اثناء محاكمته، نودي صدام حسين بال "مواطن". لكنه لم يحاكم بصفته"مواطنا"، بل كأنه زعيم لطائفة سنية وعرق عربي أجرم بحق الاكراد والشيعة. ولصدام نفسه دور اساسي بقيام هذه الثغرة، بصفته نكّل تحديداً بهاتين الجماعتين، فأوجد قواعد الانقسام الاهلي التالي على عهده. لكن المحكمة ما كان يجب ان تنجرّ الى هذا التخصيص. فضحايا صدام حسين ليسوا فقط من الاكراد والشيعة: صدام قتل، او امر بقتل، او مرّر لأجهزته قتل... مواطنين سنة، تركمان، كلدانيين، سريان... محاكمة صدام حسين لم تكن مكتملة الأوجه: حوّلت صدام الى"طرف سني"ذي ثقل، وحوّلت محاكمته وعقوبته الى مادة افتراق جديد بين الخصوم المذهبيين. تظاهرات الفرح والإدانة الخارجة في نفس الوقت، بعيد صدور العقوبة بحقه... ابلغ تعبير. ولا تحتاج الى تعليق. والعقوبة اصلا، أي الاعدام، لم تَعد كما كانت، عقوبة كونية. ألغيت في اعرق الديموقراطيات، خصوصاً الاوروبية. ثم ان العراق يطوي مرحلة وينتقل الى مراحل. وان يكون الاعدام رمز انطواء مرحلة صدام لا ينبئ الا بأسوأ المراحل... التي لم تعد قادمة، بل هي حاصلة فعلا الآن: إعدامات بوجه إعدامات... وهكذا، حتى يكون التاريخ جديراً بهمّه، كما يعتقد بعض الذين يرون ضرورة الحرب لصنع التاريخ. ولكن هذا العيب في المحاكمة وما سبقه من عيوب لا يغفل ان في المحاكمة عدالة، وان كانت مثلما هي دائماً، نسبية، اي ان رئيساً مجرماً، وسط مجرمين كبار او صغار، تمكّنت منه العدالة. فلا ريب ان هذا خبر يخفّف من ذعر ما، من ثقل ذاكرة مغلولة. العدالة لم تكن يوماً الا نسبية. وعندما تكون مطلقة، او عندما نعتقد بأن شموليتها سوف تتحقّق في هذه الدنيا، نكون ساعتئذ من المحلّقين في عالم المطلق بامتياز، عالم الغيب. هذا كله لا يعني بأن محاكمة صدام من السيئات، بالرغم من عيوب المحاكمة. ورفض حكمها، بحجة انه يجب محاكمة الاميركيين الذين تسببوا، هم ايضاً، بقتل عراقيين، قبل محاكمة صدام حسين، ورفض عدالة نسبية باسم عدالة شاملة ومطلقة، مستحيلة الآن وفي كل الاوان... هذان الرفضان هما حجة الناطقين باسم المطلق - الغيب، والاحرى انها ليست حجة بقدر ما هي العوبة من الاعيب"مقاومتهم"الفئوية، هي احدى روافد الموت في عراق اليوم. واحتجاجهم على"عدم عدالة"أو"عدم قانونية"محاكمة صدام برَدت سيوفهم. حالة صدام حسين تجد لها نظيرا في لبنان. القيادة الايرانية عبّرت عن فرحتها بعقوبة الاعدام النازلة بحق صدام، بل اعلنت انه يستأهل المزيد... من العقوبات! حلفاؤها في لبنان تغمرهم الفرحة ايضا، وكذلك في سورية، وان بدا فرح هذه الاخيرة ملتبساً، بسبب علاقتها الخاصة بال"مقاومة"العراقية.... هؤلاء انفسهم المرحبون بعقوبة الاعدام النازلة على صدام، يعدّون الاسوأ من اجل منع قيام محكمة دولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري ورفاقه، سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني... وحجتهم نفس حجة خصومهم: حاكموا القتلة الاسرائيليين قبل كذلك! حاكموا قتلة الاخوان مجذوب من"الجهاد الاسلامي" الذين قتلتهم اسرائيل! طبعا هم لا يقولون انهم يرفضون قيام المحكمة. هم فقط يعطّلونها بشبهة انها سوف تكون"مسيّسة": وليت واحداً منهم يُفهمنا، ولو لمرة واحدة، معنى"المسيّسة"هذا. ومفاد ما تعزفه جوقتهم ان لا عدالة نسبية، أي ممكنة، ان لم تقم على عدالة مطلقة، أي غير ممكنة... على الاقل الآن. باسم الطوبى، يغطّى المجرمون. باسم عدالة مطلقة يمنعون محاكمة قتلة رفيق الحريري ورفاقه كلهم. وكأنهم بذلك يعترفون مسبقا ومن دون قصد ربما، بانه إما انهم هم الذين قتلوا الحريري ورفاقه او تواطئوا في الجريمة او علموا بها او حرّضوا عليها... كما يحرّضون الآن على رموز 14 آذار بصفتهم"متعاملين مع المشروع الاميركي الاسرائيلي". الترحيب بمحاكمة صدام حسين ورفض محاكمة قتلة رفيق الحريري ورفاقه يأتيان من جهة واحدة صاعدة الآن. ناجحة ومظفرة، ولكنها وقعت في فخ براغماتيتها المفرطة، فانعدَم منطقها: فكيف لها ان توّفق بين ترحيبها بعدالة نسبية بالنسبة لصدام حسين، وتعمل على تعطيل عدالة اقل نسبية في حالة رفيق الحريري ورفاقه؟ هل تستطيع هذه الجهات ان توضح، ان تبلور رؤية ل"عدالتها"هي لا يشوبها التلاعب ولا تضيعنا في متاهات حساباتها الضمنية،"البراغماتية"، ذات الصفة"الايمانية"؟ الارجح انها غير قادرة الآن. فقيادة هذه"الجبهة"مشغولة بإشعال الجبهات ضد اميركا و"مشروعها في المنطقة"ومعاقبة الخونة المتعاملين معه. ولا وقت لديها للتفكير، وقتها فقط للتعبئة بالشعارات"المقاتلة". ان رفض محاكمة قتلة الحريري ورفاقه، وبأداة اليوتوبيا المطلقة، هو تكريس للمجرمين المحليين باسم محاكمة المجرمين"الاجانب"من اميركا واسرائيل. واليوتوبيا خطيرة عندما تتلاعب بها هذه الجبهة"الممانعة"أو اية جبهة اخرى محاربة. قد تكون اليوتوبيا صالحة كنموذج نحو الافضل او نحو الاقل سوءاً، اي بالنسبية نفسها التي تعامل بها العدالة منذ وجودها. ورفض محاكمة صدام وقتلة الحريري ورفاقه ناجم عن تصور واحد لليوتوبيا: تسخيرها لحماية المجرمين المحليين،"الممانعين". من يتذكر مقولة ستالين القائلة بان اشتراكية ناجزة ومكتملة لن تتحقق الا بهزيمة المعسكر الرأسمالي؟ وكم كانت هذه الفكرة خصبة في توليد ذرائع لقمع رهيب طال ملايين من الروس ومن الشعوب الواقعة تحت وصايتهم؟ محاكمة صدام فيها عيوب كثيرة. وفد يكون في محاكمة قتلة الحريري ورفاقه عيوب ايضاً. ولكن هذا لا ينفي ان حصول الاثنين يرمز الى انطواء مرحلة ودخولنا في مراحل شتى. وكل ما يمكن ان نفعل مع هاتين المحاكمتين هو ان نأخذ بمبدأ النسبية. فالنسبية لا تردع من خطر غياب العدالة فحسب، النسبية دوما، بل من خطر التفكير بان رفض هذا القليل المتواضع من العدالة هو من اجل عدالة عظيمة وحتمية، وهذا نوع من العدالة، يموت الكثير منا وهم منجّرون اليها، ولا تخلف الا الخراب. ولكن ما همّ طالما ان آلة الاستشهاديين شغّالة على هذا النحو؟ فيولد كل يوم في بقعتنا طفل مرسوم مصيره ومصير امه بخطوط الدم؟ ما المشكلة؟ فهذا تراثنا، وهذه هويتنا!