وسط رياح أزمة الرهن العقاري التي هبت على الاقتصاد الأميركي، قرر مجلس الاحتياطي الاتحادي خفض الفائدة على الدولار نصف نقطة مئوية، ليبدأ الدولار مسيرته السريعة نحو الانخفاض أمام العملات الرئيسية، بعد ان كان يتمتع بهدنة رفع الفائدة التي أبقته متماسكاً وإن كان يتكئ على قدم واحدة منذ فترة طويلة يصارع الموت البطيء، ليبقى ضمن منظومة سوق العملات الدولية. الدولار بدأ ينحدر نحو الهاوية منذ أكثر من عقدين من الزمن، وأصبحت العملة الأميركية في وضع لا تحسد عليه، أمام نيات بنك الاحتياطي على ما يبدو للمضي قدماً لخفض قيمة الدولار امام العملات الدولية، خصوصاً اليوان الصيني، لتقليص العجز في الميزان التجاري مع الصين، الذي بلغ أكثر من 140 بليون دولار في نهاية تموز يوليو من هذا العام. أميركا صاحبة اكبر اقتصاد على المستوى الدولي وأضخم موازنة عرفها التاريخ الإنساني، هي نفسها أميركا اكبر دولة مدينة في العالم، عملتها تواجهها تحديات ومشكلات واضطرابات قد تكون نتيجتها الحتمية في نهاية المطاف، زحزحة الدولار صاحب الشهرة العالمية والقوة المستمدة من قوة بلاده على مدى عقود طويلة من الزمن، من مقدم العملات الدولية. اذا تتبعنا مسيرة الدولار، نجد انه بعد ان كان مرتبطاً بقاعدة الذهب عدل عن ربطه بمعيار الذهب أيام ادارة الرئيس نيكسون في غمار الحرب الفيتنامية التي ألحقت الضرر بالاقتصاد الأميركي والعملة الأميركية، بل والقوة الأميركية العسكرية. فبعد قرار الولاياتالمتحدة الأميركية ايقاف ربط الدولار بالذهب في شهر آب أغسطس 1971 انخفضت قيمة الدولار تجاه العملات الرئيسية الأخرى، ثم اتبعت الحكومة الأميركية ذلك بقرار آخر أصدرته في شهر ديسمبر كانون الأول من العام نفسه يقضي بخفض المحتوى الذهبي للدولار بنسبة 7.89 في المئة ليصبح 512 / 818 ملغم من الذهب الخالص. وما ان فك ارتباط الدولار بمعيار الذهب حتى أخذت أسعار الذهب في الصعود التدريجي، لتتخطى حاجز ال750 دولاراً للأونصة مع احتلال الاتحاد السوفياتي السابق لأفغانستان، ولامس سعر الأونصة 800 دولار في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، ووسط حال عدم اليقين من حال الاقتصاد الأميركي والعملة الأميركية، بلغ سعر أوقية الذهب ما بين 730 و 740 دولاراً، وهو أعلى سعر يبلغه منذ كانون الثاني يناير 1980. اليوم الدولار الذي كان العالم مدمناً عليه يحفر قبره، وتوالت عليه الضربات من كل جانب: أزمة الرهن العقاري، عدم التوازن في الاقتصاد الأميركي الذي يقود اقتصادات العالم، ثقل الديون على الاقتصاد الأميركي، حروب الرئيس بوش على افغانستان والعراق والتدخل في شؤون الصومال وتضخم موازنة الحرب الأميركية التي لامست 700 بليون دولار، بروز اقتصادات ضخمة مثل الصين وأوروبا والهند، أسعار النفط والطاقة عموماً. اذاً تجمعت العوامل الرئيسية للضغط على الاقتصاد الأميركي والعملة الأميركية فخلقت حالاً من عدم التوازن في هذا الاقتصاد قد تمتد الى اقتصادات دول أخرى وربما الاقتصاد العالمي برمته، بل ان العالم وبسبب التحديات التي يواجهها الاقتصاد الأميركي قد يشهد أزمة اقتصادية لا تقل بشاعة عن حال الهلع الاقتصادية التي شهدها العالم عام 1929. الدول الخليجية التي تربط عملتها بالدولار ما عدا الكويت التي سبق لها ان فكت ارتباط عملتها بهذه العملة الرديئة أبقت على ربط عملتها بالدولار على رغم المذبحة. ويبدو ان دول المجلس ما عدا الكويت ما زالت متمسكة بالدولار، وان كان بعضها أقدم على تنويع احتياطاته بعيداً عن الدولار لخفض إيداعاتهم الضخمة بالدولار الذي يهوي أمام العملات الرئيسية في الشرق والغرب. ولا شك في ان بنك الاحتياطي الأميركي يعتبر السقوط في مصلحته ومصلحة الصادرات الأميركية، وضد مصالح المدينين، الذين يرون استثماراتهم تتآكل مع تدهور العملة الأميركية، ما يجعلهم في موقف حرج، قد يمنعهم من المضي قدماً في ضخ أموالهم في عملة دولة تعتبر المدين الأكبر في العالم وقيمة عملتها تنحدر يوماً بعد يوم. وحتى عام 2010 وهو الموعد المضروب لتدشين العملة الخليجية الموحدة، فإن العملات الخليجية، ماعدا الكويت، إذا استمر ربطها بالدولار، فإنها ستعاني كثيراً، وإذا ما تأخر إطلاق العملة الموحدة عن ذلك التاريخ، والتي من أهدافها دعم التكامل الاقتصادي بين دول المجلس، فقد تزيد الأضرار بالعملات الخليجية أمام العملات الرئيسية بل ان التأثير سيلحق بالنمو الاقتصادي لتلك الدول. والتأخير في اعتماد العملة الخليجية لما بعد عام 2010 نشم رائحته من تصريحات بعض المسؤولين في دول المجلس، وآخرها ما قاله وزير المال القطري يوسف كمال بتاريخ 24 أيلول سبتمبر الماضي:"العملة الخليجية الموحدة لن تتحقق بحسب الجدول الزمني المرسوم لها بحسب اعتقادي"، مضيفاً ان"هناك دولاً لها وجهات نظر مختلفة من هذا الاستحقاق". واذا كانت دول المجلس التي تربط عملتها بالدولار لم تقتد بالقرار الأميركي لخفض الفائدة، الذي يبدو انه لن يكون الأخير في خضم اشتداد أزمة الرهن العقاري والضغوط على الاقتصاد الأميركي، فإن هذا الاحجام من الدول الخمس الأعضاء في المجلس عن خفض أسعار الفائدة على عملاتها أمر محمود ومشجع يدفع الرساميل الأجنبية للاستثمار في دول المجلس وعدم هرب بعض المدخرات الى عملات أخرى والى المعادن الثمينة. لكن في المقابل، فإن لرفع سعر صرف العملات بعض الايجابيات وبعض السلبيات، فمن منافع رفع قيمة الصرف ان بعض السلع التي يستوردها القطاعان العام والخاص من الولاياتالمتحدة الأميركية خصوصاً والاتحاد الأوروبي وآسيا عموماً ستنخفض أسعارها، وهذا بدوره سيؤدي إلى خفض التضخم الذي بدا واضحاً في دول المجلس مع ارتفاع أسعار النفط، ومنها السعودية التي تشهد حالياً ضخ كميات كبيرة من المال في عروق الاقتصاد بشكل أكثر مما كانت عليه الحال خلال السنوات الثلاث الماضية، ناهيك عن ان أسعار النفط الذي يمثل ما بين 75 و95 في المئة من صادرات دول المجلس ستقل تقلباتها. ويمتد الأثر الايجابي لرفع سعر صرف العملات الى زيادة قيمة أصول وعوائد الشركات الأجنبية في دول المجلس وخفض حجم ديونها بالدولار، اضافة الى خفض حجم الديون الحكومية مع الخارج بالدولار، ومع البنوك المحلية والأجنبية في الداخل المسجلة بالدولار. وإذا كانت تلك بعض ايجابيات رفع سعر صرف العملات في دول المجلس أو فك ارتباطها بالدولار، فإن هناك مساوئ لرفع سعرها، فهناك خسارة تتحقق، منها انخفاض قيمة الاحتياطات النقدية التي تحتفظ بها الدول مقدرة بعملتها في الخارج، وانخفاض قيمة الأصول التي يمتلكها المستثمرون المقدرة قيمتها بالعملات المحلية كالريال السعودي والقطري والعماني والدينار البحريني والدرهم الإماراتي في الخارج أيضاً، وهذا قد يحد من عودة الاستثمارات المهاجرة إلى استثمارها في الاقتصادات المحلية. وفي كل الأحوال فإن بعض البنوك المركزية في دول المجلس بدأت مسيرة الألف ميل بخطوة، إذ أخذت تنوع احتياطيات عملاتها بعيداً عن عباءة الدولار، بل ان الكويت اتخذت الخطوة الأصعب والاهم بفك ارتباط عملتها بالدولار. وعلى الجانب النفطي، فان"الأوبك"في اجتماع القمة الثالثة المقبل في العاصمة السعودية الرياض في تشرين الثاني نوفمبر المقبل لن تغيّب انخفاض قيمة الدولار الذي اثر في مداخيل الدول المنتجة للنفط عن جدول أعمال القمة، على رغم ان زيادة أسعار النفط لتعويض انخفاض قيمة الدولار، لن تكون واردة مع ارتفاع أسعاره الحالية، والأخذ في الحسبان ان زيادة أسعار النفط الى مستوى يفوق 65 دولاراً ليست من مصلحة"الأوبك"، لأنها قد تحد من نمو الاقتصاد العالمي وتسبب ركوداً للاقتصاد، وتشجع على استغلال الحقول النفطية التي كانت عالية الكلفة وزيادة التنقيب والاستكشاف ما يضر بالمنظمة. وعلى رغم ما يقال وملأ الغمام حول الخلافات بشأن العملة الموحدة، فإنها تبدو الخيار الوحيد، أو كما يقال عصا موسى لتتكئ عليها دول المجلس وحتى ذلك التاريخ المحدد لانطلاقها والذي قد يتم تأجيله، فإن الارتباط الحصري بالدولار سيترك آثاره السلبية حتى يتحقق قرار دول المجلس بشأن العملة الموحدة وربطها بسلة عملات تحفظ التوازن في سعر الصرف، فعند انخفاض إحدى العملات فإن عملة أخرى قد تحقق ارتفاعاً، الأمر الذي يحافظ على ثبات سعر الصرف وقوته الى حد كبير. ويبقى القول ان العملة الأميركية تسير نحو السقوط بعد مرض عضال طال أمده، وبالأمس كان الحديث عن سقوطها ضرباً من الخيال، واليوم أصبح ترجلها عن صدارة العملات الدولية في حكم اليقين، بل ان سقوطها الذي سيحدث دوياً كبيراً لسوق العملات الدولية والاقتصاد العالمي أصبح ممكناً، وهذا ما يجب على دول المجلس وأصحاب القرار المصرفي في دوله، بل والدول العربية، التنبه اليه وأخذه في الحسبان استعداداً لامتصاص تأثيراته وانعكاساته السلبية على العملات ورؤوس الأموال والاحتياطيات الضخمة المودعة بالدولار وعلى الاقتصاد والتنمية! * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية.