شدّدت الصين، خلال محادثاتها مع الولاياتالمتحدة، (الأسبوع الماضي)، على أن تلتزم أميركا وضع حدٍّ لتدهور عملتها، «بصفتها إحدى البلدان الرئيسة المصدّرة للعملات الاحتياطية في العالم، ويجب عليها أن توازن في شكلٍ صحيح وأن تتعامل على نحو مناسب مع تأثير المعروض من الدولار في الاقتصاد المحلي وفي الاقتصاد العالمي بأكمله». وعلى رغم أن الشريك الاستراتيجي في المحادثات حضّ الصين على السماح بارتفاع عملتها هي أيضاً، إلا أن انهيار قيمة الورقة الخضراء، يمكن أن يتسبب بأكبر أذى اقتصادي عالمي، نظراً إلى توسع الدّين العام وإلى العجز المتنامي في الموازنة وفي الميزان التجاري للدولة الكبيرة أميركا، حتى ولو تقلّص العجز الأخير نتيجةً لتراجع الواردات، لنمو الصادرات. والواقع أن الادخار العالمي الكبير، شكّل في فترةٍ من دورات الاقتصاد «المتسرّعة»، سبباً في الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. فارتفاع معدلات النمو التي استوجبت استهلاكاً كبيراً للنفط وللمواد الأساسية من منجمية وغير منجمية وزراعية، قادت الثروات العالمية إلى تحقيق فوائض في الاستثمارات المجزية والمتسببة في «الادخار الكبير»، ليس فقط لدى المصارف التجارية العادية في العالم، وإنما لدى المصارف المركزية ومحافظ الخزانات العامة، فضلاً عن تحويل قسمٍ منها، وفي شكلٍ سري، إلى الملاذات الضريبية وجناتها. وفي المقارنة، بلغ حجم رؤوس الأموال العابر للقارات 27 في المئة من الناتج المحلي العالمي في 2007 - 2008، ارتفاعاً من 22 في المئة عام 2000، أي نحو 15 تريليون دولار. لكن يتكوّن فارق من 5 إلى 7 في المئة من الناتج المحلي، لا يظهر في الإحصاءات بين المنشأ والمقصد، ويفترض أن ملاذه الجنات الضريبية. واستقطبت البلدان الناشئة لوحدها 5 تريليونات دولار نهاية 2008، حصة الصين منها 40 في المئة. وفي دراسة لثلاثة اقتصاديين أميركيين، (موريس أوبستفيلد، جاي س. شامبوف وألان م. تايلور)، يشكل الاحتياط العالمي الفائض «بوليصة تأمين» في مواجهة احتمال حدوث أزمة مصرفية محلية. فالمصارف المركزية تراكم احتياطاتٍ بمعدلاتٍ نمو أكبر من نمو الجهاز المصرفي في البلاد، لتشكل أرضية صلبة تساعد بها المصارف حين تواجهها أزمة ثقة. قبل الأزمة، تجنبت الاحتياطات العالمية الاستثمار في مجالات لا تؤمن عائداً مجزياً، نظراً إلى ضعف معدلات الفائدة الرئيسة عليها. ووجدت في قطاع العقارات الأميركية والبريطانية والأسبانية أوسع مجال استثمار في ظل فقاعة عقارية وأدوات مال منوّعة لكن شديدة التعقيد وغير منتظمة، سمحت لها بعطاءات استثنائية، مقارنةً بالاستثمارات العادية وجدوى أسهم الشركات السنوية. كما لم يعد الاستثمار على المدى الطويل، يتوازن مع دفق مالي عالمي يبحث عن أرباحٍ سريعة، لا يحققها إلّا في المجازفة وفي عمليات استثمار سريعة في عقارات وشركات ورزم أسهم كبيرة في أسواق المال. لكن بعد الأزمة انحصرت مجالات الاستثمار المضمون أمام هذا الاحتياط الهائل. صحيح أن المصرف الدولي، قدّر تراجع حجم رؤوس الأموال العابرة للقارات بنحو الثلث، إلّا أن ما تراكم قبل الأزمة وما بقي احتياطاً لمواجهة تداعياتها، يعتبرُ هائلاً ويبحث عن أسواق مضمونة تحصّن قيمة العملات المكوّنة منها، تحت طائلة حتمية استبدالها بعملة احتياط عالمية جديدة. وعلى رغم الانحسار في عمليات انتقال رؤوس الأموال العالمية، فإن لدى المصارف المركزية أموالاً تفوق بكثير حاجات الأجهزة المصرفية التجارية المحلية، فيما لو تعرّضت لأزمات. وباتت تلك الفوائض تشكل همّاً استثمارياً يجب أن يكون مأموناً. وفي التوزيع النسبي لاستقطاب الادخار العالمي، تصدّرت الولاياتالمتحدة ب49.2 في المئة نهاية 2008، أسبانيا 9.8 في المئة، بريطانيا 8، أستراليا 3.8، إيطاليا 3.5، اليونان 3، تركيا 2.5 وبقي 20.2 لبلدان أخرى. ويتوقع أن ترتفع حصة الولاياتالمتحدة نظراً إلى تغيير سلوكية الأسر والشركات الأميركية في الإنفاق والاستثمار،. فالأسر باتت تدّخر أكثر والشركات تستثمر أقل، ما يعني تراجع الدفق المالي إلى الخزانة العامة بنحو 4 نقاط مئوية من الناتج المحلي بحسب تقديرات مدير البحوث الاقتصادية لدى «ناتيكسيس» باتريك أرتوس. لذا تبقى الولاياتالمتحدة المقصد الأكثر جذباً لفوائض رؤوس الأموال العالمية، فهي من جهة في حاجةٍ إليها وعلى مدى طويل، لتنجح في تحقيق أهداف خطط إنقاذ اقتصادها، لكن من جهةٍ أخرى، تخشى البلدان المقرضة في مقدمها الصين بأكثر من 800 بليون دولار، من تدهور القيمة الشرائية لقروضها. لذا تشدّد على الولاياتالمتحدة أن تحد من تدهور سعر عملتها، فيما يهم الأخيرة أن ترفع الصين قيمة عملتها كي لا تعود منتجات شركاتها منافسةً للمنتجات الأميركية عالمياً ومحلياً.