في صباح الاربعاء في 24 آذار مارس الماضي نشرت في "الحياة" بعض السيناريوهات المحتملة/ القادمة في كوسوفو/ يوغوسلافيا، والتي تضمنت في ما تضمنت هاجس التقسيم ايضا. وعلى الرغم من ان الحديث حول هذا الموضوع/ التابو بدأ يُطرح علانية في بلغراد منذ عدة سنوات، وتحول الى موقف معلن لبلغراد خلال القصف الجوي، ووجد من يعتبره بمثابة "انتصار" لميلوشيفيتش اثر قبوله بالمشروع الاوروبي الاخير وتصويت البرلمان الصربي عليه، باعتباره يسمح له بأن يحصل على قسم من كوسوفو على الاقل، بدلاً من ان يفقدها كلها، الا ان التأكيد الغربي الحاسم في اليوم ذاته على رفض التقسيم يجعل لهذا التقسيم اكثر من مغزى هذه المرة. وعلى كل حال ان القرن العشرين، الذي عاشت خلاله كوسوفو مآسيها بشكل متواصل، شهد اكثر من مشروع تقسيم/ توحيد لها، يمكن ان تشكل "خبرة" لا بأس بها في التعامل مع مشكلة معقدة من هذا النوع. التقسيم الأول 1912 - 1915 كانت ولاية قوصوه كما كانت تُكتب حينئذ في مطلع القرن العشرين، وخاصة خلال 1910 - 1912، مركزاً للحركة القومية الألبانية المسلحة المطالبة بالحكم الذاتي في الاطار العثماني، التي تتوجت في 12 آب اغسطس 1912 بسيطرة قواتها على عاصمة الولاية اسكوب في ذلك الوقت - سكوبيه الآن وقبول اسطنبول في 18 آب بمعظم المطالب الألبانية. وقد أدى قبول اسطنبول بالأمر الواقع، الذي كان يعني في ما يعنيه تكريس تفاهم ألباني - عثماني في البلقان، الى تحالف سريع للدول البلقانية المجاورة صربيا والجبل الاسود وبلغاريا واليونان التي كانت تطمح بدورها الى التوسع في هذه المنطقة المهمة للدولة العثمانية. وبناء على مفاوضات ومعاهدات سرية لتقاسم هذه المنطقة في ما بينها، اعلنت هذه الدول الحرب على الدولة العثمانية الحرب البلقانية الاولى في تشرين الأول اكتوبر 1912، التي انتهت بخسارة الدولة العثمانية معظم اراضيها في البلقان. وضمن التحضير لهذه الحرب تم التفاوض بين صربيا والجبل الأسود حول مصير كوسوفو المجاورة لهما، التي كانت تطمع كل واحدة في التوسع فيها، والتوصل الى اتفاقية للتقسيم حصلت بموجبها صربيا على معظم كوسوفو بينما حصل الجبل الاسود على جيب مجاور لها يضم اهم مدينتين هما بيتش بيا عند الألبان وجاكوفيتسا جاكوفا عند الألبان. ومع ان هذا التقسيم استمر حوالي ثلاث سنوات فقط خريف 1912 - خريف 1915 الا انه بقي حياً في الذاكرة الألبانية بسبب الممارسات العنيفة التي وثّقتها الصحافة الصربية والاوروبية الغربية، وخاصة في الجيب الذي دخل في اطار الجبل الأسود حيث مورست وسائل وحشية لإجبار الألبان المسلمين والكاثوليك على اعتناق الارثوذكسية. التقسيم الثاني 1915 - 1918 كانت الحرب البلقانية الاولى والثانية 1912 - 1913 وما انتهت اليه من نتائج على الارض توسع صربيا على حساب الدولة الثانية تم على حساب بلغاريا من اهم الأسباب التي أدت الى الحرب العالمية الاولى. وقد بدأت الحرب، كما هو معروف، بنزاع نمسوي - صربي تحول الى حرب تورطت فيها اطراف اقليمية ودولية بسبب التحالفات القائمة. وعلى هذا الأساس فقد اغرت النمسابلغاريا بدخول الحرب الى جانبها بعد ان وعدتها بالتعويض عما خسرته في حربي البلقان الثانية مع صربيا في المعاهدة العسكرية السرية التي وقعت في 6 ايلول سبتمبر 1915، حيث حصلت بلغاريا على مقدونيا وقسم من كوسوفو. وبالمناسبة فقد كانت بلغاريا سبقت صربيا في التوسع في كوسوفو منذ اواخر القرن التاسع، واحتفظت بها بشكل متقطع حتى مطلع القرن الثالث عشر. وبقيت تنظر اليها باعتبارها جزءاً من بلغاريا التاريخية. وبالاستناد الى هذه المعاهدة جاء الهجوم المشترك النمسوي - البلغاري ليلحق بصربيا هزيمة مشينة في خريف 1915. وبناء على بنود المعاهدة تم تقسيم كوسوفو بين النمساوبلغاريا، حيث حصلت بلغاريا على القسم الجنوبي الشرقي المجاور لمقدونيا. ومع ذلك فقد جهدت بلغاريا في محاولاتها مع حليفتها النمسا للحصول على المزيد في كوسوفو، وخاصة على القطاع الاوسط الذي يضم اهم المدن بريشتينا وبريزرن، وبقيت تحاول ذلك حتى صيف 1917. وبالمقارنة مع التقسيم الاول كان هذا التقسيم ايضا يتميز بالتباين، ولكن بشكل اكبر بكثير، في السياسة المطبقة في كل قسم. ففي القسم الخاص بالنمسا كانت فيينا مترددة في ضمّه لألبانيا او الاحتفاظ به كما هو حتى صيف 1916 حين منحت الحكم الذاتي للألبان، بينما طبقت بلغاريا سياسة عنيفة لبَلْغرة المكان والسكان مما ابقى هذه الفترة حية في الذاكر الألبانية المتوارثة. التقسيم الثالث 1941 - 1945 كانت الحرب العالمية الثانية تعبّر في ما تعبّر عن رفض للواقع المفروض على عدد من الدول المانيا وهنغاريا وبلغاريا الخ نتيجة للحرب العالمية الاولى، واصرار على فرض واقع جديد في أوروبا يعيد الاعتبار لمصالح تلك الدول. وفي ما يتعلق بالبلقان فقد كانت معاهدات فرساي قد حجّمت بلغارياوالنمسا وهنغاريا وخلقت دولة كبيرة يوغوسلافيا حليفة للغرب تضم مقدونيا وكوسوفو وكذلك سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة التي كانت في اطار النمسا - المجر. وعلى نحو مماثل للحرب العالمية الأولى، أغرت المانيابلغاريا بالانضمام الى المحور لكي تعوض ما خسرته في الحرب العالمية الأولى، وجاء نتيجة لذلك الهجوم الالماني - البلغاري على يوغوسلافيا في نيسان ابريل 1941 ليخترق بسهولة يوغوسلافيا ويقضي عليها. وضمن المعاهدات المسبقة حصلت بلغاريا على معظم مقدونيا باستثناء مقدونيا الغربية التي تضم أغلبية ألبانية وعلى الجزء الجنوبي الشرقي من كوسوفو المجاور لمقدونيا. وفي الحقيقة كانت المانيا، التي ورثت الخبرة النمساوية الطويلة في التعامل مع البلقان، في ورطة كبيرة في ما يتعلق بكوسوفو بالذات. فقد كان عليها ان ترضي بشكل ما الأطراف المهمة المطالبة بكوسوفو: البلغار والصرب والألبان. فعلى حين كانت بلغاريا، الحليفة والمشاركة في الهجوم على يوغوسلافيا، قد ارتضت لنفسها معظم مقدونيا وجيبا مجاورا في كوسوفو تصل مساحته الى 900 كم2، كانت المشكلة في التوفيق بين الصرب والألبان. فقد أقامت ألمانيا في بلغراد حكومة موالية لها برئاسة ميلان نديتش وأرادت بشكل ما ان تدعم موقفها في ما يتعلق بكوسوفو، كما كان على المانيا ان ترضي الألبان الذين كانت تعتمد عليهم في سياستها البلقانية بالاتفاق مع ايطاليا. ولأجل التوفيق بين الطرفين لجأت المانيا الى حل تاريخي - سياسي. فقد انشأت في الجيب المجاور لصربيا، الذي يضم سهل كوسوفو الذي جرت فيه معركة 1389 الاسطورية، والذي عمّ اسمه ليشمل الاقليم كله ويشمل المناجم والمدن المهمة متروفيبسا وبودويفو وفوشترن، ما سمته "محافظة كوسوفو" وضمتها إلى صربيا! بعبارة أخرى بدا ان "كوسوفو" التاريخية، التي تشمل موطن الاساطير الصربية والمناجم المهمة للذهب والفضة والرصاص والفحم، قد ضُمت إلى صربيا الأم، بينما ضم معظم كوسوفو الأخرى ذات الغالبية الألبانية الساحقة إلى ألبانيا مع ضم مقدونيا الغربية ذات الغالبية الألبانية إلى ألبانيا أيضاً لترضية الألبان. ومن المفارقات أن هذه "محافظة كوسوفو" التي ابتدعتها المانيا النازية لحل مشكلة كوسوفو في 1941، مرشحة لأن تبرز من جديد خريطةً لأي تقسيم حقيقي لكوسوفو، لأنها بالضبط المنطقة التي تفضلها صربيا لموقعها وثرواتها وأساطيرها. وبالمقارنة مع الماضي، فقد كان هذا التقسيم يعني الكثير للألبان. فقد خرجوا من دولة مع يوغوسلافيا لا تعترف بوجودهم وثقافتهم إلى أداة يشكلون فيها النصف الآخر البانيا الكبرى. وبالمقارنة مع صربيا التي تمتع فيها الألبان بنوع من الحكم الذاتي في "محافظة كوسوفو"، تعرض الألبان في القسم الخاضع لبلغاريا إلى أسوأ معاملة. التقسيم/ التوحيد الرابع 1945-1948 تمخضت الحرب العالمية الثانية عن وصول الحزب الشيوعي إلى السلطة في كل من يوغوسلافيا والبانيا. ومع أن الحزب الشيوعي اليوغوسلافي تأسس في 1919 كان يعتبر يوغوسلافيا "صنيعة امبريالية" ويعمل لفرطها وتأسيس دولة قومية على أنقاضها، إلا أن موقفه هذا تغيّر مع وصول تيتو إلى رئاسة الحزب في 1937 وأصبح يطرح تأسيس فيديرالية للشعوب اليوغوسلافية المتساوية. أما الحزب الشيوعي الألباني تأسس في 1941 بمساعدة يوغوسلافية فقد كان أقرب إلى الموقف اليوغوسلافي حتى في ما يتعلق بكوسوفو. وهكذا لم يعارض الحزب في صيف 1945 سلخ كوسوفو عن البانيا التي ضُمت إليها في 1941 وضمها ثانية إلى صربيا/ يوغوسلافيا. وقد تميزت السنوات اللاحقة 1945 - 1948 بتقارب متزايد بين القيادتين - البلدين إلى حد الشروع في اتحاد فيديرالي بين الدولتين، مما كان يعني في ما يعنيه التوصل إلى حل جديد لمشكلة كوسوفو. وفي هذا الإطار تم تأطير حلف عسكري بين الدولتين في تموز يوليو 1946، وذهب أنور خوجا بنفسه إلى بلغراد للتوقيع عليه. وخلال هذه الزيارة بحث أنور خوجا مع تيتو في مصير كوسوفو في ما لو تم الاتحاد الفيديرالي بين الدولتين. وحسب الشاهد الوحيد على هذا اللقاء، السفير اليوغوسلافي في تيرانا آنذاك، أوضح تيتو لأنور خوجا أنه في حالة انضمام البانيا إلى اتحاد فيديرالي مع يوغوسلافيا، يمكن أن يُلحق بها معظم كوسوفو مع مراعاة اختلاط السكان والمواصلات والأمور الاقتصادية والاستراتيجية، أي بشكل مقارب ل"الحل الألماني" في 1941. وبالاستناد إلى شهادة السفير اليوغوسلافي خرج أنور خوجا من اللقاء مرتاحاً جداً للجواب/ العرض الذي سمعه من تيتو. إلا أن النزاع الذي نشب بعد ذلك في صيف 1948 بين ستالين وتيتو، والذي يعتقد أنه كان نتيجة لانزعاج ستالين من توجه يوغوسلافيا لإقامة فيديرالية بلقانية مع البانياوبلغاريا، قطع التوجه القوي للاتحاد الفيديرالي بين البانيا ويوغوسلافيا نظراً الى اصطفاف أنور خوجا وغيره مع ستالين في معركته ضد تيتو. التقسيم / التوحيد الاخير 1948 - 1998 كانت اول مشكلة تواجهها الفيديرالية اليوغوسلافية التي اقترحها الحزب الشيوعي خلال الحرب العالمية الثانية، هي الحدود التي تفصل بين الوحدات / الجمهوريات الفيديرالية المقترحة سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة وصربيا والجبل الاسود ومقدونيا. وهكذا فقد تم اعتماد الحدود التاريخية خلال الحكم العثماني في نموذج البوسنة، والحدود السياسية التي كان عليها الجبل الاسود وصربيا في 1912 باستثناء السنجق، والحدود الجغرافية الطبيعية لمقدنيا، اي ان المعايير الاثنية او الوسائل المعتبرة للتعبير عن رغبة السكان لم تعتمد في اية حالة واحدة. وفيما يتعلق بكوسوفو، التي كان معظمها مع البانيا خلال ذلك الوقت 1943 - 1944، عالجت القيادة اليوغوسلافية خلال النصف الثاني من 1944 ثلاثة اقتراحات منها تقسيمها بين صربيا والجبل الاسود كما حصل في 1912، او تقسيمها بين صربيا والجبل الاسود ومقدونيا، بينما تناول الاقتراح الثالث ضمّ كل كوسوفو الى جمهورية فيديرالية مجاورة صربيا او الجبل الاسود او مقدونيا. ولاعتبارات عديدة فقد اخذت القيادة اليوغوسلافية بالاقتراح الاخير، فكان ضم كل كوسوفو الى صربيا في ربيع 1942 مع منح الاقليم الحكم الذاتي. وفي ما يتعلق بهذا الخيار، الذي دخل حيز التنفيذ في ايلول 1945 بعد استكمال الشكليات القانونية / الدستورية موافقة المجلس الفيديرالي ومجلس الشعب في صربيا، رسمت بلغراد الحدود الادارية للاقليم في 1945 بشكل يترك اقلية ألبانية داخل صربيا محافظات بريشيفو وميدفيج وبويانوفس واقلية صربية معتبرة داخل كوسوفو 5 الى 25 في المئة. وفي 1959 تم تعديل الحدود الادارية للاقليم بعد ادخال اجزاء جديدة من صربيا محافظات ليبوسافيتش ذات الاغلبية الصربية الساحقة لتزيد بذلك مساحة كوسوفو 536 كلم2 اخرى فتصل مساحتها النهائية الى 10908 كلم2. وتجدر الاشارة الى انه مع توسع الحكم الذاتي في كوسوفو بعد 1966، وخاصة مع دستور 1974، اصبح لا يجوز اي تغيير في اراضي الاقليم دون موافقته المادة 5 من الدستور، واصبح الاقليم يعتبر وحدة فيديرالية مؤسسة للاتحاد الفيديرالي حتى الغاء الحكم الذاتي وتقاليد الدستور في 1989. التقسيم / التوحيد الاوروبي الاخير يُلاحظ في مشاريع التقسيم/ التوحيد السابقة انها كانت تترافق دائماً مع تغيرات وتوازنات اقليمية ودولية جديدة، وتستمر عادة باستمرار هذه التوازنات على الارض. وهذه المرة يلاحظ ان جيش تحرير كوسوفو، حين برز على السطح كقوة عسكرية في صيف ،1998 كشف عن برنامجه السياسي الذي كان يتضمن ضمّ كوسوفو ومقدونيا الغربية وجنوب الجبل الاسود وشمال اليونان الى البانيا، مما كان يعني قولبة جديدة للبلقان تنسف التوازنات الموجودة الاقليمية والقارية. لذلك ضغطت اوروبا الغربية والولايات المتحدة على جيش التحرير ليشارك في مفاوضات رامبوييه ويقبل بالحكم الذاتي الموسع في الاطار اليوغوسلافي، اي بالتخلي عن الاستقلال والاتحاد مع البانيا. وفي غضون ذلك كانت هناك مواقف اوروبية - اميركية واضحة تؤكد على رفض منح الاستقلال للاقليم لاعتبارات عديدة بعضها معلن وبعضها غير معلن. وعلى كل حال فالمشروع الاوروبي الاخير الذي وافقت عليه بلغراد يتضمن وجود منطقتين في كوسوفو، واحدة تنتشر فيها القوات الروسية والثانية تنتشر فيها القوات الاطلسية، مما يثير من جديد الحديث عن التقسيم سواء على النمط الالماني في 1941 او على النمط البوسني في 1995. ولكن من ناحية اخرى قد يكون هذا المشروع، التقسيمي من حيث التوزيع العسكري، توحيدياً من حيث التوجه السياسي، وهو يطرح في نهاية الامر الحل الاوروبي الجديد بالنسبة الى كوسوفو. فمع تراجع ميلوشيفيتش وانسحابه من الحياة السياسية لاحقاً كما هو الامر مع رادوفان كاراجيتش في البوسنة والتحول الديموقراطي المتوقع في صربيا بعد خضوعه، يمكن للاتحاد الاوروبي من خلال مشروع الانعاش الذي طرحه اخيراً ان يدمج بالتدريج البلقان العالم الثالث الاوروبي في اوروبا/ الاتحاد الاوروبي، وان يتم في اطار البيت الاوروبي حل مشكلة كوسوفو بين يوغوسلافيا والبانيا. ففي هذه الحالة لن تعود الحدود مشكلة ولن تكون هناك عقبة امام الانتقال والاستقرار في المنطقة، ولن يكون هناك ما يمنع الألبان من ان يكونوا معاً او الصرب من ان يكونوا معاً. وفي انتظار قرار مجلس الامن وتفاصيله وتطبيقاته خلال النصف الثاني من هذا العام، قد تنضج الامور في اي مسار تسير: التقسيم البلقاني او التوحيد الاوروبي. مدير معهد بيت الحكمة/ جامعة آل البيت - الاردن