وكيل إمارة المنطقة الشرقية يستقبل القنصل العام المصري    برنامج حساب المواطن يبدأ تطبيق معايير القدرة المالية على المتقدمين والمؤهلين    أمير الرياض يطلع على جهود إدارة تعليم المنطقة في تنفيذ مشروع التحول والحوكمة    تعليم الطائف ينظم معرضاً رقمياً بمناسبة باليوم العالمي للطفل بمشاركة أكثر من 200 طفل    مدير فرع وزارة الصحة بجازان يفتتح المخيم الصحي الشتوي التوعوي    311 طالبًا وطالبة من تعليم جازان يؤدون اختبار مسابقة موهوب 2    ضيوف الملك يغادرون المدينة إلى مكة    حسين الصادق يستقبل من منصبه في المنتخب السعودي    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    السند يكرِّم المشاركين في مشروع التحول إلى الاستحقاق المحاسبي    غربلة في قائمة الاخضر القادمة وانضمام جهاد والسالم والعثمان وابوالشامات    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي واستعمال أوراق نقدية مقلدة والترويج لها    الجامعة العربية بيت العرب ورمز وحدتهم وحريصون على التنسيق الدائم معها    وزير الاستثمار: 1,238 مستثمرًا دوليًا يحصلون على الإقامة المميزة في المملكة    تعطل حركة السفر في بريطانيا مع استمرار تداعيات العاصفة بيرت    السعودية تستضيف المعرض الدوائي العالمي "CPHI الشرق الأوسط"    التدريب التقني ترصد 298 مخالفة تدريبية في النصف الأول من العام 2024 م    جبل محجة الاثري في شملي حائل ..أيقونه تاريخية تلفت أنظار سواح العالم .!    NHC تطلق 10 مشاريع عمرانية في وجهة الفرسان شمال شرق الرياض    وزير الصناعة في رحاب هيئة الصحفيين بمكة المكرمة    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    السودان.. في زمن النسيان    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    نهاية الطفرة الصينية !    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تنشئة النظام الديموقراطي وإحباطه في العراق . تلازم حرية الشعوب ودحر الفاشية وإصلاح بلا تطرف 3 من 5
نشر في الحياة يوم 27 - 10 - 2003

افتتاحيات جريدة "الاهالي" العراقية التي كتبها كامل الجادرجي في الفترة بين عامي 1944 و1954 تصدر قريباً في كتاب عن دار الجمل - ألمانيا في عنوان: "في حق ممارسة السياسة والديموقراطية"، أعدها للنشر مركز الجادرجي للأبحاث وقدّم لها المهندس المعماري المعروف رفعة الجادرجي بدراسة عنوانها: "تنشئة النظام الديموقراطي وإحباطه في العراق".
وفي هذه المرحلة القلقة التي يجتازها العراقيون يطرح الكتاب في الوقت المناسب، وحين تندر المثالات، صورة سياسي عراقي ديموقراطي كان يشكل مع نوري السعيد طرفين متعارضين في رؤية العمل السياسي وتطوير الدولة العراقية الوليدة وتحديثها.
تنشر "الحياة" مقاطع من الكتاب بالاتفاق مع الناشر، وهنا الحلقة الثالثة.
من مسببات الخطأ السياسي ل "جماعة الأهالي" في تحالفهم مع انقلاب بكر صدقي أن التعايش مع فساد سياسة الدولة يفرضه أحيانا الأمر الواقع بحكم طبيعة ممارسة السلطة وتعدد المصالح، حتى إن تمّ استبدال رجالها و سمحت بظهور نهج جديد. لكن اشتداد فساد إدارة الهاشمي، واعلانه أنه سيستمر في السلطة عشرة أعوام، أفرغ شرعيتها كليا وعطل الآليات الديمقراطية، فانتقلت ممارسة المعارضة إلى العمل السري، وخرجت من إطار النظام الدستوري البرلماني إلى الثورة. وحينما فاتح حكمة سليمان الجادرجي وعرض عليه موضوع الانقلاب ضد الهاشمي، كان العرض يتمثل في أن قرار الانقلاب والخطة لتنفيذه كانا جاهزين، وبين للجماعة بأن "عدم موافقتكم لا تغير من الأمر شيئاً، وفي هذه الحال سيتعاون العسكريون مع أناس آخرين"، مما جعل الجادرجي وحديد يسلمان بالأمر الواقع، ويقبلان مبدأ الاشتراك. ولهذا السبب بالذات فإن قبول الاشتراك في الانقلاب يؤلف خطأ سياسياً وليس مبدئيا.
توقفت "الأهالي" عن الصدور بعد انسحاب كامل الجادرجي وثلاثة وزراء آخرين من حكومة حكمة سليمان في حزيران يونيو 1937، فهددت جماعة بكر صدقي الجادرجي وطلبت منه مغادرة العراق. وكان كل من عبدالقادر إسماعيل وشقيقه يوسف غادرا البلد بعد إسقاط الجنسية عنهما.
وما أن انتهى عهد الانقلاب باغتيال قائده العسكري بكر صدقي في 11 آب أغسطس 1937 واستقالة وزارة سليمان في 17 من الشهر نفسه، حتى عاد الجادرجي الى العراق. وبسبب الجو الإرهابي الذي أحدثته حكومات جميل المدفعي الوزارة الرابعة ونوري السعيد الوزارة الثالثة والرابعة والخامسة من 17/8/1937 وحتى 37/3/1941، منع الجادرجي من ممارسة السياسة ووضع تحت رقابة أمنية، فانصرف إلى هواياته المتعددة وقراءاته المتنوعة التي أسهمت في تطوير ثقافته الشاملة. وبمرور الأيام، هدأت العواطف التي احتدمت بين بعض أفراد "جماعة الأهالي"، خصوصاً القطبين كامل الجادرجي وعبدالفتاح إبراهيم، فعادا إلى اللقاءات في دار الأول في حضور محمد حديد وغيره.
التزم أولئك الرجال من الجماعة الموجودون في بغداد السكون، وتجنبوا القيام بعمل يثير حفيظة الفئة الحاكمة. ذلك أن اتجاه بكر صدقي وحكومته نحو قلب ظهر المجن للتيار اليساري التقدمي استمر بعد سقوطه ومارسته الحكومات التي أعقبته، فأدى ذلك إلى عزل قادة ذلك التيار عن المشاركة في الشؤون العامة، وآثرت قيادته تحاشي الصدام والتزمت الهدوء واكتفت باجتماعات دورية أسبوعية تجرى غالبيتها في دار الجادرجي وجعفر أبو التمن، على أساس شخصي بين أصدقاء قدامى.
نشبت الحرب العالمية الثانية في خريف عام 1939 بين بريطانيا وألمانيا الهتلرية. وكانت انتصارات الجيوش الألمانية ضد إنكلترا تتوالى على جميع الجبهات، فيزداد انجذاب الكثير من الناس في العراق الى الحركة النازية، ويشتد أوار ذلك الانجذاب شماتةً بالحكومة البريطانية، وهي في نظر السواد الأعظم من العراقيين العدو الأول لهم بسبب دعمها لحكومات فاسدة، وبسبب موقفها من الحركة الصهيونية في فلسطين. وحدثت حركة آذار مارس 1941 في العراق، في عهد وزارة رشيد عالي الكيلاني الرابعة، بالاتفاق مع الضباط الأربعة: صلاح الدين الصباغ وكامل شبيب وفهمي سعيد ومحمود سلمان، فدخلت الجيوش البريطانية العراق وأصبح تحت احتلالها العسكري.
لم تكن لدى "جماعة الأهالي" صحف آنئذٍ للتعبير عن آرائها، ولم يؤيد الجادرجي حركة رشيد عالي والضباط. لكن الكثيرين من تيار اليسار، لا سيما الحزب الشيوعي العراقي السري، كانوا مع الحركة المذكورة، إذ كان الاتحاد السوفياتي في ذلك الحين غير مشارك في الحرب وتربطه بألمانيا معاهدة صداقة. ثم تغير هذا الموقف بعدما شنت ألمانيا الحرب على الاتحاد السوفياتي في 22 حزيران 1941، واتخذ اليسار العراقي موقفاً مؤيداً لما سمّي "الجبهة التقدمية الديموقراطية" ضد "الجبهة الفاشستية".
وتميزت "جماعة الأهالي" في هذا الموضوع بوضوح الرؤية في الموقف ضد الاستعمار من جهة وتأييد للديموقراطية من جهة أخرى، كما أن هذا التميز كان نابعاً أصلاً من الخلاف الفكري بين الجماعة وتيار الشيوعيين واليسار المتطرف. ففيما كان الهم الأول ل"جماعة الأهالي" انشاء النظام الديموقراطي ودعم أي حركة ضد الفاشية مهما كان مصدرها، كان الحزب الشيوعي وحركة اليسار المتطرفة يطابقان مصلحة العراق مع مصلحة الاتحاد السوفياتي.
ومع التطورات الحاسمة في جبهات القتال في العالم تغيرت سياسة الحكومات العراقية المتسمة بالشدة ضد التيار اليساري واستبدادها في إدارة الدولة، وذلك بتأثير من الإدارة البريطانية. وأخذ موقف الحكومات يتسم ببعض اللين بسبب متطلبات الحرب الجارية دعماً للجبهة التقدمية الديموقراطية. فوجدت "جماعة الأهالي" الظرف ملائماً للتحرك والخروج من عزلتها. وفي تلك الأثناء تواصلت اللقاءات في دار الجادرجي في حضور أقطاب الجماعة، ثم انضم إليهم حسين جميل بعد استقالته من القضاء، وكذلك فعل عزيز شريف، وهما لم يكونا أصلاً على قطيعة معهم. وتوسعت حلقة الاجتماعات لتضم العشرات من المتعاطفين مع اليسار. وهكذا خلال فترة الحرب العالمية الثانية وبعدها، أصبحت "جماعة الأهالي" تساس بزعامة الجادرجي من دون منازع. كما أصبحت الفئة المعارضة العلنية الرئيسية التي تتمتع بشرعية ضمنية، وعبرت عن مشاعر الناس ومطالبهم بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي كما نادت به منذ إعادة صدورها في 23 أيلول سبتمبر 1942. ظهر العدد الأول من "صوت الأهالي" تتصدره جملة: "العدد 76 السنة التاسعة"، وذلك تأكيداً لاستمرارية الجريدة واستمرارية فكرها السابق. كما حافظت على شكلها وحجمها، سوى حذف جملة "يصدرها فريق من الشباب". واستعادت الجريدة من جديد وبسرعة سمعتها السابقة نظراً إلى الصيغة الرفيعة لتحريرها والمعالجة الشيقة لمواضيعها، وأخذت تطبع نحو ثمانية آلاف نسخة يومياً، قياساً إلى ما بين 2500 وثلاثة آلاف نسخة في الماضي.
وبعد انتهاء الحرب، كانت "جماعة الأهالي" بقيادة الجادرجي الصوت الرئيسي للمعارضة. فأخذت تطالب بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتعبر عن هموم المجتمع عموماً. وبسبب تزايد شعبيتها، ودورها التثقيفي في مجال المعرفة عامة ومفاهيم الديموقراطية والإنسانية والتنويرية، بدأت الفئة المستأثرة بالسلطة تحسب لها حسابها. وأقدم توفيق السويدي، من غير معارضة الإدارة البريطانية، على إجراءات إدارية متضمنة أساساً في الدستور، بما في ذلك إجازة الأحزاب، ومن بينها "الحزب الوطني الديموقراطي" الذي انتخب الجادرجي رئيساً له.
مذكرة مهمة
كان أهم ما قام به هؤلاء من "جماعة الأهالي" في تلك الفترة، وهم بعدُ لا تربطهم رابطة عمل مشتركة في صحيفة أو حزب، إعدادهم لمذكرة مستفيضة كانوا ينوون تقديمها إلى وزير الدولة البريطاني العمالي ستافورد كريبس عند مروره بالعراق في طريقه إلى الهند عام 1942. لكن الوزير غيّر برنامج سفره فلم يمر بالعراق، وظلت المذكرة تمثل وثيقة تاريخية، وهي منشورة بنصها الكامل في كتاب "مذكرات كامل الجادرجي". وكان الدافع لتقديم هذه المذكرة إلى كربس انه يعتبر من كبار مفكري حزب العمال البريطاني وفلاسفته ويعتبر شخصية ليبرالية مهمة وينادي باستقلال الشعوب وتحريرها، وهو كان في طريقه إلى الهند للتفاوض مع حزب المؤتمر الهندي على استقلال الهند. وبما أن العراق كان تحت النفوذ البريطاني، لذا وجدت "جماعة الأهالي" من المفيد إيصال صوتها إلى مسامع الحكومة البريطانية، وإبلاغها بمطالب الشعب العراقي عامة.
أعد تلك المذكرة كامل الجادرجي ومحمد حديد وعبدالفتاح إبراهيم بالتداول مع زملائهم الآخرين من التقدميين، وهي تتناول تاريخ تأسيس الدولة العراقية سنة 1921، وابتداع نظام الانتداب، ثم دخول العراق عصبة الأمم سنة 1932 من دون أن يتغير المجتمع فيه تغيراً جذرياً، ونشوء الحياة الفكرية الحديثة في البلاد ومعالجة تناقضها مع متطلبات النظام الاقتصادي التقليدي. وتعرض المذكرة بعد ذلك وصفاً للحياة السياسية في العراق وكيف آل النظام فيه بعد سنوات إلى نظام شبه ديكتاتوري على رغم وجود دستور وبرلمان، مع بيان العوامل التي أدت إلى ذلك، والآثار التي نجمت عنه في الحياة اليومية للأفراد، وكيف أن الناس صاروا يلقون معظم اللوم على الإنكليز وبلغ تبرمهم حداً يرجون معه تبدل الوضع مهما كانت العاقبة. وتتطرق المذكرة كذلك الى الأسباب التي شجعت على الدعاية للفاشية في العراق مثل فساد أجهزة الدولة، لا سيما ما كان لقضية فلسطين من تأثير في مشاعر السكان. وتقول المذكرة إن الرأي السائد لدى أكثرية الناس في العراق تعتبر بريطانيا مسؤولة عن فشل نظام الحكم فيها لما لها من نفوذ عليه. ثم تطالب المذكرة بالمبادرة إلى معالجة عاجلة لهذا الوضع على أساس توثيق الروابط الودية الصادقة بين الشعبين البريطاني والعراقي وبإجراء تغيير في هذا الوضع ليحل محله وضع آخر يتفق وأهداف الجبهة الديموقراطية في تنظيم العالم. وترى المذكرة ان معالجة الوضع على نوعين: معالجة وقتية تقتضيها ظروف الحرب ومعالجة أساسية تضمن للعراق طريق السير في الديموقراطية وتحقيقها، ثم تأتي على سرد تفاصيل المعالجتين مؤكدة على التطبيق الصحيح والفعلي للدستور مع إفساح المجال للعناصر التقدمية لتمارس حقوقها في تأليف الأحزاب والجمعيات والنقابات، وفي التمتع بحرية النشر والاجتماع، وتطالب أخيراً بأن يكون موقف بريطانيا أكثر انسجاماً مع أهداف الديموقراطية.
وتستشف من هذه المذكرة الخطوط العريضة لتفكير "جماعة الأهالي"، اذ كانت بعيدة من التطرف وحريصة على الموضوعية وراغبة في الإصلاح الشامل، وخلاصة فحواها ان الجماعة تطالب بأن يستند الحكم في العراق إلى نصوص الدستور، فتكون السيادة للشعب والدولة وليست لرجال الحكم، أسوة بالدول الديموقراطية.
العودة إلى الصدور
في 23 أيلول 1942، عادت "صوت الأهالي" إلى الصدور لصاحبها ومديرها المسؤول كامل الجادرجي، وظلت تصدر حتى الثالث من نيسان أبريل 1946. وأعيد اصدار الجريدة بعدما أجازت السلطات طلباً قدمه الجادرجي اثر مداولات كثيرة بين "جماعة الأهالي" مع نضوج الظروف السياسية العالمية التي كانت محصلة إلى المعركة الفكرية بين دول الحلفاء ودول المحور، وتأثير هذه الظروف العالمية في موقف الإدارة البريطانية من نهج رجال السلطة في العراق. وتناول البحث المتواصل الذي جرى في أوساط الجماعة مسألة العمل السياسي في المناخ المستجد وهل ينبغي تأليف حزب سياسي أم يكتفى في الوضع الراهن بإصدار جريدة يومية تعبّر عن آراء الجماعة. واتجه القرار في النهاية إلى الاقتصار على إصدار الجريدة إلى حين ظهور ظروف جديدة تسمح بتأليف الأحزاب.
وكتب الجادرجي قبل صدور الجريدة وثيقة خطية في عنوان "خطة الجريدة المنوي إصدارها" مؤرخة في 10/7/1942، اطلع عليها أركان الجماعة، وجاء فيها: "تطالب الجريدة بالحقوق الدستورية كحرية الانتخابات وتأليف الجمعيات والأحزاب والنقابات وحرية النشر وحرية الاجتماع، وتكوّن الجريدة رأياً عاماً يرمي إلى أن الاضطرابات السياسية التي حصلت في البلد والتي لا تزال مستمرة، ناشئة عن عدم تطبيق القوانين وفي مقدمها القانون الأساسي. وتعالج الجريدة مشاكل البلاد وأهمها الأراضي والمعارف والصحة العامة والعمال والتموين ومستوى المعيشة أي الفقر". وتفصل الوثيقة سبل معالجة هذه المشاكل، وتختتم بما يأتي: "تكافح الجريدة الفاشية وتفهم الرأي العام العراقي مساوئها والأضرار التي تنجم عنها مادياً وأدبياً وثقافياً. وتوضح بصورة جلية خطر الاحتلال الألماني للبلاد العربية وما يسببه من ويلات ومصائب على تلك البلاد ومن ضمنها العراق. وعلى هذا الأساس تناصر الجريدة الجبهة الديموقراطية، كما تبين بوضوح الكوارث التي ستحل بالعالم بصفة عامة في حال انتصار دول المحور". وكان المقال الافتتاحي ل"صوت الأهالي" في عددها الأول في 23/9/1942 في عنوان "خطتنا"، وجاء فيه: "لسنا نريد اليوم غير ما أردنا بالأمس. إننا ننشد تحقيق نظام يقوم على أساس المساواة في الحقوق والواجبات للجميع ويفسح مجال التنظيم للناس ولإبداء الرأي وممارسة الحكم، ويحول دون التفريط بالمصالح العامة لتحقيق المصالح الخاصة أو احتكار النفع لفئة من دون الشعب، وإننا ندعو إلى العمل لإنقاذ الشعب من عبودية الفقر وذلّه، ومن مكابدة الأمراض والعلل، ومن ظلمة الجهل وشرور التضليل. ونريد حكومة من الشعب إلى الشعب، ونريد الديموقراطية، أمنية هذا الشعب وما يصبو إليه". وبعدما يعالج المقال الافتتاحي خطر الفاشية يقول: "ولما كان القضاء على الفاشية وإفساح مجال تحقيق الحرية للشعوب أمرين متلازمين فإن واجبنا الأول أن نكافح الفاشية ونؤيد جبهة الشعوب الديموقراطية في نضالها لتحرير العالم من ويلات الاعتداء". وبعد أن ينوه بأن الجريدة ستعالج المشاكل الناشئة من ظروف الحرب وعلى رأسها مشكلة التموين يختتم ب"ان هذه الجريدة تعبر عن رأي العناصر التقدمية في هذا البلد، وإنه وإن لم يتسن حتى الآن لهذه العناصر أن تجتمع في مؤسسة رسمية ولكنها ترتبط على كل حال بروابط وحدة الهدف وقوة العقيدة وسلامة الرأي ومتانة النفس. وإنا نوجه نداءنا إلى هذه العناصر لتتخذ من هذه الجريدة وسيلة تعينها في كفاحها لاستئصال بذور الفاشية من هذا البلد وفي تضامنها مع جبهة الشعوب المتحدة في النضال من أجل الحرية وفي مسعاها لتحقيق ما يمكن إنجازه من مبادئ الحياة الديموقراطية".
بداية الخلاف
كان يشرف على تحرير "صوت الأهالي" ومقالها الافتتاحي، اضافة إلى المسؤول الأول كامل الجادرجي، كل من محمد حديد وعبدالفتاح إبراهيم وعزيز شريف، وسرعان ما دب الخلاف بينهم بشأن التوجه العام للجريدة، فكان الجادرجي وحديد يتمسكان بالاعتدال بحسب تقديرهما للظروف والإمكانات السياسية المتاحة في حين أراد الآخران أن يكون نهج الجريدة وأسلوبها أكثر شدة وحماسة. وكان من أسباب الخلاف كذلك رغبة هذين الرجلين في تشكيل تنظيم سياسي وعدم الاقتصار على جريدة فقط، لكن ذلك لم يجد استجابة لدى الآخرين. وأدى هذا الخلاف في التوجه العام والتباين في الآراء إلى حدوث الانشقاق مرة أخرى في الجماعة ، إذ انسحب أولاً عزيز شريف، ثم تلاه عبدالفتاح إبراهيم. وأخذ الخلاف بالاتساع في آخر 1942، أي بعد أشهر قليلة من صدور الجريدة. فلما لمس الجادرجي عمق الخلاف كتب مذكرة مفصلة في 8/1/1943 وزّعها على أفراد "جماعة الأهالي"، جاء فيها: "هناك رغبة ملحة من قبل الإخوان - وأنا شخصياً أشاركهم فيها - في بحث موضوع بقائنا من دون تنظيم مما يجعل عملنا دون فائدة. والتنظيم الذي يقصده الأخوان، على ما أظن، هو أن تكون الرابطة في ما بيننا بموجب نظام معين ثابت، وأن يثبت كل فرد منا علاقته ببقية الإخوان وبالنتيجة بالشخصية المعنوية التي تجمعنا. إن هذه الرغبة نتفق عليها جميعاً، ولكن المشكلة التي نواجهها هي كيفية تنفيذ هذه الرغبة. لقد باحثت الكثير من الاخوان حول هذه القضية فوجدت البعض منا يرى تأليف حزب سياسي بحسب القوانين والأنظمة المرعية، والبعض الآخر يرى ذلك متعذراً، غير أنه لا يرى ترك الموضوع إلى ما هو عليه بالمرة، بل يرى قيام بعض التشكيلات الضرورية للتمهيد للحزب المنوي تأليفه في المستقبل. وقد باحثت بعض الاخوان في الأمر فرأيت الفكرة تتجه إلى نوع من التشكيلات التي لا تخرج عن كونها شبه سرية، وسمعت أن بعض الأخوان لا يرى بأساً في قيام التشكيلات السرية عند تعذر القيام بتأليف حزب علني أو شبه علني. أود أن أبدي رأيي حول هذه الأفكار أو المقترحات قبل أن نتناقش حولها، فقد توصلت إلى نتيجة لا بد من عرضها على الاخوان، وهي قضية جوهرية بالنسبة لي شخصياً. إنني لا أتفق مع الإخوان الذين يرون إمكان تأليف حزب رسمي في الوقت الحاضر، فالسلطات لا توافق على ذلك على ما أعتقد، فضلاً عن أننا غير مستعدين للقيام به. أما بخصوص التشكيلات السرية فأنا شخصياً لا أرى أن يتم ذلك لأسباب كثيرة، منها أننا أو أنني أعلنت في مناسبات عدة قبل صدور الجريدة وبعد صدورها، بأن كل ما نحتاج إليه في الوقت الحاضر هو إصدار جريدة سياسية تعبر عن آرائنا علناً، وأنه لا فائدة من التشكيلات السرية، بالنسبة لنا. ومن الجهة الثانية فإن الفشل الذي أصاب معظم المنظمات السرية في مختلف الأدوار، ولا سيما في الفترة الأخيرة، ما زال ماثلاً أمامنا، فنحن ما زلنا بعيدين عن أن نكون قادرين على العمل السري الذي يتطلب مؤهلات مفقودة لدى أكثرنا، أما التشكيلات التي تكون بين السرية والعلنية فقد ذاكرت بعض الإخوان في شأنها فتوصلت شخصياً إلى أننا كلما حاولنا أن نعطي تلك التشكيلات صبغة غير سرية فسوف تبقى سرية في حقيقة أمرها، وأنا شخصياً لا أستطيع الدخول في الوقت الحاضر في أية هيئة سرية لما ذكرته آنفاً.
إن العمل الوحيد الذي أرى من الممكن القيام به الآن، هو أن نجعل الجريدة - ولا أخص جريدة صوت الأهالي فقد تكون هي أو جريدة أخرى - محورنا الأساسي، وأن يتم التفافنا حول شخصية الجريدة المعنوية، وأن نرتبط بها ارتباطاً وثيقاً، ونقوم بمساعدتها بكل ما في وسعنا حتى يحين الوقت المناسب لتأليف حزب سياسي رسمي. أما ذلك الارتباط فيجب أن يكون على أساس معين وحول نقاط معينة نلتزم بها وتتبعها الجريدة، ومن الضروري أن ندون الأهداف التي تسعى إليها الجريدة. ويعرف بعض الإخوان أننا قبل البدء بإصدار الجريدة كنا قد وضعنا بعض النقاط التي عيّنا بموجبها أهدافها ... ولا بد أن يكون جميع الإخوان متفقين على أن تلك الشخصية المعنوية لا يمكن فصلها عن الأشخاص القائمين بإدارة الجريدة، وبعبارة أوضح الشخص القائم بإدارتها. وإذا ما سمح لي الإخوان فإني أقول بأن الجريدة في وضعها الحاضر لا تصلح لأن تكون تلك الشخصية المعنوية المطلوبة فهي فاشلة من وجوه عدة، من حيث مراسلاتها مع الخارج ومن حيث هيئة التحرير التي تتولى تحريرها، ومن نواحٍ أخرى كثيرة، والسبب هو أن الشخص الذي يتولى إدارة الجريدة فشل في التوفيق بين مختلف رغبات الإخوان. مثلاً كان بعض الإخوان يرى أن على الجريدة أن تتساهل في بداية صدورها مع الكتاب الذين يرغبون في المساهمة في تحريرها فتنشر لهم آراءهم دون المساس بها، ويكون النشر على مسؤولية الكاتب وبتوقيعه الصريح. غير أن الشخص الذي يتولى إدارة الجريدة عارض هذه الفكرة لاعتقاده بأن ذلك يؤدي إلى إضعاف الجريدة في تمثيلها شخصية معنوية موحدة لأن أغلب كتاب الجريدة من الموظفين في دوائر الدولة ممن لا يستطيعون نشر أسمائهم الصريحة، ومن ثم تظهر معظم الكتابات المهمة بدون أسماء وتظهر معظم الأسماء لكتاب ثانويين بالنسبة للجريدة وللرأي العام. كما أن هناك سبباً آخر دعا القائم بأعمال الجريدة إلى التمسك برأيه، هو أن بعض الأسماء المطلوب نشرها تضر الجريدة بالنظر لشهرة أولئك الكتاب بالتطرف أو بعبارة أوضح لشهرتهم بأنهم شيوعيون. لقد كان الأخ عزيز شريف من أشد أنصار الرأي القائل بوجوب نشر الأسماء، وبعد مناقشات طويلة قبلت الأكثرية رأي المدير المسؤول على أن يناقش رأي الأخ عزيز شريف في وقتٍ آخر... وهناك خلافات أخرى في أوجه النظر لا تزال قائمة، منها أن بعض الإخوان يرغبون في أن تكون الجريدة أكثر تساهلاً في قبول كتابات التقدميين والاشتراكيين والشيوعيين، بينما يرى البعض الآخر أن هناك تساهلاً زائداً في هذا الموضوع.
... ومن أجل التوفيق بين هذه الآراء كانت معظم المقالات المرفوضة تعرض على الإخوان للاسترشاد بآرائهم والوصول إلى خطة متفق عليها. لقد كان بعض الإخوان يرى أن تفتح الجريدة المجال لبعض الجماعات المرغوب الاتصال بها مثل الطلاب والعمال وغيرهم، وكان رأي بعض الإخوان ومنهم القائم بأعمال الجريدة أن يكون الاهتمام بالمسائل العامة كشؤون الطلاب دون التعرض للمسائل الفردية والشخصية، وقد رفض القائم بأعمال الجريدة نشر شكاوى الطلاب ضد أساتذتهم مثلاً لاعتقاده بأن ذلك لا يكوّن قضية عامة ليصح التدخل فيها، وفي نفس الوقت قبل نشر الشكاوى الخاصة بإجحاف الطلاب والتلاعب بالدرجات وأمثال ذلك، لاعتقاده بأن ذلك مما يهم الرأي العام. وهذه أمثلة قليلة عن الاختلاف في وجهات النظر ...
وبعد أن ذكرت مشاكل الجريدة وسيئات القائمين بأعمالها - وأنا في مقدمتهم - أود أن أبين رأيي فيها كعمل استمر طيلة هذه المدة. فالجريدة بالرغم من كل ما تقدم استطاعت أن تكوّن رأياً عاماً لدى طبقات الشعب فجلبت عطف الكثير من الناس الذين ما زلنا بعيدين عنهم، فهي بهذا الاعتبار تصلح لأن تكون نواة لكتلة سياسية في المستقبل إذا تولى إدارتها أناس يشعرون بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم على أن يكونوا ممتهنين للعمل الصحافي لا هواة يدفعهم الهوس إلى العمل يوماً ويؤخرهم الفتور يوماً غيره. وأنا على قناعة بأن العراق لن يجد نفسه بمعزل عن التيارات السياسية العالمية، وذلك بعد أن تنتهي هذه الحرب في المستقبل القريب. وفي تلك الظروف المؤاتية سيكون للجريدة شأن خطير في إيجاد الكتلة السياسية التي ينشدها الإخوان. لذلك أعتقد أن من واجب كل فرد منا أن يكون حريصاً على كيان هذه المؤسسة حرصه على المبدأ الذي يعتنقه وأن يبذل كل ما في وسعه لمساعدتها لأجل أن تتمكن من الاستمرار، وذلك بطبيعة الحال بعد إيجاد الكتلة الصالحة لإدارتها".
وتدل هذه المذكرة وغيرها مما كتبه الجادرجي إلى أنه كان يلجأ إلى الكتابة لشرح وجهة نظره في القضايا الخلافية بأسلوب مبسط وتسلسل منطقي ووضوح في العرض، مع وضع الحلول للمشكلة القائمة. والمهم في هذه المذكرة بالذات أنها تناولت بالتفصيل ما واجه الجريدة من معضلات في بداية المرحلة الثانية من حياتها. وجاءت استجابة عبد الفتاح إبراهيم لهذه المذكرة في شكل مقترحات مكتوبة قدمها بتاريخ 12/1/1943، ثم جاءت استجابة عزيز شريف في 18/1/1943 بمذكرة أيضاً تناولت ما تلاقيه الحركة اليسارية في العراق من مقاومة شديدة، وما اعترى الحركة من انشقاقات.
إلا أنه لم تتم تسوية الخلاف بين الجادرجي ومناصريه وبين الآخرين المتشددين، ما أسفر عن انسحاب هؤلاء بالتدريج. ثم استقال مدير تحرير الجريدة عبدالرحيم شريف في 22/3/1943. وهكذا صارت مسؤولية إدارة الجريدة وتحريرها في عهدة الجادرجي، يعاونه آخرون على رأسهم محمد حديد. ويمكن القول إن الأمور آلت، بعدما انسحب من انسحب، إلى انسجام في التفكير ساد إدارة الجريدة أمداً طويلاً.
وكانت الجريدة تمثل في تلك الأيام منبراً مرموقاً للتيار الديموقراطي والتقدمي الإصلاحي، وكانت تقرأ ليس فقط من المؤمنين بمبادئ هذا التيار وحدهم بل من قرّاء كثيرين آخرين كانوا هم أيضاً يجدون في ما تنشره من افتتاحيات ومقالات فكراً وتحليلاً ونضجاً يتلهفون لقراءته صباح كل يوم وان لم يكونوا من المنضوين تحت جناح التيار التقدمي. اذ لم تترك "الأهالي" موضوعاً مهماً إلا وعالجته منذ صدورها عام 1942 وحتى إجازة تأسيس الأحزاب السياسية عام 1946، وذلك وفقاً لآرائها ومبادئ المحررين فيها في شكل واضح وصريح وصارم، وكانت تنطوي على نقد شديد لسلوكيات رجال السلطة، وتعرض بوضوح الموقف السياسي الذي اعتمده الجادرجي و"جماعة الأهالي".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.