة الأميركية التي يسعّر بها النفط والمضاربة والتكهنات المغلوطة أحياناً، لكن هناك أيضاً بعض العوامل الأهم التي رفعت أسعار النفط بين عام 2002 و 2008 وفي مقدمها الحروب والصراعات، وعلى رأسها احتلال العراق وأفغانستان وكل العوامل الجيوسياسية والخوف من حدوث اضطرابات كبيرة في إمدادات النفط من الدول المنتجة خصوصاً من منطقة الخليج العربي. ان الأسباب الآنفة الذكر وغيرها تعد سبباً رئيساً لموجة صعود أسعار النفط لتبلغ نسبتها في عام 2007 نحو 58 في المئة التي ليست لمنظمة أوبك سيطرة عليها وكل ما تستطيعه يتمثل في رفع انتاجها اذا زادت الأسعار عن الحد الذي تراه عادلاً وخفضه على العكس من ذلك، وهذا ما فعلته الأوبك منذ طفرة أسعار النفط الأولى في السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن المنصرم، وفي هذه الألفية خصوصاً منذ احتلال العراق! وأحسنت الأوبك صنعاً عندما قرر وزراؤها في اجتماعهم في الأول من هذا الشهر الإبقاء على إنتاج المنظمة البالغ نحو 32 مليون برميل في اليوم من دون زيادة، لقناعة المنظمة بأن مستوى الإنتاج الحالي يكفي لتلبية الطلب على النفط في الربع الأول من هذا العام، وبهذا القرار أثبتت إمبراطورية النفط استقلالية قراراتها التي تحدد مصيرها، وتفرض إرادتها في سوق النفط الدولية، على رغم الضغوط المتوالية عليها لرفع إنتاجها خصوصاً من وكالة الطاقة الدولية التي ترعى مصالح الدول الصناعية وفي مقدمها الولاياتالمتحدة اكبر مستهلك للنفط على المستوى العالمي. وإذا كان رفع إنتاج الأوبك في اجتماع المنظمة في فيينا في الخامس من آذار مارس المقبل قد يكون مطروحاً على المؤتمرين، فإن ذلك الرفع للإنتاج إذا أقدمت عليه الأوبك على رغم تراجع سعر النفط الى ما دون 90 دولاراً والمخاوف من ضعف الطلب الأميركي على النفط في الغالب لن يؤثر في الأسعار صعوداً أو هبوطاً إلى حد كبير! والسبب واضح، انه حال عدم اليقين التي تعيشها سوق النفط الدولية في ظل الظروف والعوامل التي يعيشها عالم مضطرب تسوده الحروب والكوارث الاقتصادية كحالة الرهن العقاري الأميركي ودخول اكبر اقتصاد في العالم الذي إجمالي ناتجه المحلي نحو 14 تريليون دولار في حالة من الكساد، ولان اقتصاداً بهذا الحجم لا بد من أن تمتد وشائجه في كل الاتجاهات، فإن أي مرض يصيبه سيؤثر سلباً في معظم الاقتصادات في العالم، وإذا تعافى بث فيها العافية معه! وخلاصة الأمر انه على رغم انتهاء حقبة عصر النفط الرخيص الذي عرف في الخمسينات والستينات وأواسط الثمانينات في أواخر قرن النفط المنصرم، وعلى رغم بلوغه أحياناً 100 دولار إلا ان الدول المنتجة في واقع الأمر لم تحصل إلا على الفتات من عوائده للأسباب التي أوردنا بعضها، بل ان الدول ومواطنيها تعرضوا ويتعرضون لموجة كاسحة من التضخم نتيجة التدهور المستمر في سعر العملة الأميركية التي يسعر بها، وبلغت خسائر دول المجلس المرتبطة عملتها بالدولار وحدها العام المنصرم نحو 70 بليون دولار نتيجة الارتباط بالعملة الأميركية. ومع هذا لن يستطيع النفط وحده مهما ارتفع سعره تجنيب الدول المنتجة عواقب التضخم ومحو اثر تدهور عملة النفط، ولكنا نقول انه قد حان الوقت لتقف الدول وتضع الأسس والخطط والاستراتيجيات للدفاع عن مصالحها ومصالح مواطنيها وفي مقدم ذلك تبني الأوبك لسلة عملات والنظر في فك ارتباط عملاتها بالدولار أو عدم تقويم عملاتها لوقف هذا النزيف الاقتصادي المميت. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية