«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كاتب سوداني يدعو الى التخلص من مفهوم "الدولة الإسلامية" في خطاب الإسلاميين
نشر في الحياة يوم 05 - 05 - 2001

لا يتردد عبدالوهاب الأفندي في تسطير رأي سيثير نقمة الكثير من الإسلاميين، هو خلاصة أفكار كتابه الجدي والجريء "الإسلام والدولة والحديثة"، دار الحكمة - لندن 2001، الذي يمتاز بالنقد الإسلامي - الذاتي الصارم وإعلان الحرب على "التحليل المجاملاتي" الذي يطوّف في سماء الأماني والتغزل بالذات التاريخية. خلاصة الأفندي تقول: "... إن مفهوم الدولة الإسلامية الذي عمر به الخطاب الإسلامي الحديث لا يحتاج للمراجعة الشاملة فقط، بل ينبغي نبذه تماماً من مفردات الحساب السياسي حتى تعود العافية والعقلانية الى هذاالخطاب. والتعبير البديل الأفضل قد يكون دولة المسلمين، أو الكيان السياسي الإسلامي، أو أي تعبير آخر يعكس حقيقة ان الدولة التي ينبغي للمسلمين ان يسعوا لإقامتها ليست نموذجاً جاهزاً يتنزّل من علٍ وإنما هي ما ينتج عن الإرادة الحرة للأمة وبالتراضي من أفرادها وجماعاتها". ص 183.
وللوصول الى هذه النتيجة استعرض الأفندي مفهوم الدولة والسلطة في الفكر الإسلامي التقليدي عند ابن خلدون والماوردي والغزالي وغيرهم في ضوء التجربة التاريخية الإسلامية، ومقارنة ذلك بمفهوم الدولة الحديثة وتجربتها في السياق الغربي. لا يتورط الأفندي في إقحام مقارنات تفاضلية بين المسارين ومنظومات المفاهيم المرتبطة بها والتي لها سياقات متمايزة، لكنه يرصد التوافقات المثيرة بين دولة ابن خلدون "العصبوية" ودولة توماس هوبز "القهرية"، وكيف أن "مصلحة الدولة" و"تغلبها" كان هو البوصلة التي قادت التفكير الخلدوني والهوبزي معاً في النظر الى الآليات الأكثر نجاعة في تسيير الاجتماع البشري. وعلى رغم الافتراقات والاختلافات التي تفصل بين منظومتي الفكر الدولتي الغربي والإسلامي، وما حل بالمفهوم الهوبزي ثم لاحقاً الهيغلي من حصار على يد الليبرالية الغربية جون لوك، جيرمي بنثام، ستيوارت ميل... الخ التي أعادت الاعتبار للفرد وناصرته ضد تغوّل الدولة، إلا أن مكون القهر والفرض ظل يكمن في قلب مفهوم الدولة أياً كان مصدره الفكري. وبدا كأن كل ما يرجى عمله هو تدجين هذا المكون القهري وتحجيمه وإبقاء "المعركة" مستمرة ضد رغبته الدائمة في اكتساح الفرد، أو في تحويل أساليبه من وحشية مباشرة الى "وحشية ناعمة" وغير مباشرة كما يلاحظ أنتوني غيدنز في أطروحاته حول عنف الدولة. لكن ما يهم هنا وفي رصد الأفندي لفكر الإسلاميين المعاصرين تجاه معضلة الدولة هو ان مكون "القهر والفرض" لم يتم التصدي له في المفهوم الإسلامي للدولة، بل لقي ترحيباً باعتباره "الآلية" التي ستأخذ شكل القانون الذي به "تضبط" الدولة المجتمع وتضمن به انتظام الناس وفق الشريعة. ومن هنا يعتبر الأفندي أن أكبر عقبة تواجه الحركات الإسلامية اليوم "تتمثل في تبنيها للمفهوم الحديث للدولة باعتباره مؤسسة للهيمنة وضبط للحريات من دون الالتفات الى المبادئ الأخلاقية الفردية التي يستند إليها مفهوم الدولة الحديثة. كل هذا جعل من الإسلاميين المحدثين أشبه بالفاشيين في إصرارهم على جرجرة الأمة رغماً عن أنفها الى جنتهم الموعودة، خلافاً للمفهوم الأصلي للأمة ودورها" ص 174. والواقع ان الإسلاميين بتبنيهم لهذا المفهوم السلطوي للدولة لا يختلفون عن أقرانهم القوميين والماركسيين العرب الذين تبنوا فكرة الدولة الحديثة بأقصى أشكالها القاهرة والهوبزية، مسقطين كل الضوابط والمحددات التي نضجت بالتدريج في النموذج الغربي واستهدفت تقيّد تلك الدولة وضمان حرية الفرد ونديتها لها.
والذي يراه الأفندي مخرجاً لمأزق الفكر الإسلامي تجاه مسألة الدولة هو ان البحث عن هذه الدولة يجب أن يبدأ بالبحث عن الحرية للمسلمين، مؤكداً بهذا وموافقاً ما يراه راشد الغنوشي وفتحي عثمان، بخلاف كثر من منظري الإسلاميين. ف"الحرية والحرية فقط يجب ان تكون أساس البعث الإسلامي". والدعوة الى الحرية هنا، كما يردد الأفندي، تشمل "الحرية في ان يفكر المسلمون ويتصرفوا ويرتكبوا الآثام ثم يتوبوا عنها"، وذلك في سياق ان معركة المسلم يجب ان تتركز على "تحقيق هدف واحد: الديموقراطية وحق كل فرد في ألا يقهر ولا يجبر على أي شيء... لأنه في نهاية المطاف لا يمكن ان تكون الدولة الإسلامية إلا دولة ديموقراطية" ص 175.
يوجه الأفندي خطابه الناقد الى الإسلاميين ويدعوهم الى التبصر في مفهوم وضع الدولة الإسلامية الذي ينادون به، ويلقي أمامهم بما يراه التحدي الأبرز، ويقول: "لقد آن الأوان للمسلمين ان يواجهوا هذه الحقائق المريرة وأن يعترفوا بها تمهيداً لتجاوزها، بدلاً من التخفي عنها ومداراتها والاعتذار الذي لا يجدي. والتحدي الماثل الآن هو التالي: إن الدولة الغربية قامت على أسس أخلاقية مشكوك فيها وبنيت على افتراضات خاطئة حول الواقع، لكنها قدمت مع ذلك أنجح نموذج حتى الآن للكيان السياسي الذي يحقق السلام والأمن والعدل للمواطنين ويفجّر الطاقات الخلاقة للأفراد والجماعات ويؤلف بينها. من جهة أخرى فإن التاريخ الإسلامي أبرز نماذج سياسية تفوقت في نواح كثيرة على النموذج الغربي، وهو تفوق يزيد من علوه الفارق الزمني الكبير بين التجربتين. ولكن الممارسة السياسية للمسلمين عجزت عبر قرون متطاولة عن الارتقاء الى مستوى أي من النموذجين". ص 38. طبعاً، ما من شك في أن مثل هذه المواجهة الصريحة ستجد أصواتاً كثيرة ناقدة لها ولما ستعتبره "سطحية" في التحليل و"انبهاراً" بنموذج الدولة الغربية، وسترفع في وجه الأفندي الأطروحة القائلة إن هذه الدولة الغربية ما كان لها ان تصل الى ما وصلت إليه لولا استعمار الشعوب الأخرى ونهبها الذي مكن لها من تأسيس بنية اقتصادية تحتية وفرت البيئة الصحية لنمو أفكار المواطنة والمساواة والعدل. وسيضاف الى ذلك القول أيضاً إن باطن هذه الدولة متوحش يقوم على طحن الفرد ورشوته من قبل الشرائح الغنية والمسيطرة على الاقتصاد والسياسة والموارد العامة، على رغم ما يتبدى من حرية ظاهرية للفرد. والمعنى الضمني لهذه المحاججة متعدد الأبعاد لكنه منقوض: فهو من زاوية أولى محبط عملياً وإنسانياً حيث يقول إنه لا يمكن تحقيق العدل والمساواة ولو النسبية وكفاية الحد الأدنى داخل اي مجتمع من مجتمعات العصر الحديث بتعقيداتها وضخامة عدد سكانها إلا على حساب استغلال المجتمعات الأخرى. ويتضمن ذلك المعنى الضمني أيضاً القول إن الغرب ليس فيه خير على الإطلاق و"السذج" الذي قد ينبهرون بظاهر الأشياء ولا "يغوصون" في عمقها المعقد لا يفقهون الآليات التي تشتغل بها المجتمعات في الغرب. وعليه فإن النموذج الغربي مرفوض جملة وتفصيلاً، وهو النموذج الذي، شئنا أم أبينا، يحقق في الوقت الحاضر بين أفراد مجتمعاته، وبغض النظر عن صلف سياسته الخارجية، أكثر أنواع العدل والمساواة الفردية التي وصلت إليها الإنسانية في مقابل استبداد وظلم وطحن للفرد المجتمع في بقية أصقاع العالم ومنها البلدان الإسلامية. أما ما يتعلق بأطروحة "جوهر القمع" الذي يحياه الفرد في الغرب في مواجهة المادية الطاحنة والمؤسساتية الصارمة لحياته والسالبة لإنسانيته فإن فيها الكثير من الوجاهة وهي في الأصل أطروحة غربية المدرسة النقدية، ومدرسة ما بعد الحداثة، وسوى ذلك، لكن هذا النقد يجب ان يوضع في إطار النسبية ومقارنة وضع الفرد في الغرب بوضع الفرد في بقية العالم. فإذا سلمنا أن الفرد الغربي مقهور أمام الآلة والنظام والسوق والسياسة على رغم تمتعه بالحرية الظاهرية، فإن الفرد عندنا، على سبيل المثال، ليس مقهوراً فحسب بل إنه مسحوق ظاهراً وباطناً ومداس على فرديته وجماعيته وكرامته. ومحاولة نقض هذه المقارنة بالقول إنها مجحفة إذ يجب ان تستدعي وضع الفرد المصانة كرامته في الدولة الإسلامية المنشودة وليس في ظل الأوضاع القائمة الآن التي لا يمكن نسبها للإسلام فإنه نقض ضعيف أيضاً. فالأمر النظري، والعملي على حد سواء، الذي يرتبط بهذه الأطروحات ويفرض نفسه في قلب الجدل هنا هو انه لا يجوز محاججة التجربة الغربية الراهنة والمتحققة على أرض الواقع بنموذج خيالي لم يتحقق على الأرض. أي أنه من غير المفيد ولا المقنع المنافحة بالقول إن "الدولة الإسلامية"، النظرية والمثال، هي افضل بكثير من الدولة الغربية القائمة ما لم تسق أمثلة واقعية متحقق فيها ذلك المثال. والاستشهاد بالدولة النبوية والدولة الراشدة في مقابل الدولة الحديثة المعقدة ما عاد له مدلول معاصر نظراً الى تبدل الأمور الدولية وتشابك الحياة الاجتماعية داخل أي دولة وبين الدول في ما بينها، وتضاعف عدد السكان بشكل مهول، وكذا تراتبيات النظام الدولي وشرعياته، فضلاً عن اختزالات المكان والزمان والتطور التكنولوجي الكبير. كما أن الاستشهاد بأمثلة العصر الحديث ايران، أو السودان، أو أفغانستان، أو السعودية، أو ماليزيا، أو باكستان للتدليل على نماذج للدولة الإسلامية يرفضه الإسلاميون معتبرينها لا تعكس النموذج لتلك الدولة الإسلامية، ومن ثم تتم العودة الرومانسية الى النموذج النظري الذي يصوغه هذا الإسلامي أو ذاك، أو هذه الحركة الإسلامية أو تلك، بحسب الفهم المحدد والخاص، والمغاير في كثير من الأحيان لمفاهيم الإسلاميين الآخرين.
استحوذت قضية الدولة على فكر الإسلاميين عندما واجه المسلمون مع انهيار الخلافة العثمانية، ولأول مرة في تاريخهم، اختفاء المؤسسة السياسية التي مثلت القبلة التي تتوجه أنظارهم إليها، سواء تأييداً، أم نقداً، أم تمرداً. ويرصد الأفندي ردود الفعل الفكرية عند المفكرين الإسلاميين على ذلك الحدث المركزي. وإذا كان سقوط الخلافة وقيام الدولة الكمالية في تركيا تلازما على خلفية خضوع الأولى للحكم الأجنبي ومقاومة الثانية له، فإن التباساً عميقاً وقع في الوجدان الإسلامي. فالخلافة كانت تحولت الى ألعوبة بيد الأوروبيين، فيما كمال أتاتورك كان هو الثائر المقاوم. لذلك لم يكن من عجب أن ينادي مصلح كبير مثل محمد رشيد رضا بتأييد أتاتورك ضد الخلافة في المرحلة الأولى قبل انتصاره وإلغائه الخلافة بالكامل. والشيء المهم الذي يلتقطه الأفندي في التبرير الذي استندت إليه حركة أتاتورك في إلغاء الخلافة هو أنها وظفت عناصر النظرية التقليدية الإسلامية للخلافة نفسها من أجل إجهاضها. فمثلاً حاججت الحركة الكمالية ان من أهم شروط الخلافة المنصوص عليها في الفقه الإسلامي هو ان يكون الخليفة من قريش، وهو أمر غير ممكن في تركيا ص 82، كما أن تاريخ الخلافة في الإسلام، بعد الحقبة الراشدة، كان حافلاً بالاستبداد والبعد عن جوهر الدين، أي أنه لم يتم اختيار "أفضل المسلمين" لإناطة الحكم به كما تنص على ذلك النظرية التقليدية. وبذلك تغدو إقامة الخلافة بشكلها الناصع والكامل مستحيلة، ولهذا فلا حاجة لها. أي أن عدم إمكان العثور، مثلاً، على "أتقى المسلمين وأكثرهم حكمة وبصيرة وعلماً" ليكون هو الخليفة يقود الى التخلي عن البحث عنه وإلغاء منصبه كله. ويقول الأفندي إن جذر الاحتجاج الأتاتوركي يعود الى الاشتراطات التي نص عليها الفقهاء التقليديون في هذا المجال. وعندما يتعرض الأفندي الى الشرط الذي حفلت به كتب الفقه القائل بضرورة أن يكون الخليفة أفضل المسلمين، وأتقاهم، وأحكمهم، وأكثرهم علماً، فإنه يرفضه على القطع بسبب عدم عمليته وطوباويته المولدة للسلبية والعجز. فهو يقول إذا كان الحاكم يتصف بصفات قريبة من الكمال ويتقدم جميع الناس بأشواط كبيرة، فكيف يمكن ان نخضعه لمراقبتهم أو نطلب منه التشاور معهم؟ إنه غني بصفاته وإمكاناته عن الآخرين الذين هم أقل منه مرتبة ولا يجوز لهم نقده.
ويعتبر الأفندي أن أول صدمة لمسلّمات الفكر الإسلامي التقليدي في ما خص الدولة تمثلت في صدور كتاب علي عبدالرازق "الإسلام وأصول الحكم"، عام 1925، الذي أثار زوبعة فكرية ما زالت لم تهدأ حتى الآن. ففي الكتاب الذي صدر في حقبة فقدان التوازن التي رافقت سقوط الخلافة الإسلامية نفى عبدالرازق ان يكون في الإسلام سلطة سياسية، وأصر على أن سلطة الرسول ص روحية، وأنه نظام الخلافة التقليدي ليس واجباً في الشرع، وليس له إسناد نصي أو دليل شرعي وإنما ترك الأمر للمسلمين لتحديد الشكل والآلية التي يحكمون بها أنفسهم. ويعتبر الأفندي ان رد الفعل العنيف على عبدالرازق حرمت الفكر الإسلامي من تفجير نقاش ثري ومفيد ويعيد النظر في موضوعة الدولة الإسلامية برمتها.
وفي الحقبة التي تلت إلغاء الخلافة وقيام حركة الاخوان المسلمين بهدف استئنافها، يلاحظ الأفندي أن غموض موقف حسن البنا في سنوات التأسيس الأولى للحركة من فكرة الدولة قاد الى كوارث لاحقة. فكون الجماعة نشأت كرد فعل لغياب الدولة الشرعية دفعها لكي تتصرف احياناً كأن الدولة لا وجود لها 95، ويضرب مثالاً لذلك تأسيس التنظيم العسكري الخاص بالجماعة والمشاركة في حرب فلسطين. وبخلاف البنا، فرضت فكرة الدولة نفسها على أبو الأعلى المودودي في الهند ذلك أن مطلب وجود دولة للمسلمين هناك كان ملحاً ويحتاج الى تنظير فكري ونضال سياسي وعسكري. لكن الدولة التي يريدها المودودي كانت دولة لكل المسلمين في العالم ولا تقوم إلا بعد ان تصلح حالهم الاجتماعي ويضبطوا بالإسلام، وستكون السيادة فيها لله. وإزاء هذه الرؤية يلحظ الأفندي تعارضاً ومشكلات جمة منشأها وجود ثلاثة مفاهيم للسيادة: سيادة الله، وسيادة الأمة، وسيادة الخليفة. أما دولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي تعني عند المودودي "تحول الدولة الى سلطة شمولية تتدخل في أخص شؤون الأفراد، مما يعارض الطبيعة الديموقراطية التي عزاها لها المفكر" ص 100.
يتابع الأفندي تطور فكرة الدولة عند المفكرين الإسلاميين المعاصرين مشيراً الى أن سيد قطب أجلها لما بعد قيام المجتمع الإسلامي الذي تكون بذرته "الجماعة المؤمنة" التي اختزل "الشعب" فيها. وفي وقت لاحق حرر حسن الترابي "الشعب" من أسر منطق "الجماعة المؤمنة" وبالتالي لم يشترط "تطهر كل الشعب" من أجل قيام الدولة الإسلامية، وهو أيضاً رفض المنطق التقليدي حول "الإجماع" وبأنه إجماع العلماء الواجب اتباعه من قبل بقية الناس. واعتبر الإجماع هو اجماع الناس أنفسهم، الرأي العام، الذي تخضع له الدولة وتنظم إملاءاته من طريق سن تشريعات وقوانين. وبهذا فإن الترابي، وكما يقول الأفندي، "يكون قد رفع الدولة الى درجة المشرّع في أمور الدين والدولة في نفس الوقت الذي اخضعها فيه الى الإرادة الشعبية. ومن هذا المنطلق يكون الدور التشريعي للدولة هو في الحقيقة صورة أخرى من صور التعبير عن الإجماع الشعبي". لكن الترابي يحصر مهمة إقامة هذه الدولة بالحركة الإسلامية التي هي الطليعة ورائدة المجتمع، والوصية عليه. في المقابل كسر راشد الغنوشي احتكار الحقيقة من قبل الحركة الإسلامية أو الزعم بأنها الوصية على المجتمع وخياراته، وقال إنها مجرد حزب من الأحزاب في المجتمع تعرض برنامجها عليه فيقبل وينتخبها، أو يرفض وينتخب غيرها.
في جانب الفكر الشيعي يتوقف الأفندي عند "الثورة الفكرية السياسية" التي أحدثها الخميني عندما وسع مفهوم ولاية الفقيه ليشمل الحكم والسياسة بعد ان كان محصوراً في الخدمات الاجتماعية والرعائية. كما انه يشير، بمبالغة، الى ما قامت به أفكار علي شريعتي من تجسير الهوة بين الفكر الشيعي والفكر الحديث إبان الثورة الإيرانية، مجادلاً أن "الثورة الإسلامية في إيران ما كانت لتقوم لولا علي شريعتي، وأنها ما كانت لتلقى الدعم الواسع الذي وجدته بين جماهير الشيعة لولا الخميني" ص 107. ومن دون الاستطراد هنا فإن تقويم الأفندي لدور أفكار شريعتي، على رغم طبيعتها الخلاقة والثورية، مبالغ فيه. فشريعتي لم يكن يخوض الحرب على جبهة النضال ضد الشاه وحده، بل استنزف جهده على جبهات عدة أخرى داخل الحركة الإسلامية الشعبية الثائرة على الشاه، والتي كان كثير من رموزها لا يرتاحون لشريعتي ولا لأفكاره التي كانوا يرون فيها "غزواً ماركسياً" للفكر الإسلامي. لكن الانتقاد الأهم هنا لمعالجة الأفندي لتطبيقات أفكار الخميني والترابي حول الدولة الإسلامية هو في ابتسار المعالجة وعدم إشباعها على عكس المعالجات المطولة التي أوردها لمكونات الفكر التقليدي الإسلامي حول فكرة الدولة. فهنا نحن أمام نموذجين طبِّقا على الأرض، واحد ممثل للفكر السني وآخر للفكر الشيعي، لكن لا يغوص المؤلف فيهما كما يتوقع المرء. صحيح أن الأفندي نقد التجربة السودانية باقتدار في واحد من أهم الكتب التي صدرت حولها الثورة والإصلاح السياسي في السودان، 1995، لكن يبقى أن العهد تقادم بذلك الكتاب وحدثت من سنة صدوره وحتى الآن تحولات عميقة وكثيفة في واقع "الدولة السودانية"، وأنه لا يعفي الأفندي إحالة قارئه لمطالعة ذلك الكتاب لمزيد من التفصيل. أما بشأن التجربة الإيرانية وعلى رغم ان الأفندي للإنصاف، لا يجامل في توجيه النقد الصارم لها، فإنه لا يتوقف بما فيه الكفاية عند اهم مقولات الخميني في هذا الصدد. وهي المقولات الشهيرة الصادرة عام 1988 التي، كما يقتبس الأفندي، أكد فيها الخميني "أن مصلحة الدولة الإسلامية كما يعرفها الإمام طبعاً تعلو على كل قيمة أخرى وحتى على الشرائع الإسلامية والفرائض من حج وصوم... وأنه يجوز للإمام تعطيل كل نصوص الشريعة وحتى الفرائض... لحماية الدولة الإسلامية" ص 108. كان من المفروض بالأفندي ان يقارن هذا المنطق بمنطق الدولة "الهوبزية وطغيان تقديس الدفاع عنها وعن مصلحتها على كل مصالح الأطراف الأخرى، كالفرد، والقيم، والأبعاد غير المادية وسوى ذلك. وهذا يطرح السؤال في ما إن كانت "ليفاثان الخميني" أقل وطأة على الفرد ووصاية عليه من "ليفاثان هوبز"؟ هل يهرب الفرد المرتعد من وطأة "الدولة الهوبزية" الى وطأة "الدولة الإسلامية" التي فُقد فيها عنصر الثقة بأن الحكومة مقيدة بخطوط حمر يرسمها الشرع كي يحتمي الفرد وراءها، مبقية هذا الفرد مكشوف الظهر ومن دون أية حماية. إن حل "الدولة الإسلامية" كما رآه الخميني أشد وطأة من حل "الدولة الهوبزية" لأن الثانية تقطع مع السماء وتظل بشرية ويتناطح البشر في ما بينهم ويصطرعون في سياق تدجينها ولجم جموحها بالقوانين والدساتير، فيما الأولى تكرس "علاقة تفويض خاصة" مع السماء تبرر بواسطتها شطب كل شيء بما في ذلك قانون السماء نفسه. وفي هذه الحال لا يتمكن البشر من مناطحتها لعدم تكافؤ الموقف الذي ينطلق منه الواقعون تحت ظلم هذه الدولة حيث بشريتهم هي كل ما يملكون من اسلحة وبين الموقف الذي ينطلق منه الأوصياء على تلك الدولة حيث الزعم بقدسية الدولة هو أفتك ما يملكون من أسلحة.
على أن ذلك عدم إجراء المقارنة بين الفكرة الخمينية عن الدولة وسابقتها الهوبزية لا يعني ان الأفندي يتردد في نقد التطبيق العملي "للدولة الإسلامية" الإيرانية. بل إنه يقدم نقداً قاسياً ولا مجاملة فيه ويأخذ هذا النقد أبعاداً مهمة جداً كونه يصدر عن كاتب إسلامي متعاطف مع التجارب الحركية الإسلامية ومهموم بها. ففي سياق تقويمه لسلوك القيادات البارزة في الثورة الإيرانية يرى أن ذلك السلوك لم يبتعد عن أي نموذج يمكن ان يحتذى، بل كان تصارعياً وتقاتلياً لا يختلف عن صراعات الفئات غير الإسلامية. فالقياديون الإيرانيون "لم يتقاتلوا فحسب حول السلطة والجاه كأي بشر خطائين، ولم يتآمروا باستمرار ضد بعضهم البعض فقط بل إن الصراع من أجل المكاسب المادية ميز أيضاً تصرفات كثير منهم ولم يختلفوا في هذه التصرفات عن الكفار والمارقين، بل كانوا في أحيان كثيرة أسوأ. وفوق هذا فإن حكام إيران دأبوا على ارتكاب الأخطاء والفظائع وانتهاكات حقوق الإنسان وما إلى ذلك من اخطاء في الحرب والسلم، ما جعلهم يقصرون كثيراً حتى عن النماذج الإسلامية التقليدية التي يدينها الفكر الشيعي بقوة. وباختصار يمكن ان نقول إن الثورة الإسلامية وممارساتها خلقت من الأسئلة والمشكلات المتعلقة بالفكر والممارسة الإسلامية اكثر مما حسمت. ولقد حسمت الثورة وممارساتها من جهة اخرى أي شك يتعلق بالخلل الكبير في النظريات الإسلامية التقليدية حول الدولة والحكم وعدم كفايتها لحاجات المجتمع المسلم. ولعل أهم ما كشفت عنه الثورة الإسلامية في إيران هو عدم كفاية الضوابط المؤسسية التي حددتها تلك النظرية لمنع الاستبداد" ص 110. والنقد ذاته يعمله الأفندي بحق تجربة الإسلاميين في السودان إذ يقول إن تلك التجربة "كشفت الخلل الكبير في المفاهيم التقليدية الإسلامية في المجال السياسي، وأكدت تأكيداً حاسماً ضرورة التفكير في تشديد الضوابط التي تحكم الممارسة السياسية وتقوية دور المؤسسات على حساب الأشخاص" ص 111.
ويلتقط الأفندي سلبية طاغية تجذرت في وسط المجتمعات المسلمة وأكدها تقصير التنظير الإسلامي المعاصر متعلقة بمفهوم فرض الكفاية، وهذا الفرض كما هو معروف يعني ضرورة ان تقوم فئة من المسلمين بالقيام بفرض معين فإن قامت به سقط عن بقية المسلمين، بخلاف فرض العين الذي يتوجب على كل فرد القيام به. يقول الأفندي إن فقهاء الفكر الإسلامي التقليدي اعتبروا أن إقامة الدولة والدفاع عنها وحماية العقيدة هي فرض كفاية، وهو اعتبار وجد طريقه الى الفكر الإسلامي المعاصر. وهذا الاعتبار يعفي جمهور المسلمين كأفراد من الاهتمام بالشأن العام ويبرر لهم القعود وعدم الانخراط في جهد جماعي من أجل النهوض، خصوصاً في ظل الظروف الموضوعية والاتصالية المعاصرة التي تتيح لكل الأفراد إسماع صوتهم عبر الممارسة الدستورية والانتخابية وغيرها. وارتبط بهذه السلبية في نظرة الإسلاميين المعاصرين لأسباب تخلف المسلمين وهزيمتهم إلقاء تبعة هذه الهزيمة على الخارج الغرب، الاستعمار، الصهيونية... ويلاحظ الأفندي محقاً أن نشطاء الإسلاميين "يؤيدون بقوة الأنظمة المستبدة في العالم العربي وباكستان وغيرها، ما دامت هذه الأنظمة تتخذ خطاً متشدداً من أعداء الإسلام في إسرائيل والهند وغيرها" هذا مع إبداء التحفظ على الترخص في استخدام الوصف المطلق للهند بأنها من "أعداء الإسلام" ذلك ان الصراع بينها وبين باكستان ليس عقدياً مغلقاً، بل أعقد من ذلك، وإلا فكيف يصف الصراع الذي قام أيضاً بين باكستان وبنغلادش المسلمتين. ويعطي الإسلاميون أولوية التصدي للخطر الخارجي على التصدي للخطر الداخلي المتمثل بالاستبداد والفساد والظلم. ويرى الأفندي ان ثمة تلازماً بين كارثة الخطر الخارجي ونظيره الداخلي ف"الأنظمة الفاسدة المستبدة لا تفشل فقط في مواجهة الأعداء، بل إنها، بسبب فقدانها للدعم الشعبي داخلياً، تضطر للاعتماد على هؤلاء الأعداء أنفسهم للبقاء في الحكم. وفي الوقت نفسه فإن فظاعات هذه الأنظمة وسجلها المخجل في مجال حقوق الإنسان واحترام كرامته سجل نصراً لأعداء الأمة في المجال الأخلاقي، إذ إنه جعل هؤلاء مزهوين بما لهم من فضل على المسلمين الذين لا يسعهم إلا الخجل مما هم فيه من أوضاع لا تشرف أحداً" ص 172.
والخلاصة التي ينتهي إليها الأفندي هي دعوة الحركات الإسلامية الى تبني الديموقراطية من دون مواربة، وإلى الإعلان "الحازم" بالالتزام بها أساساً للحياة السياسية في أي بلد إسلامي وذلك لإبطال مفعول الاتهام الدائم لهم بأنهم، أو فئة متطرفة بينهم، تريد ان تفرض رؤيتها على المجتمع. فالتراضي بين شرائح المجتمع يجب أن يكون طوعياً، و"جوهر مفهوم الأمة ومبرر وجودها هو ضمان التعايش السلمي بين أعضاء جماعة بعينها". وبالنسبة الى الأفندي فإن "أخطر لبس في المفاهيم الإسلامية الحديثة هو تفشي الاعتقاد أن الدولة الإسلامية هي تلك المؤسسة التي ترغم الناس على العيش وفقاً لقيم الإسلام" ص 185.
* كاتب فلسطيني مقيم في بريطانيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.