عندما أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش قبل ثمانية أعوام انسحاب بلده من بروتوكول كيوتو للحد من تغيّر المناخ، كانت الحجة حماية الاقتصاد الأميركي من الانهيار. فالقيود التي يفرضها كيوتو لخفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، من النشاطات الصناعية ووسائل النقل وتوليد الطاقة، شكلت في رأي الادارة الأميركية عائقاً أمام التطوّر الاقتصادي. قبل عهد جورج بوش، كانت شركات صناعة السيارات الأميركية قد بدأت برامج طموحة لتطوير تكنولوجيات تخفف من استهلاك الوقود وتحدّ من الانبعاثات. خلال عهد بوش المشؤوم، أوقفت معظم الشركات الأميركية هذه البرامج أو تباطأت في تنفيذها، بسبب تخفيف القيود على كفاءة الوقود والانبعاثات. هذا أدى إلى الدخول في نفق الصناعة المتوحشة، فكبر حجم سيارات الدفع الرباعي ومحركاتها، وتم اطلاق مجموعة من السيارات الفارهة التي تشرب الوقود بنهم. في ذلك الوقت، التقط بعض المصنّعين اليابانيين والأوروبيين الاشارة، فأنزلوا إلى الأسواق سيارات تقليدية أكثر كفاءة، وأخرى هجينة تعمل بمحركي وقود وكهرباء في الوقت عينه. ولم تتنبه الشركات الأميركية إلى هذه القضية إلا مع الارتفاع السريع والحاد في أسعار النفط، وانخفاض مبيعاتها من السيارات الكبيرة، فوضعت خططاً عاجلة لتطوير انتاج سيارات بمحركات مقتصدة في الوقود وأقل انبعاثاً. نسرد هذا العرض للتذكير بأن السياسات الحكومية البيئية المنفلتة هي التي أدت إلى أزمة مصنّعي السيارات الأميركية، وليس التدابير البيئية التي حذّرت منها إدارة بوش. وقد فاجأ هذا الوضع الشركات الأميركية التي أُخذت على غفلة، فأسرعت إلى إحياء برامجها لتطوير محركات كفوءة، بما يعيدها إلى حلبة المنافسة. البعض لم يقرأ الكتابة على الجدران. فقد شهد الشهر الماضي أفظع انهيار للاقتصاد الأميركي، جرّ معه أسواق العالم جميعاً. وفي حين كان الرئيس بوش يحذّر من أن فرض القيود البيئية سيضرب الاقتصاد، حصل الانهيار العظيم في الأسواق المالية، ودخلت أميركا مرحلة كساد اقتصادي، على الرغم من وقوفها في وجه العالم كله رافضة الالتزام بمندرجات كيوتو، والقبول بوضع جدول زمني لما بعد كيوتو يكفل خفض الانبعاثات وفق نسب محددة. لقد ثبت بالبرهان الساطع أن رفض التدابير البيئية بالتخويف من تسبّبها بانهيار الاقتصاد كان وهماً. ها قد انهار الاقتصاد لأسباب بنيوية كثيرة أخرى، فخسرت أميركا في الاقتصاد كما في البيئة. بدأت بعض الأوساط الدولية تطرح همساً التخوّف من أن يؤدي الانهيار الاقتصادي إلى تراجع الالتزام بالبرامج البيئية. هذا، إذا حصل، سيكون جريمة تتجاوز ما تسبّبت به سياسات الارهاب البيئي للرئيس بوش على مدى ثمانية أعوام. نقول هذا الكلام في ذكرى سنتين على صدور تقرير الخبير الاقتصادي المرموق نيكولاس ستيرن حول الآثار الاقتصادية لتغيّر المناخ. فلنتذكر بعض ما جاء في هذا التقرير الذي تبنته الحكومة البريطانية: إذا لم نضع حدّاً لتغيّر المناخ فهو سيؤدي إلى تراجع الدخل العالمي بنسبة عشرين في المئة. أما إذا اتخذنا التدابير الاحترازية المطلوبة اليوم، فستكون الكلفة واحداً في المئة فقط. ويؤكد""تقرير ستيرن""أنه إذا تُرك الوضع على حاله، فسيؤدي تغيّر المناخ إلى تهجير مئتي مليون شخص بسبب الفيضانات وارتفاع البحار، إضافة إلى مئات ملايين"مهجّري المناخ"الآخرين الذين سيضرب أراضيهم الزراعية الجفاف. كما سيعاني واحد من كل ستة أشخاص في العالم نقصاً حاداً في المياه بسبب ذوبان المجالد. حذار من أن تدفع الأزمة الاقتصادية إلى إهمال البيئة. فهذه هي الطريق الأقصر إلى كارثة اقتصادية مدوّية، تجعل ما نشهده اليوم مجرد"مقبّلات". ناشر ورئيس تحرير مجلة"البيئة والتنمية" [email protected] ينشر بالتزامن مع مجلة"البيئة والتنمية"عدد تشرين الثاني / نوفمبر 2008