شوارع العاصمة الأميركية واشنطن والتي كانت في 1968 ملتقى تظاهرات الشغب والتنديد باغتيال المناضل الحقوقي مارتن لوثر كينغ قبل أن تستقطب تجمعات معارضة لحرب فيتنام في السبعينات والمسيرات الحقوقية للحركة النسائية والعمال لاحقاً وأخيراً الحشود المناهضة للحرب على العراق، تحولت الى شاهد أمس على فوز الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، ومحطة لاحتفالات اختصرت المسافة بين شوارع المدينة والبيت الأبيض. ومع تخطي أوباما حاجز ال270 كلية انتخابية وفي تمام الساعة الحادية عشرة ليلاً بالتوقيت المحلي من ليل الثلثاء - الأربعاء، تهافت آلاف الأميركيين الى الشارع للاحتفال بفوز أسطوري لأول مرشح افريقي - أميركي يصل الرئاسة، ويرسم نقطة تحول في تاريخهم السياسي. صعود أوباما الذي تعرف اليه الأميركيون في خطابه في المؤتمر الحزبي في 2004 ومن ثم خوضه الرئاسة في أيلول سبتمبر 2007، واختراقه أصعب الحواجز في الانتخابات التمهيدية أمام هيلاري كلينتون وفي الانتخابات العامة أمام جون ماكين، يجسد الحلم الأميركي وتقاطعات سيرة كينغ وجون كينيدي اللذين ناضلا لإنقاذ الحلم وقتلا في منتصف الطريق. واشنطن التي لم تعتد على أن تكون مدينة صاخبة، استنفرت أمس احتفالاً بفوز الديموقراطيين الأول بالبيت الأبيض منذ إعادة انتخاب بيل كلينتون لولاية ثانية 1996. الحضور الذي ضاقت به الشوارع الممتدة من يو ستريت الى جورجتاون فجادة بنسلفانيا والبيت الأبيض، عكس الوجه الجديد للحزب للديموقراطي والتحالف الشعبي الذي أوصل أوباما، اذ امتزجت ألوان الأقليات من سود ولاتينيين وعرب وبيض سهروا حتى ساعات الصباح الأولى، ليرسخوا تغلب الناخب الأميركي على الإرث العنصري البشع وطي صفحة"اثر برادلي"أو"الورقة العنصرية"في الحملات الرئاسية والتي اضمحلت ولم تكن عائقاً رئيسياً في وجه أوباما. جاء اختراق المرشح لولايات مثل أوهايو وأيوا وكولورادو وفلوريدا وخصوصاً فرجينيا والتي اعطت أصواتها سابقاً لجورج بوش، ليعكس المنعطف المصيري الذي وصلت إليه الولاياتالمتحدة والذي يؤسس لمرحلة تتخطى الانقسامات العرقية والحواجز التقليدية بين الأميركيين. فوز أوباما ب 349 كلية انتخابية على الأقل وأكثر من 58 مليون ناخب، وحصد الديموقراطيين خمسة مقاعد جديدة في مجلس الشيوخ و23 في مجلس النواب، يتوج انتصارات الحزب منذ 1977 ووصول جيمي كارتر للحكم وفوزهم في الكونغرس، ويعد بتغيير جذري في الساحة السياسية الأميركية وفي السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة. داخلياً، يعني فوز الديموقراطيين الأول منذ 1996 في البيت الأبيض، مراجعة دقيقة لسياسات بوش طيلة السنوات الثماني الماضية وإعادة النظر بقوانين متعلقة بالمحكمة العليا وبموازنة الكونغرس. وستكفل السيطرة الديموقراطية تخصيص مبالغ أكبر للبرامج الاجتماعية والتعليم والضمان الصحي، كما ستطوي الصفحة على مدرسة المحافظين الاقتصادية وعهد رونالد ريغان وستفتح فصلاً جديداً يعتمد على التدخل الحكومي المحدود في السوق المالي ولمعالجة الأزمة الاقتصادية. وعكست الاستطلاعات ان 62 في المئة من الناخبين أعطوا أولوية للاقتصاد في أصواتهم، ما ساعد الديموقراطيين. السياسة الخارجية أما على صعيد السياسة الخارجية، فستعني عودة الديموقراطيين فرصة لإحياء الخطوط العريضة التي طبعت حقبة بيل كلينتون، والمعتمدة على علاقات جيدة مع روسيا، وانخراط في شكل أكبر مع الأوروبيين وفي الوقت ذاته، العمل على إعادة إحياء الديبلوماسية في الشرق الأوسط وخصوصاً في التعامل مع إيران وعملية السلام. وستفرض رئاسة أوباما، المعارض منذ البداية لحرب العراق، مراجعة لسياسة الولاياتالمتحدة هناك والموزانة الدفاعية لها. وستترك انتصارات الديموقراطيين خصومهم الجمهوريين في حال من الضياع والبليلة، في ضوء الخسارة الأكبر التي منيوا بها منذ سبعينات القرن الماضي. وسيبدأ الحزب اجتماعاته اليوم في فرجينيا لدرس خياراته الممكنة للعودة الى الساحة السياسية. الا أن تشتت أعضائه والانقسامات في معسكره وتحول البعض لأوباما الى جاتب انعكاس ارث بوش على القاعدة الحزبية ونقمة الرأي العام على اخفاقاته وخصوصاً الاقتصادية، ستؤخر هكذا عودة. وسيساعد واقع الجمهوريين الى جانب الفوز العارم للديموقراطيين، أوباما في نيل تفويض لم ينله قبله سوى رؤساء مثل رونالد ريغان وكارتر، واللذين فازا بهامش واسع وفي ظل سيطرة أحزابهم على الكونغرس. كارتر جنح الى اليسار وأخفق في حصد ولاية ثانية، أما ريغان فأسس الأكثرية الصالحة للحزب والتي سيطرت على المشهد السياسي مدة 28 سنة، فأين سيكون أوباما؟ احتفالات عبر الولايات في الكنائس والحانات، في الشوارع والمنازل، احتفل الأفارقة الأميركيون بالفوز التاريخي لأوباما بالدموع وإطلاق أبواق السيارات وصيحات البهجة. وفي غرانت بارك في شيكاغو، كان جيسي جاكسون المرشح الرئاسي السابق وسط حشد المؤيدين لأوباما الذين تجمعوا في شيكاغو للاحتفال بالنصر. وهذا الوجه المعروف في ساحة النضال من أجل تحرير الأفارقة الأميركيين استمع الى خطاب أوباما وعيناه مغرورقتان بالدموع. وقال الرجل الذي كان الى جانب مارتن لوثر كينغ لحظة اغتياله:"لم أكن أعلم متى، لكني لطالما اعتقدت ان ذلك أمر ممكن". وفي اتلانتا، في الكنيسة القديمة لزعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ، انطلق هتاف مدو تحية لإعلان فوز أوباما استمر دقائق عدة. وقال القس رافاييل وورنوك"في الليلة السابقة على اغتيال مارتن لوثر كينغ: ذهبت الى قمة الجبل ونظرت وشاهدت الأرض الموعودة. ربما لن اذهب الى هناك معك". وقال:"الليلة حققنا وعد أميركا". وفي نيويورك تدفق أشخاص من كل الأجناس من برودواي من جامعة كولومبيا الى مكتب حملة أوباما في شارع 105 وهم يرددون اسم"أوباما". وقاد مؤيدو أوباما سياراتهم في الشوارع وسط واشنطن لساعات، وهم يطلقون أبواق السيارات ويمرحون. وتجمع حشد من المئات خارج أبواب البيت الأبيض على رغم الأمطار وهم يقرعون الطبول.