لا شك في أن انتخاب رئيس جديد لأكبر قوّة اقتصادية في العالم، يشكّل منعطفاً أساسياً، ليس فقط على صعيد الولاياتالمتحدة، بل العالم أيضاً. فكيف إذا كان الرئيس يعد بتغيير يعقبُ أسوأ أزمة اقتصاد تضرب أميركا منذ"الكساد الكبير"قبل نحو 70 سنة، وتصيبُ تداعياتها البلدان المتقدمة وتعطب البلدان الناشئة ؟ لكن تبديل الرؤساء، قد لا يعني بالضرورة"تدجين"أزمة المال العالمية، فحجم ارتداداتها تجاوز قدرة الولاياتالمتحدة وقادة العالم وسعي الحكومات إلى ضبطها. خصوصاً أن بعض الارتدادات، الأقوى من الاهتزاز الأساس، كشف الوهن المتمادي في جسم الاقتصاد العالمي، فسَهُلََ انهياره. ماذا يستطيع أن يفعل باراك أوباما الرئيس، بعد أن لفت في خطاب"النصر"، إلى عمق الأزمة وتشعب معضلاتها، بحيث قد لا تكفيه ولاية واحدة لحلها! ما أيقظ المستثمرين من نشوة الفوز، ليقلقوا من مستقبل الاقتصاد العالمي، ومواصلة أسواق المال العالمية تدهورها بعد يومٍ من المكاسب، إثر فوز مرشح التغيير في أميركا، فاشتهرت تلك المكاسب بپ"ظاهرة أوباما". فأميركا الربان العالمي"المزهو بقدرته"، أفقد سفينة الاقتصاد الكونية توازنها. تشلّعت بنيتها. سقطت أشرعتها، وعلق غاطسها في رمال أزمة الائتمان المتحركة، بلوغاً إلى أزمة المال وانهيار الأسواق. منذ 1999، قادت أميركا مؤسسات المال العالمية نحو بدعة تسنيد القروض العقارية، ومن بعدها سائر القروض الشخصية. والتقديرات، لغاية نهاية 2007، أن القروض التي تحوّلت إلى سندات، فأدوات مال جديدة في الدورة الاقتصادية، بلغت نحو 23 تريليون دولار في الولاياتالمتحدة وحدها، ونحو تريليون وربع تريليون دولار في أوروبا ومثلها في بقية العالم. وتشكل القروض العقارية المسنّدة نحو 17 تريلون دولار في أميركا، عشية بدء زلزال الائتمان المجازف. الأزمة التي أفرزت ديوناً صعب إحصاؤها لغاية الآن، تجبه تحرّك الرئيس الجديد في سعيه إلى إيجاد حلول وإنقاذ مواطني بلاده من الفقر. وبدايات الحلول إعادة الأسر التي شرّدتها أزمة الائتمان، إلى منازلها. ولا يخفى أن قسماً كبيراً من أصحاب الوحدات السكنية، أول ضحايا أزمة الرهن العقاري المجازف، عجز عن تسديد قروضه، نتيجة اعتماد الفائدة المتحركة. فالقروض التي بدت مغرية في بداياتها، بدأت منذ نهاية 2006 وبداية 2007 تشكل عبئاً مالياً كبيراً على أصحابها. فاضطروا إلى أن يبيعوا مساكنهم بأدنى من سعرها الأساس ليسددوا ما عليهم من قروض. ويقدر الذين أخلوا منازلهم في 2007 بنحو 2.2 مليون أسرة والعدد المرتقب 3.7 مليون نهاية السنة، ما يشكل أكثر من 2 في المئة من عدد الأسر الأميركية. وفي الولاياتالمتحدة أيضاً، خسر 15 مصرفاً من 19 لغاية الآن نحو 333 بليون دولار، من 501.1 بليون الخسارة المعلنة للمصارف في العالم. زيدت رؤوس أموال 11 مصرفاً بمبلغ 158.9 بليون دولار، بيعت ثلاث مؤسسات مال وأعلن إفلاس مصرف واحد. معظم المصارف المنهارة، اعتبر، قبل مدّة،"ناطحات سحاب مالية"لا تُدك، لكن جرف الائتمان المجازف كان أقوى. المصارف لم تعد لديها مؤونة. حوّلت بلايينها إلى سندات، أنعشت الاقتصاد ريعياً. عوّمت القدرة الشرائية للأميركيين. أسقطت عنهم مخاوف الأخطار. لكنها فاجأتهم، بعد سنوات"البحبوحة"، بأنهم لا يملكون شيئاً. وأمام الرئيس أوباما، مشكلة العجز في الموازنة العامة، وسيزداد لتغطية مشروع الإنقاذ الأميركي، المعروف باسم وزير المال هنري بولسن، فيتجاوز 11 تريليون دولار. وسيواجه أيضاً، العجز في الميزان التجاري، لكن أهم المشكلات تأمين وظائف لأجيال الشباب الداخلين إلى سوق العمل للمرة الأولى، فضلاً عن العاطلين من العمل، سواء لعدم توافر وظائف أو لفقدانهم وظائفهم نتيجة الأزمة الحالية، ويتجاوزون عشرة ملايين، مع معدل بطالة 6.5 في المئة. ويصعب كثيراً على الرئيس المنتخب إيجاد سبل لتوفير وظائف كافية، بعدما دهمت الأزمةُ، الاقتصادَ الحقيقي، منتشرةً بين مؤسسات الإنتاج وتالياً الخدمات بلوغاً إلى مرابع الترفيه. وأهم ما يواجه الرئيس أيضاً، الاتفاق"الكوني"حول نظامٍ اقتصادي متين، يجمع بين ضمان الحرية المالية والاقتصادية وبين تدخل الدولة، إلى ضبط معايير منظمة التجارة العالمية. فالاتفاقات الثنائية طغت على الاتفاقات المتعددة الطرف في ظلها، وبلغت 213 في 2008، من 50 في 1990، مع تراجع اللجوء إلى المنظمة من نحو 50 شكوى في 1998 إلى تسع في 2008. لعلَّ أهم ما يفعله الرئيس أوباما، عدم لجوئه إلى"التفرّد"، فيتضامن في الآراء، مع المجموعة العالمية لإرساء القواعد والحلول، و... إنقاذ العالم!