قمع حرية الناس ومنعهم من التعبير عن آرائهم عادة سيئة تمارسها السلطات السياسية الشمولية. ولكن كثيراً ما يجري ذلك، أيضاً، على يد جماعات تزعم أنها ضحية للقمع ومحرومة من حق حرية التعبير. تقترن حرية التعبير إقتراناً كبيراً بفكرة التسامح: القدرة على تقبل الآخرين، من غير المؤيدين لأفكارنا، ولإصغاء إلى آرائهم بغض النظر عن المستوى القيمي الذي تنطوي عليه هذه الآراء وذلك من دون اللجوء إلى القسر أو الإقصاء أو التعالي. غير أن ثمة ميلاً قوياً، سواء عند السلطات الشمولية أو الأحزاب غير الديموقراطية ينحو إلى مقاربة الأفراد بطريقة توحي وكأنهم رعايا للسلطة أو للحزب، لا يحق لهم الخروج عن النطاق المرسوم لهم. فإذا عبّر أحدهم عن وجهة نظر مخالفة لوجهة نظر الجماعة فسرعان ما يتم وضعه في الخانة التي تشمل أولئك الذين يقفون خارج دائرة هذه الجماعة. إذا انتقد أحدهم السلطة السياسية بالقول أنها مستبدة ودكتاتورية ترد السلطة بالقول أنه ينتمي إلى رهط العملاء الذين يتلقون الأوامر من الخارج لأن أعداء الوطن هم الذين يصفون السلطة بالمستبدة والديكتاتورية. الأمر نفسه تفعله الأحزاب اليسارية والقومية التي تربط كل نقد لها بالأعداء والمأجورين والعملاء. مثل هذا الأمر يكشف عن واقع أن احترام حق التعبير، بوصفه حقاً فردياً، كي لا نقول الإقتناع بقدرة الفرد على استعمال هذا الحق، ما زال شيئاً غامضاً. وحرية التعبير في جوهرها لا تعيق الفرد من الإنضمام إلى مجموعة أو التحدث باسمها. غير أن مثل هذا الأمر يجب ألا يؤدي إلى طمس رأي الفرد وخنق صوته ليكون مجرد صدى للمجموعة. لنفكر بالصمت النسبي للأفراد الذين ينتمون إلى جماعات تملك صورة منتفخة عن نفسها يعرف الفرد أنها كاذبة. إنه مضطر للسكوت تحت طائلة التصنيف"خارج الدائرة". حينما تشعر مجموعة ما بالتهديد من جانب قوى أخرى فإن أي نقد يوجهه إليها أحد أفرادها يعد في نظرها نوعاً من عدم الوفاء أو نشراً للغسيل الوسخ. هناك الكثير من العقبات التي تقف في وجه حرية التعبير والآتية لا من سلطة الدولة بل مما يسمى ب"العقل الجمعي". إنها العقبات التي تنبع من موقف الجماعة المستبد والعدواني إزاء المخالفين في الرأي، أي أولئك الذين يفكرون بشكل مختلف ويتجرأون على عرض أفكارهم. تعمد الجماعة إلى تشنيع الفرد الذي يستقل برأيه عنها وتمارس معه التخويف وتلجأ إلى عزله وتسخيف رأيه. هي تتصرف بطريقة تريد أن تقول للفرد إنه لا يساوي شيئاً من دونها. وهكذا فإن الجماعة التي تشتكي من كونها ضحية لسلطة مستبدة تتصرف بدورها كسلطة مستبدة. من المعروف أن أسهل شيء يمكن للفرد القيام به هو الوقوف مع"عموم الشعب". فالمرء لا يحتاج إلى شجاعة ولا إلى حماية كي يكرر ما يقوله"الشعب". غير أن حرية التعبير لا تعني شيئاً في ظل سيادة رأي واحد يزعم أنه رأي الشعب. بل إن ما يجعل حرية التعبير ضرورة لابد منها هو وجود الأفكار النقيضة لدى الأشخاص الذين يملكون آراء تختلف عن رأي الشعب العتيد. وهكذا فإن المخالفين في الرأي هم الذين يحتاجون إلى حرية التعبير وليس أولئك الذين يدعون تمثيل رأي الشعب. كان الفيلسوف الإنكليزي جون ستيوارت ميل يصرعلى التأكيد بأننا لن نتمكن من معرفة صحة وجهات نظرنا ما لم نسمع وجهات النظر المضادة. ومثل هذا السلوك هو الذي يجعل المجتمع حقلاً من وجهات النظر المتنوعة. وبطبيعة الحال فإن التنوع في المجتمع لا ينشأ من خلال إخضاع الجميع لنظام تربوي جماهيري واحد. وحرية التعبير ليست هدية تتكرم بها حكومة أو أحزاب بل هي حق بديهي للفرد في سعيه لمعرفة حقيقة الأشياء من حوله. من حق الفرد وربما من واجبه، كشخص مستقل، أن يفحص، بجهوده الخاصة، ما يعرض أمامه من وجهات نظر. ومن حقه وواجبه، أيضاً، أن يشكك في الأفكار والنظريات والشعارات التي يطرحها الآخرون. لا أحد يتمتع بحق استثنائي في حرية التعبير عن رأيه واعتبار آراء الآخرين مجرد حماقات. إن الأمر يتعلق بحاجة الفرد لاكتشاف ماهو مفيد والتعبير عما يراه منسجماً مع قناعاته دون أن يتطلب منه الأمر الإتفاق مع رأي الأكثرية. يجد واحدنا نفسه على الدوام أمام حقائق مختلفة. وعلينا أن نتذكر إمكانية أن نكون على خطأ، وهذا يشكل القاعدة التي ينهض عليها المجتمع الديموقراطي الذي يتيح لنا امتلاك شخصية مستقلة. في مثل هذا المجتمع تتمتع الآراء بالحق في الظهور حتى ولو كانت خاطئة. ذلك أن الناس ليسوا ملائكة بل بشر يخطئون. ولا معنى لفكرة حرية التعبير إن اقتصر الأمر على الأفكار التي تعد في نظرنا صحيحة أو مفيدة للجماعة. أهمية حرية التعبير تكمن في أنها تتيح للأفكار المعادية لنا والصادمة لمواقفنا أن تظهر إلى الملأ. في هذا المستوى تظهر مصداقية تمتعنا بالتسامح ومزاعمنا عن تقبل رأي الآخر. السلطات الشمولية والأحزاب غير الديموقراطية تريد لحرية التعبير أن تكون على مقاسها. إنها هي التي تقرر ما هو مفيد للناس وهي التي تضع المعايير الجازمة في السياسة والفكر والأخلاق. فإذا خرج فرد عن الدائرة المغلقة لاحقته صرخات تصفه بأنه حاقد وعميل للعدو وخائن للشعب يطلقها من اختاروا لأنفسهم صفة الأوفياء للشعب والأمة. * كاتب كردي