من ذا الذي يستطيع نسيان خطاب السيد حسن نصر الله إلى اللبنانيين أمسية العاشر من كانون الأول ديسمبر 2006 عندما توجه سماحته إلى المعتصمين حول السرايا الحكومية فخاطب عبرهم قوى السلطة صارخا: أيها القتلة، سننتصر بالدم على سيوفكم؟! ومن ذا الذي أمكنه، أو يمكنه، تجاهل الفحوى الفئوي للعبارة، والمغامرة بوصف هذا التعبير بالسياسيّ؟ وكيف تعامل علمانيو الجنرال ميشال عون مع ذلك التواطؤ التاريخي في الكلمات؟! وإذا توفّر الآن من يستطيع التملص من العوالق المذهبية للعبارة، فإنّ السؤال ? بحدّ ذاته - يستطيع في هذه الساعات التي يكتبها اللبنانيون بدمائهم، أن يشرح على نحو لا يمكن أن يلتبس على أحد، الاختراق العميق للحروف والظلال والمرامي في مرأى ما يحدث، فحسبك كي تغنم استراتيجية التعبير أنّ المطالب السياسية تطلب الفوز اليوم باستشهاديين جلّ ما يملكونه ميلُ نفوسهم وطبائعهم وعوالمهم الفكرية إلى تحقيق المآثر والانتصارات وتحقيق الوعود الإلهية بكل وسيلة، ويكفيك كي تعي العبارة وخبيئها أنّ الأهداف تعلو في تصوراتهم المكتملة الجازمة والنهائية على وجودهم الشخصيّ. للموت عشّاق فعلا، وللتضحية بالروح أنصار ومحرّضون وأعلام لم يندثروا عند أمّة أرضية واحدة، ولم يقابل عاقل واحد صدق ونبل عوالمهم بالتشكيك، فلا مجال لاعتمار قبعة في حضرة الموت، فما بالك بالتعامل المستهتر مع شبّان تستطيع نفوسهم أن تمّحي ببساطة لإنجاز ما يهفون إليه من انتصارات أيا كانت، وكيفما نظرت إليها؟! ولكنّ لبنان في مكان آخر، والصراع السياسي المحتدم حول"مشاركة"! لا يستحقّ في الظاهر أن يُدفع من أجله الشبّان إلى محارق تلتهمهم، وترهب غيرهم، ولا يمكن أن يتفهّم المتابع هذا اللهاث الدمويّ المرهق نحو الثلث الضامن في الحكومة اللبنانية القادمة بوصفه حرصا على البناء كتفا إلى كتف، وتحمّلا للمسؤولية متوازنا ووطنيا. أيعقل أن يتصور فرد لبناني أو كوني، أن بالإمكان الوصول إلى"طيب"المشاركة وإلى "شذى"الإنماء والإعمار يدا بيد بوساطة هذا البؤس المسفوح في الشوارع الحزينة؟ نريد أن نشارككم لا أن نلغيكم! ونريد أن نتعاضد لبناء وطننا لا أن نستأثر بأمره دونكم! ونريد الثلث لنضمن لا لنعطّل!! أيواصلون التحدّث على هذا النحو من اللطف والوطنية الجامعة من جهة، ويواظبون على التهديد والتخوين والتخويف وإحراق الدواليب وقطع الطرقات والتلويح بتكسير الرؤوس من جهة أخرى؟! كيف ينسجم مطلب المشاركة مع رغبة النفي والإلغاء؟؟! لماذا لا يعترفون بالحقيقة فيريحون ويستريحون؟ ما الذي يجبرهم على التلطي خلف دعوى المشاركة البائسة؟ فليقولوا جهارا لا كما يفعلون في الغرف المغلقة، أنّ ثمة ما يستحق الموت، وأنّ ما يقلقهم لا علاقة له بالتوطين، فلا توطين، ولا صلة له باقتصاد البلاد، فلن يدير اقتصاديوهم مال لبنان بطريقة أخرى، ولا رابط بين ما يقضّ مضاجعهم وبين نزع السلاح، فلا أساطيل أمريكا تستطيع، ولا مركبات الجيش اللبناني الذي تعكس تركيبته فئات اللبنانيين جميعا، ستيمم شطر الخنادق والوديان والمغاور والأزقة لتصادر سكينا وصواريخ! لماذا لا يقنعون اللبنانيين والعالم أنّ هواجسهم التي لا يسعها أن تتروى ستة عشر شهرا أخرى فحسب، أعظم بكثير من قلق خصخصة الهاتف الخليويّ! وفزّاعة توطين لا أفق له! فالمدة الفاصلة عن الانتخابات النيابية الجديدة، وعن العودة المظفرة لهم - كما يثابرون على الظنّ - إلى سدة الأكثرية، وعن إعادة الإمساك بالسلطة على هيئة أكثريتهم وأقلية الطرف الآخر، أقصر من باع شاب بريء واحد سقط ظلما في شوارع بيروت يوم السابع والعشرين من كانون الثاني يناير المفرط في حزنه، ألا يستحق الاستشهاديون أن نكافئهم قبل استشهادهم بمنع الأذى عنهم وتجنيبهم وعائلاتهم موتا عبثيا أليما؟ فليبوحوا بهواجسهم من المحكمة الخاصة بلبنان، وليقنعوا اللبنانيين أن تجنيب القتلة كأس العدالة ضروري هذه المرة، ما يدريهم، لعلّ ذوي الشهداء الذين سقطوا وشهرت المحكمة سيفها ضد قتلتهم، يملكون من الجرأة والحكمة ما يجعلهم يعزفون عن المطالبة بالعدالة نظير إبعاد كؤوس الردى التي تنتظر البلاد والعباد حال مضي المحكمة في طريقها، فليقنعوا أولياء الدم بوجوب طي صفحة الجريمة والعدالة، والانطلاق إلى مستقبل مختلف جديد. إنّ غدا مشرقا لا دم فيه لهو إغراء عظيم، لا يكاد يشبهه إغراء، للتنازل عن حقوق يمكن للزمن النظيف وحده أن يبتلعها ويبلسم جروحها، فمن قال في حضرة صندوق صغير ضمّ ما تبقى من جثمان نجله: فلندفن الأحقاد مع جبران، لن يضنّ على لبنان الذي يشخص فيه وفي عائلته، بالتنازل عن حقّ إقامة العدل، إن استطاع هؤلاء إقناعه أن دما جديدا لن يهرق. أمّا إذا لم يفعلوا، فإنّ اللبنانيين سيمسكون بأسنانهم محكمتهم "المخيفة"هذه، بوصفها عدالة تواجه هلع أعدائها"وهو هلع يؤكد كل لحظة أنّ إيديولوجيا الذين يعانون منه، ويقض مضجعهم، ويملأون في ظلاله الدنيا توترا وموتورية، ليست إلاّ فكرا مؤسسا على مشروعية الإلغاء البدنيّ عندما يتعذّر الإلغاء السياسيّ! فليقولوا - ولا أظنهم فاعلين - إنهم لم يتوقعوا أن يخرج اللبنانيون غاضبين إلى الشوارع في الرابع عشر من آذار ليطالبوا بالدولة والحرية والسيادة وانكفاء الوصاية داخل حدودها! وأنّهم استبعدوا عندما جرى اتخاذ القرار، وتمّ له التخطيط، وبدأ التنفيذ، أن تفضي مشاعر الناس الجيّاشة لتفجّر اللحم الحيّ بطنين من المتفجرات إلى تطورات دراماتيكية يمكنها أن تتجاوز حدود تقديراتهم وبحوثهم المعمّقة. فقد خرج العرّاب إلى داخل حدوده، وظهرت معالم انسلال خارج عباءته، وأخذ الناس يرطنون بلغات ولهجات جديدة تماما، ويستخدمون أحلاما أخرى، ويقفزون إلى مراكب جديدة، وييمّمون وجهات لم تطأها أقدامهم من قبل، ونجح اللبناني في اكتساح ثلوج المقاومة واستخراج خبيئها الصامت النزيل في الظلام منذ ما يزيد عن ألف سنة، وفكّ هذا اللبناني المفتون بالفكرة والفرصة، طلاسم الرقيم المدفون تحت الشعار والصراخ والتهديد والتخوين والشحن وامتقاع السحنات وتحنّط القلوب التي اعتادت توفيز شرايينها بالمظلومية، واستدرار العطف بالمظلومية، واجترار اليوم والغد بالمظلومية، وكنس الحلم والفكر والأوطان والسياسة والعيش بالمظلومية! ورفعَ اللبناني بيد من حديد أطنان أتربة التاريخ، ليصطدم بالماضي وقد تدثّر بعباءة إسرائيلية صالحة للبيع والشراء والصفقة والمصافقة، عباءة صفيقة يعرفها اللبنانيون والسوريون والشرق أوسطيون قابلة للاصطباغ بألوان شتّى، لم يرحم مَن ارتداها وقامر بها وباع واشترى، شيبا يريدون الموت بسلام، ولم يأبه من ائتزر بها لدموع الشبان الذين تطمح مهجهم إلى العيش المديد بكرامة وصحّة وتوهّج"ولا يجدون إلا اليأس والتيئيس والجدران السامقة. وإسرائيل معطف لدن ومبرقش وملوّن بألوان خاطفة، يسهل ارتداؤه، ويصعب خلعه، ويمكن الاتجار به في كل محفل عربي بائس من هذه المحافل التي تستطيع خطبة، ولا تستطيع شقّ طريق، وتستطيع إطلاق الشعارات الشعبوية الخلابة، وتعجز عن صناعة قلم!! فليقولوا أنّهم استخدموا جيشا خبيرا ليلجم اللبنانيّ عن أحلامه، ويكبّل ذراعه عن الفعل والتفكير والاستقلال والتكوّن، وأنّ العسكر أرادوا، وخططوا، وفعلوا وأوغلوا في الفعل، كما اعتادوا، وداخل أسوار مملكة المستنقعات الرطبة، وأنّهم لم يحققوا النتائج ذاتها، فبطولاتهم في الإسكات واللجم والتسطيح والتشويه ونجاحاتهم المؤقتة هناك، ارتطمت بكائنات أعجل، وأعند مراسا هنا، كائنات فجّر مخزون قهرها اغتيال رجل أيضا. وما إن لوّحت الجموع المفجوعة بإمكانية انتصار العدالة على السيف، حتى صرخ السيّد: أيها القتلة، سننتصر بالدم على سيوفكم، في انقلاب مرير على الماضي، وانقضاض يائس على حاضر يرسم بوداعة هياكل المستقبل. * كاتب سوري