تجتاح الدول العربية موجة تضخم عارمة تركت أثرها البالغ على مداخيل الدول وعلى أسعار السلع مما جعل مواطني تلك الدول يعانون من ارتفاع الأسعار على مدى الثلاث سنوات الماضية حيث يمكن القول إن الزيادات في أسعار السلع تجاوبت بشكل مستمر مع انخفاض سعر صرف الدولار الأميركي الذي ترتبط به للأسف العملات العربية. ولا يعني هذا أن الوطن العربي هو الوحيد الذي يتجرع هذه الكأس، فالعالم من أقصاه إلى أقصاه يعاني من آثار التضخم السالبة، اذ لم تفلت دولة واحدة من براثن هذا الداء العضال، وفي مقدمها الدول الصناعية على رغم تباين النظم الاقتصادية التي تنتهجها. اذاً اصبح التضخم علامة بارزة اليوم على المستوى الدولي، ويمثل مشكلة رئيسية وإن كانت نسبته تتفاوت بين دولة وأخرى من دول العالم، مما جعله يصبح لصيقا بالحياة الاقتصادية للدول، مؤثراً على صادراتها وإيراداتها وملحقا الضرر بالمؤسسات والجماعات والأفراد. ودول مجلس التعاون الخليجي جزء من هذا العالم وتعتمد موازناتها على إيرادات النفط بنسب تتراوح ما بين 75 و95 في المئة وقفزت اسعار النفط في الفترة بين عام 2000 و2007 من حوالي 27 دولارا للبرميل حتى دقت عتبة المئة دولار، فامتلأت خزائن هذه الدول، خصوصا السعودية والامارات وقطر والكويت وعمان، بالدولارات الأميركية. وجاءت الفوائض في الموازنات بأرقام فلكية بعد أن تضاعفت القيم التي قدرت على أساسها الموازنات. فمثلاً إذا كانت بعض الدول قدرت موازناتها على أساس أن متوسط سعر البرميل في حدود 30 دولارا فإن الفرق يتضح عندما يقفز السعر إلى 100 دولار، وقبل هذا وعلى مدى أكثر من ثلاث سنوات كان السعر مستمرا في الارتفاع حتى بلغ هذا الرقم التاريخي الأخير قبل أن يأخذ المسيرة نحو النزول التدريجي. لكن على الجانب الآخر فإن النفط صاحب الأيادي البيض الذي نقل الدول المنتجة له من زمن العوز والفقر إلى عصر الغنى والثروة، يسعر بالعملة الأميركية التي هوت إلى القاع مقارنة بالعملات الرئيسة حتى أنها سجلت تراجعا مخيفا أمام الجنيه الاسترليني والفرنك السويسري والين الياباني واليورو وغيرها من العملات. وهذا الدرك الذي بلغته هذه العملة الأميركية هو الأول في تاريخها وبعد أن كانت هذه العملة عزيزة تملأها العافية وتدل على مثيلاتها من العملات أصبحت تشكو الهزال وسوء الحال حتى أننا يمكن ان نطلق عليها بلا حرج العملة المريضة. وهذه الحال جعلت منظمة اوبك في حيرة من أمرها أمام هذا الشبح الدولار الذي تحول إلى حمل وديع أمام العملات الأخرى يتلقى الصفعات من كل جانب وينتظر الضربة القاضية. وآخر اللكمات الموجعة والتي لن تكون الأخيرة هي أزمة الرهن العقاري في بلاد العم سام التي جعلت رؤوس معظم البنوك الأميركية تنحني بضعف أمام خسارتها التي بلغت 280 بليون دولار! ان التضخم الذي أخذت حدته تزداد سنة بعد أخرى مهدداً اقتصادات العالم بأزمة كبرى قد لا تختلف كثيرا عن أزمة بداية الثلاثينات من القرن المنصرم، أصبح عقبة اقتصادية رئيسة تعوّق تقدم اقتصادات الدول خصوصا النامية منها والمعتمدة على سلعة واحدة كدول المجلس والمستوردة لكل شيء تقريبا من الإبرة حتى الصاروخ. ان دول مجلس التعاون الخليجية الست تطمح الى عملة واحدة موحدة عام 2010 وهو أمل طيب وحلم جميل ولكن نخشى أن لا يتحقق. فالعوائق التي تواجهه كثيرة وبعضها للأسف من الداخل أي من بعض دوله. هذه الدول نالها نصيبها من آفة التضخم حتى بلغت نسبته في بعضها حوالي 10 في المئة وهذا أمر خطير لدول تسيطر على حوالي 465 بليون برميل من احتياطي النفط المؤكد عالميا وتضاعفت إيراداتها من النفط وتحرص على رفاه شعوبها، لكن هذا الرفاه تقف في وجهه الى حد كبير مذبحة العملة الأميركية التي يسعر بها نفط دول اوبك، ومنها دول مجلس التعاون، وبذلك انطبق عليها التعريف المبسط للتضخم: نقود كثيرة تطارد سلعا قليلة. فالارتفاع في الأسعار الذي استمر لفترة السنوات الثلاث الماضية ونتيجته الحتمية، أي فائض الطلب على قدرة العرض، أثقل كاهل الدول وهدد مستوى معيشة المواطنين على حد سواء. صحيح أن سعر النفط تضاعف إذا أخذنا مقياس السعر لهذه السلعة السحرية في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن المنصرم عندما كان يدور بين 39 و40 دولارا لكن لو أخضعنا السعر اليوم ما بين 90 و96 دولارا للتحليل الاحصائي أمام الانحدار المخيف للعملة الأميركية سنجد ان ما تحصل عليه الدول المنتجة للنفط يقل عن القيمة الحقيقية التي كانت تحصل عليها عندما كان السعر بحدود 40 دولارا، وكان الدولار في قمة مجده أمام العملات الرئيسية. وفي المقابل فإن السلع التي تضاعفت أسعارها بشكل كبير هي السلع التي تستوردها دول اوبك، أما القيمة الحقيقية لأسعار نفوطها أمام وضع الدولار والتضخم فإنها ما زالت تراوح مكانها. إن التضخم الذي شهدته وتشهده دول مجلس التعاون والدول العربية ومؤداه ارتفاع مستوى الأسعار، ليس ظاهرة وقتية لنقص طارئ مثلا في محاصيل محددة، ولكنه اخذ يتسلل إلى جسم الاقتصادات الوطنية منذ فترة طويلة ويتزايد ويستشري حتى امتد أثره الى كل جوانب الحياة. ان الدول لا تستهين أبدا بالتضخم لأنها تعرف أثره الخطير على نموها الاقتصادي وعلى حياة الناس، وكذلك فإن الدول تسارع لحل هذه المعضلة ومن ذلك أن بعض الدول لجأ لكبح جماح التضخم الشرس إلى رفع مرتبات العاملين والموظفين وأجورهم في القطاع العام والشركات التي تملك الدول حصصا فيها، لكن هذه الإجراءات تثقل كاهل موازنات الدول التي تنتج سلعة واحدة كالنفط، فماذا ستفعل اذا تدنى سعره؟ ثم انه كلما رفعت الدول رواتب الموظفين كلما زادت الأسعار بشكل صاروخي وبالتالي زادت نسبة التضخم! كما ان سياسات الإنفاق العام التي انتهجتها دول المجلس مع زيادة إيراداتها من النفط وتسرب السيولة بشكل غير مسبوق الى النظام المصرفي، إضافة الى ارتفاع الأجور والمرتبات، ساهمت بشكل واضح في دفع موجات التضخم المتتالية، وهذا يترك أثره على النمو الاقتصادي ويرفع من تكلفة المشاريع ويزيد أسعار السلع المستوردة. وعلى الجانب الآخر فإن الدول ليس بإمكانها - مهما كانت قوة وفاعلية رقاباتها - محاصرة المتلاعبين في الأسعار في الأسواق خصوصا أنها تطبق نظام الاقتصاد الحر، وبذا تبقى المشكلة في جوهرها الأصلي قائمة إلى حد كبير، ويطل التضخم برأسه بكل أنواعه المختلفة، وباختصار عجز النقود عن أداء وظائفها بشكل تام. ويبدو لي ان من المهم التكيف السريع مع أسواق صرف العملات الدولية، مع استمرار تدهور العملة التي يسعر بها النفط، والاتجاه نحو غاية مهمة تتمثل في العمل على رفع سعر عملات دول المجلس وإعادة تقييمها أمام الدولار الاميركي، فالعملات الخليجية من دون شك هي اقل من قيمتها في سوق العملات الدولية بسبب ارتباطها بالدولار، ورغم هذا الارتباط بلغ سعر الطلب أخيرا على الريال السعودي 3.6900 ريال للدولار، 3.6250 ريال قطري للدولار، وارتفع أيضا الدرهم الاماراتي إلى 3.6600 مقابل الدولار. والجدير بالتنويه ان السعودية ولكبح جماح التضخم في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم قامت برفع قيمة عملتها بالنسبة للدولار من 3.766 ريال للدولار عام 1973 ليصبح 3.517 ريال للدولار عام 1975 ، فتدنى التضخم الى 3.6 في المئة عام 1980 ثم عاد التضخم ليرفع رأسه من جديد ليبلغ عام 1991 4.70 في المئة نتيجة أسباب منها زيادة وتيرة الإنفاق الحكومي مع تحسن أسعار النفط وانتهاء معركة تحرير الكويت، وحسب المعدلات التي تنشرها جهات الاختصاص ومنها مصلحة الاحصاءات العامة في السعودية فإن التضخم في هذا العام بلغت نسبته 3.6 في المئة. إن الزواج بين الدولار وعملات دول الخليج والذي يبدو انه أصبح زواجا تعيسا يمكن"خلعه"إما برفع سعر العملات، أو بربطها بعملة أخرى كاليورو أو بسلة عملات كاليورو والين والدولار حتى تبزغ شمس الاتحاد النقدي المنتظر وهذه مسؤولية الجهات الاقتصادية والنقدية والبنوك المركزية في دول المجلس التي قبلت عن طيب خاطر - ما عدا الكويت التي خرجت أخيرا لتغرد خارج السرب لمصلحتها - ان تثبت سعر صرف عملاتها وعدم تركها تسبح بحرية في سوق نقدية دولية البقاء فيها للأصلح. ان منظمة اوبك إذا لم تفعل ما قلناه، خصوصا دول المجلس ذات الاقتصادات القوية التي تدعم عملاتها، فإن الضرر سيلحق اقتصاداتها ويمتد أثره إلى مواطنيها، وسيبقى شبح الأثر السلبي لمرض الدولار أو بالأحرى موته السريري يلاحق عملات دول اوبك ومنها بالطبع دول المجلس. وعلى كل حال فإن جهات الاقتصاد والنقود بحصافتها المعهودة قادرة على ان تنهض للتعامل مع مشكلة التضخم والدولار الرديء، وهذه المعادلة تحتاج الى قرار مناسب في الوقت المناسب ليتم اتخاذ إجراءات حاسمة للوقوف في وجه التضخم وتدهور سعر الدولار، ومن هذه الاجراءات رفع سعر العملة، أو ربطها بسلة عملات، تبني سياسات لخفض الانفاق الحكومي، دعم بعض السلع الضرورية خصوصا الرئيسة منها مع حماية المستهلكين من تلاعب الجشعين من التجار بالأسعار، وتدخل البنوك المركزية لكبح شهية المصارف في ميدان منح القروض، وهذه الأساليب وربما مع غيرها قادرة بإذن الله على احتواء التضخم! لقد حان الوقت لنتخذ إجراءات حاسمة تحد من أضرار تدهور الدولار وقفزات معدلات التضخم حتى لا تقع العملات والاقتصادات والسلع التي يسعر بها النفط بين مطرقة التضخم وسندان الدولار. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية