خلال العقود الثلاثة المنصرمة تعددت أهداف الاغتيال السياسي في لبنان، وكان من بين الذين طالهم، مسؤولون حكوميون ورجال دين ومفكرون وقادة أحزاب، مثلما تنوعت أدواته من السيارات المفخخة، إلىعمليات التلغيم، إلى إطلاق النار بمسدسات كاتمة للصوت، لكن نادراً ما تم الكشف عن القتلة الحقيقيين، وغالباً ما جرى تحميل إسرائيل المسؤولية. واللافت أن الاغتيالات في لبنان لم تكن عشوائية بل عمليات مدروسة تسعى للنيل من شخصيات امتلكت قدرة على الفعل والتأثير ولاسيما في المجالين السياسي والفكري، بما يعنيه ذلك من رهان على أن النيل من هذا الرمز أو ذاك، وملاحقة الخصوم السياسيين وتصفيتهم أو إسكاتهم، يمكن أن يحدث تبدلات في الرأي العام وفي الاصطفافات لصالح الطرف الذي يقوم بالاغتيال. وبالتالي فالذين مارسوا هذا النمط من القتل أرادوا إضافة إلى تصفية أحد خصومهم وإزاحته من المشهد السياسي توجيه أكثر من رسالة وأولها بث الرعب والخوف في المجتمع وإظهار أن يد الإجرام هي اليد الطولى، ويمكنها أن تصل إلى أي كان. لكن إذ نجحت بعض عمليات الاغتيال في تحقيق هذا الغرض فلفترة قصيرة ومؤقتة حيث تبين التجربة التاريخية، إن مثل هذه الرسالة عادت بالضرر على مرسليها وانعكست بنتائج على الضد مما استهدفوه، لتزيد من عزم المؤيدين والمناصرين للضحية ومشروعها وتزيد من تصميم أوساط الرأي العام الرافضة لهذا الشكل من الصراع السياسي. فحين تكون وظيفة الاغتيال هي اختصار الطريق بإنزال حكم الموت على من أضحى وجوده عقبة أمام سياسات معينة، فغالباً ما يفشل في تحقيق أهدافه النهائية وإن بدت الصورة لوهلة وكأنها توحي بعكس ذلك، فردود الفعل والتداعيات الناجمة عن اغتيال شخصية ما هي عصية على الحسابات، مهما بلغت عملية الاغتيال من إتقان. واللافت أن الاغتيالات الأخيرة في لبنان لم تؤد إلى نهايات تتوافق مع مصالح من يرجح أنهم مرتكبوها، ولم تمنع استمرار تحرك اللبنانيين بحثاً عن شروط أفضل لحياتهم، بل كانت حافزاً لهم في هذا الاتجاه. فمن كان يتوقع أن تكون ردة فعل الشارع اللبناني بهذه السعة والقوة فور اغتيال رفيق الحريري، ومن كان يتوقع استمرار التعاطف الشعبي مع الضحايا وسياساتهم بعد الاغتيالات المتكررة التي جرت، والذي بلا شك لا يزال يفاجىء الجميع في سويته ويفضى إلى إفشال ما تم تبييته من أهداف. وإذ تعني ظواهر العنف والقتل أول ما تعنيه انحطاط السياسية والاستهانة بدور السلطة العمومية والدولة ومؤسساتها، فإنها تظهر عملياً كتعبير عن عجز الطرف الذي قام به عن إقناع الآخرين بما يملك من وجهة نظر، متوهماً إن تغييب الآخر هو أكبر انتصار له، كاشفاً عن نزعة لا إنسانية متأصلة لا قيمة عندها لحياة البشر، وهمها الرئيس إطلاق مشاعر الثأر والروح العدائية والمزيد من النعرات والانقسامات، في مواجهة ما تقتضيه مصلحة الناس التي يدعي الجميع حمل لوائها، خاصة لجهة الحرص على عدم تأجيج الانقسامات ونار الفتنة، وليس صدفة أن يجمع كل ذوي الذين فجعوا بهذه الجرائم في لبنان، على عبارات تدعو إلى التهدئة وترفض الفتنة أو الاقتتال، وهو ما يجب أن يحافظ عليه ويشدد علية في مواجهة كل الأصوات التي تخرج عن هذا الموقف. ويبقى المستفيد الأول من الاغتيال، هم أعداء الحرية، ومدمنو الإلغاء والإقصاء، ليس لأن إصدار قرار إعدام من دون تهمة أو محاكمة يعادي أبسط حقوق الإنسان، وإنما أيضاً لأن هذا النوع من التصفيات السياسية يكثر بالفعل ويزداد طرداً مع ضعف الديموقراطية أو غيابها وانسداد أفقها. ولأن أكثر من يمارسه هي القوى التي تغولت بدمويتها وفسادها عميقاً، وفي مقدمتها قوى أصابها العمى الإيديولوجي وتحبذ العنف وربما تمجده ما دامت تدعي ملكيتها للحقيقة المطلقة ولا يستحق من يخالفها العيش والحياة!. وهنا من الخطأ إخراج المحرضين من دائرة المسؤولية، فنجاح عملية الاغتيال السياسي تتوقف ليس فقط على اجتماع شروط التحضير بل على الأجواء الكفيلة بتمريره بأقل ردود أفعال تذكر، ونقصد الخطاب التحريضي التعبوي. فليست اتهامات التخوين والتكفير إلا المقدمة للإرهاب الجسدي والمادي والتصفيات، وعندما تسود مثل هذه المناخات لا يمكنك أن تسأل ما الذي يمنع شاباً متطرفاً دينياً مثلاً من قتل شخص يقول عنه زعماء دينيون بأنه كافر وخارج عن الملة، أو لماذا لا يرف له جفن ذاك القاتل الذي تأسره التعبئة الوطنية وهو يفتك بدم بارد بمن يتهم بالخيانة والعمالة للاستعمار والصهيونية!. إن أهم ما يجب اتخاذه ضد الاغتيال السياسي ليس فقط استنكار الجريمة والدعوة لمحاسبة الفاعلين وإنما أساساً إعلان موقف مبدئي وحازم ضد هذا النهج في إدارة الصراع السياسي وضد كل محاولات الإقصاء والشحن والاستفزاز، وأساساً نشر ثقافة تقول دون تهاون أن الأعلى والأنبل في دنيانا هو الكائن الإنساني بما هو روح وجسد، وتقول أيضاً أن التعددية والتباين أمر مشروع وطبيعي وإن الخلافات والصراعات يجب أن تحسم بالحوار والتوافق واللجوء إلى الآليات الديموقراطية و تحكيم مؤسسات الدولة والرأي العام. وما يعيشه لبنان اليوم هو وضع شاذ وغير مقبول يتطلب من الجميع وبغض النظر عن مواقفهم وانتماءاتهم السياسية التعامل معه بجدية وصرامة، واضعاً على عاتقهم واجب تحمل المسؤولية واتخاذ قرارات جريئة لمعالجته، وخاصة لجهة التعاطي الايجابي مع روح الحوار لتجاوز ما يسمى عقدة الاغتيالات، والأهم بلورة خطاب موضوعي يفتح الباب واسعاً للتوافق والتشارك وينمي الاستعداد لتقديم التنازلات المتبادلة تجاه مشكلة الحكم والوزارة ورئاسة الجمهورية على قاعدة حاجة إصلاحية ديمقراطية متعددة المستويات سياسياً واقتصادياً بات يلح عليها المجتمع اللبناني ولنجاحها لا بد أن تشارك في إنجازها كل القطاعات الحية في الدولة والمجتمع. وإذا كان من الطبيعي أن تضع مختلف الأطراف اللبنانية أهدافاً وسياسات خاصة ومن حقها السعي وراء أهدافها، لكن عليها الحذر كل الحذر من توتير الأجواء لتمرير سياساتها أو الإخلال بقواعد الصراع الديموقراطي، فالنيران التي قد تؤججها ربما تستعر وتجر البلاد إلى أتون حرب أهلية ستحرق الأخضر واليابس، وعندها يصعب أن تبحث بين الرماد والأنقاض عن خاسر ورابح. * كاتب سوري.