لم يتصوّر أحدٌ أن العالم أصيبَ بعدوى الأزمة. الانهيارات في قطاعات العقارات والمصارف وأسواق المال والإنتاج تجاوزت الحدود. إنها وافدة اقتصادية، أو ربما"أنفلوزا"، أو فقدان مناعة اقتصادية ومالية. فإلى وقتٍ قصير لم يعتقد أحدٌ في العالم أن الاقتصاد الأميركي قد يقع. حتى مع انهيار مصارفه وقطاعه العقاري وصناعة السيارات فيه، كان رئيس أميركا يبعث الأمل في نفوس مواطني بلاده، يطمئنهم أن اقتصادهم"متين". لكن الرئيس المغادر، ترك لإدارته، خلال ولايته، أن تغض الطرف عن مخالفات في النظام المصرفي الأميركي، تسببت في أكبر أزمة في القرن وانعكست موجاتها الارتدادية الاقتصادية إلى العالم كلّه، وسيبقى أثرها لسنوات. فمطلع 2007 كان التفكير في تأميم أكبر مصارف في العالم يعد هرطقةً، لكنه حصل. وانتشار عدوى الأزمة، نابعٌ من انتشار أدوات المال الأميركية التي ابتكرها جهازها المصرفي، في غفلةٍ عن القوانين، وهرباً من الاحتياط الإلزامي الذي نصت عليه تنظيمات"بال-2"، والبالغ 8 في المئة. ففي ضوء الحدث، تبدو أميركا مصدر انتشار العدوى. عدوى التوسع في الائتمان الموبوء غير المضمون، وعدوى انهيار مؤسسات المال، وعدوى الانكماش الاقتصادي بلوغاً إلى الكساد. فالمصارف الأميركية التي هندست القروض العقارية، لم تفكر جدّياً بقدرة المستفيدين على السداد. ابتكرت آليةً للتخلّص من القروض والأخطار المرتبطة بها، في عملية التفافٍ على الاحتياط الإلزامي. والدليل على عدم اكتراثها، استمرار التوسع في توزيع القروض العقارية المجازفة، على رغم ارتفاع الفوائد عليها. ولم تكن المصارف الدائنة لتتوسع في مثل هذه القروض المجازفة، إلى عائلات دخلها غير مضمونٍ، لو أنها كانت ستحتفظ بالقروض في محافظها. لكنها تخلّصت منها عبر مستثمرين اشتروا رزم القروض الموبوءة. وتدخل كبار كيماويي الأخطار، القادرين على تحويل الرصاص إلى ذهب دورية ألتيرناتيف إيكونوميك. فابتكرت مصارف الاستثمار جمعيات خاصة، اعتبرت صناديق سوداء، حيث تُحضّر عمليات تسنيد المنتجات الأكثر تعقيداً. ففي البداية تشتري الصناديق الديون المختلفة عقارية، استهلاكية، مشاريع..، في شكل سندات تمثل الديون. ثم تعيد بيع المنتجات المجزأة إلى رزم ومكافآت وأخطار منوّعة مثل السندات التي تعتمد على أصول، وفي داخل كل صندوق أسود، نماذج حسابية معقدّة لا يفهمها سوى مبتكرها. باشر الجهاز المصرفي الأميركي، عمليات التسنيد بداية سبعينات القرن الماضي، وفي الثمانينات شملت مختلف القروض التي باتت قابلة للتسنيد: قروض عقارية، للمنشآت، لتمويل تملك المؤسسات أو اندماجها، للاستهلاك، لتغطية بطاقات ائتمان، وشكّلت منتجات السندات العائلة الكبرى للقيم المنقولة المعتمدة على أصول. توسعت السوق الأميركية بحيث باتت تتضاعف كل خمس سنوات بالغةً 11 تريليون دولار في 2006. ونظراً إلى تعاظمها، أحدث انهيارها اهتزازاً مدمراً، انتقل إلى البلدان التي اتقنت أدوات تسنيد القروض الموبوءة. وتسعى الولاياتالمتحدة حالياً، إلى إقناع الصين، بمساعدتها في التغلب على الأزمة. فأميركا تحتاج إلى أموال الصين المتراكمة في احتياطها النقدي، والصين تحتاج إلى السوق الاستهلاكية الأميركية لكي تصدّر إنتاجها الصناعي، ما لم تستطع أن تسوّقه في الداخل، وتكتفي به عن السوق الأميركية، وتتلافى أزمات اجتماعية خطيرة محتملة. وبمثل ما تكون أميركا رائدةً في"فقاعةٍ"ما، تنتشر إلى أنحاء العالم، قد تمهّد هذه المرة أيضاً الطريقَ، أمام دول العالم المتعثّرة اقتصادياً، للبحث عن ممولين. فخطط الإنقاذ المقترحة تحتاج إلى نحو خمسة تريلونات دولار، لن تتوافر بإيجاد عملة جديدة وتهديد القيمة الحقيقية للعملات، بل بالبحث عن موارد تمويل خارجية، تتوافر في احتياط البلدان الناشئة، تكسبها بواسطة سندات خزينة، وبفوائد رسمتها المصارف المركزية الكبيرة. وإذا كانت هذه الأخيرة تؤمن السيولة إلى الجهاز المصرفي لفترةٍ قصيرة، أو تضمن لها الودائع والقروض، فإنها تستعيد أموالها في سرعة، بينما تحتاج خطط الإنقاذ إلى تمويلٍ متوسط وطويل الأجل، يثمرُ نهوضاً اقتصادياً يقود إلى التنمية. يبقى أن تتوافر موارد المال وتحظى بضمان عالمي، فلا تهدر احتياط العالم من دون تحقيق نتيجة على صعيد النمو العالمي! نشر في العدد: 16684 ت.م: 08-12-2008 ص: 20 ط: الرياض