من المنتظر أن يتم بعد أيام الإعلان عن استقلال كوسوفو لتنتهي بذلك آخر حلقة من مسلسل الانهيار الذي بدأ عام 1992 مع استقلال جمهورية سلوفينيا بعد حرب سريعة. ومن مفارقات التاريخ أن سلوفينيا بالذات تتولى الآن رئاسة الاتحاد الأوروبي الذي يرعى الآن استقلال كوسوفو. ومن المفترض ان يترافق الاعلان مع إرسال بعثة أمنية / قانونية تساعد الحكومة الكوسوفوية على تخطي مصاعب الشهور الأولى للاستقلال. ثمة آراء مختلفة حول دلالات هذا الاستقلال سواء بالنسبة الى البلقان أو أوروبا وحتى العالم. وإذا استثنينا السيناريوات المختلفة المتشائمة والمتفائلة فإن للأمر دلالة كبيرة بالنسبة الى الألبان والبلقان تحديداً. ففي مؤتمر لندن 1912-1913، الذي رسم خريطة جديدة للبلقان بعد الحرب البلقانية الأولى، أدت الخلافات والتجاذبات بين ممثلي القوى الكبرى إلى حل وسط يتمثل في الاعتراف بدولة ألبانية مستقلة ألبانيا تضم نصف الألبان فقط، بينما تم توزيع النصف الباقي على صربيا والجبل الأسود. ومع أن الألبان كانوا يعيشون في منطقة جغرافية متداخلة سكانياً واقتصادياً، إلا أن الفصل السياسي بين ألبانيا وكوسوفو التي قسمت أولاً بين صربيا والجبل الأسود ثم أصبحت جزءاً من يوغسلافيا في 1918 جعل الألبان يعيشون في واقعين مختلفين منذ ذلك الحين. ونظراً إلى أن الحركة القومية الألبانية، مثلها مثل القومية العربية، كانت متأثرة بالنموذج الألماني القومية الإثنية الذي يستلهم دولة قومية لم تتشكل بعد، فقد بقي زعماء الألبان في طرفي الحدود يحلمون بدولة قومية واحدة يطلقون عليها"ألبانيا الطبيعية"، بينما يطلق عليها الجيران"ألبانيا الكبرى". ومع أن الحزب الشيوعي وصل إلى الحكم في كل من يوغسلافيا وألبانيا خلال العامين 1944-1945، وبدأ بذلك شهر عسل كاد أن يتحول إلى اتحاد بين الدولتين، إلا أن الخلاف الأيديولوجي الشهير بين تيتو وستالين أدى إلى قطيعة شاملة بين الدولتين وإلى عزلة كاملة للألبان عن بعضهم بعضاً. ومع سقوط جدار برلين وبروز الموجة القومية الجديدة في أوروبا الشرقية، بدا أن انهيار يوغسلافيا الذي أدى إلى استقلال الجمهوريات"القومية"، يمكن أن يؤدي إلى حل ما للمشكلة الألبانية. ولكن حساسية المشكلة لم تعد تتعلق بكوسوفو وصربيا وألبانيا وإنما أصبحت تهدد"الجمهورية الرخوة"مكدونيا اذ إن استقرارها واستمرارها أصبحا مرتبطين ببقاء العنصر الألباني الذي يمثل الغالبية الساحقة في مكدونيا الغربية المجاورة لكوسوفو داخل هذا الكيان، أو بعدم الانضمام إلى كوسوفو وألبانيا في دولة واحدة. ومن هنا فقد كان الموقف الأوروبي متردداً في البداية حول الموقف من استقلال كوسوفو، إذ كان الموقف الأولي يخشى من تسريع الاعتراف بالاستقلال لئلا يؤدي ذلك إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة. ولكن مع الزمن بدا أن تأخير هذا الاعتراف هو الذي يؤدي إلى خطر انفجار داخلي في كوسوفو قد يؤثر في الدول المجاورة. ولذلك فقد تغير الموقف الأوروبي تدريجاً تجاه الاعتراف باستقلال كوسوفو على أن يرتبط ذلك بضمانات تؤكد عدم قيام أي اتحاد بين كوسوفو وألبانيا بعد إعلان الاستقلال. وقد بدا هذا بوضوح في المشروع الذي قدمه المبعوث الخاص للأمم المتحدة مارتي أهتيساري حول"الاستقلال المشروط"، الذي قيد هذا الاستقلال بشروط عدة منها التزام زعماء كوسوفو عدم الاتحاد مع أي دولة مجاورة ألبانيا. ولتأكيد ذلك اقترح وزير الخارجية البولوني السابق برونيسلاف غرمك أن يتم تسريع قبول كوسوفو وصربيا ومكدونيا في الاتحاد الأوروبي حتى عام 2015 وتأخير قبول ألبانيا عشر سنوات حتى يتبدد تماماً الهاجس من"ألبانيا الكبرى"! وفي المقابل كانت بلغراد تبرر رفضها القبول باستقلال كوسوفو باللعب على ورقة"الخطر الإسلامي"الجديد على أوروبا، اذ ان الدعاية الصربية تركز عادة على أن استقلال كوسوفو سيؤدي بالضرورة إلى تشكل"ألبانيا الكبرى"ذات الغالبية المسلمة 7 ملايين نسمة، وهذا يعني خطر قيام"دولة إسلامية"في قلب أوروبا. ولكن هذا الهاجس لم يعد واقعياً لأن الألبان هم أوروبيون قبل أن يكونوا مسلمين، وهم يتميزون بتعايش ديني مسلم - مسيحي بينهم منذ قرون عدة، يصلح أن يكون نموذجاً للآخرين. والأهم من ذلك أن النخبة السياسية في كل من ألبانيا وكوسوفو أصبحت واعية لكل هذه المتغيرات والتحديات. وقد عبر عن ذلك أخيراً رئيس الوزراء الألباني صالح بريشا حين قال:"ان توحيد كل الألبان في دولة واحدة لم يعد موضوعاً مطروحاً لا في تيرانا ولا في بريشتينا"، ذلك أن"الانقسام بين الألبان الذي استمر حوالي قرن من الزمن أدى إلى واقعين مختلفين". ومن ناحية أخرى لم يعد خافياً ان النخبة الألبانية الجديدة التي أصبحت تتولى مقاليد الأمور في كوسوفو في الاقتصاد والسياسة أصبحت لها مصالح متباينة عن مصالح النخبة الحاكمة في ألبانيا، وهي بالتالي ليست معنية بأي اتحاد مع ألبانيا الحالية. ولذلك يمكن القول ان استقلال كوسوفو سيزيل أخيراً الهاجس المسمى"ألبانيا الكبرى"، اذ ان الألبان يمكنهم كغيرهم أن يتحدوا تحت مظلة الاتحاد الأوروبي فقط.