عنوان النشرة التي وزعتها الصين في اليوم الأخير لمؤتمر كانكون حول تغير المناخ يؤشّر بوضوح إلى المحطة التي وصلت إليها المفاوضات: «بينما نتابع الكلام، الصين تعمل». وإذ تشرح النشرة أن على الدول «عدم التقاعس في اتخاذ تدابير عملية لمواجهة تحديات تغير المناخ في انتظار الوصول الى اتفاقات ملزمة قانوناً»، فهي تعرض بالتفصيل لبرامج الصين في ترشيد استهلاك الطاقة واعتماد الطاقة المتجددة وتخفيض الانبعاثات من استخدامات مصادر الطاقة التقليدية، بما فيها تخفيف الانبعاثات من حرق الفحم الحجري لإنتاج الكهرباء بما بين 20 و40 في المئة. الصين تبني اقتصادها الجديد مستغلة فرصة تاريخية. فهي تدرك أن المستقبل هو للاقتصاد القائم على انبعاثات أقل من الكربون، لكنها تسرّع من وتيرة التنمية والإنتاج، خلال «فترة سماح» ما زالت تضعها خارج الشروط الإلزامية لخفض الانبعاثات، باعتبارها دولة نامية. غير أن الصين تدرك أن فترة السماح هذه لن تستمر طويلاً، وأن المستقبل هو للمنتجات «الأقل كربوناً». لذا فهي الآن في طليعة الدول المنتجة لألواح التسخين الشمسية والخلايا الضوئية الكهربائية، وتنفذ برنامجاً لإنتاج نحو عشرة ملايين سيارة كهربائية، مما سيجعلها المصدر الأساسي لتكنولوجيا ومنتجات الطاقة النظيفة. ومن اللافت إعلان فرنسا عزمها على إبطاء برنامجها لإنتاج الكهرباء من الخلايا الضوئية، لأن مصدر معظمها الصين. الواقع أن الصين تخطط لإغراق العالم بمنتجات يتطلبها التحول إلى «الاقتصاد الأخضر»، ولكن ثمن ذلك مضاعفة الانبعاثات من مصانعها، التي ما زالت خارج الحساب. ولأنها تعمل بلا قيود ملزمة، فهي تبيع بأسعار منافسة بحيث لا يمكن لبضائع الدول الأخرى مجاراتها. السر يكمن في «المسؤولية التاريخية» التي لحظتها الاتفاقية الإطارية حول تغير المناخ، التي فرضت على الدول الصناعية المتقدمة قيوداً فورية لأنها هي التي تسببت بمعظم انبعاثات غازات الاحتباس الحراري منذ الثورة الصناعية، ومنحت الدول النامية، في المقابل، فرصة للتلويث فترة إضافية، للحاق بركب التنمية الرخيصة الكلفة. هذه هي فحوى بروتوكول كيوتو، الذي تنتهي الفترة الأولى لالتزاماته عام 2012. خوفاً من العملاق الصيني وبقية الاقتصادات الناشئة، من الهند الى البرازيل وجنوب أفريقيا، قادت اليابان حملة لتعديل شروط بروتوكول كيوتو، بما يضمن «الوصول الى اتفاق جديد عادل وفعال، بمشاركة جميع الاقتصادات الرئيسية حول العالم»، على ما جاء في كلمة وزير البيئة الياباني أمام مؤتمر كانكون. هناك اتفاق على استمرار إعطاء الدول النامية شروطاً تخفيفية لخفض الانبعاثات، ولكن من غير المنطقي أن يبقى عملاق اقتصادي مثل الصين خارج القيود الملزمة. وفي لعبة القطة والفأر هذه، تختبئ الصين مرة وراء مجموعة الدول النامية المعروفة بال77 وتستغلها مرات، وتخرج عليها حين تتفق مع الولاياتالمتحدة، كما حصل في قمة كوبنهاغن عام 2009. الصين تدافع عن مصالحها، وهذا حق مشروع. لكنها تدرك أن متابعة التفلت من القيود غير ممكنة، وأن الاستمرار في بروتوكول كيوتو سيتطلب تعديلات لا بد من التفاوض حولها والاتفاق عليها في مؤتمر «دوربان» في جنوب أفريقيا نهاية هذه السنة. لكنها إذ تحاول الوصول إلى أفضل الشروط، تتقدم سريعاً في التحول إلى «الاقتصاد الأخضر»، لأنها تعلم أن لا مفر منه. الاقتصاد الأخضر هو الذي يستخدم الموارد الطبيعية بكفاءة، ويخفف من الهدر والتلويث. وهو هدف لا بد منه لمجابهة تحديات تغير المناخ التي تكاد تختصر المشاكل البيئية. تحول البلدان العربية إلى الاقتصاد الأخضر سيكون موضوع تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية عام 2011، وهو يشمل ثمانية قطاعات: الطاقة، المياه، الزراعة، الصناعة، البناء، النقل، النفايات، السياحة. وقد باشرت مجموعة من كبار الخبراء إعداد التقرير، الذي سيدرس سبل التحول في كل من هذه القطاعات، بما يجاري الاستثمار المستدام للموارد وحماية البيئة ومجابهة تحديات تغير المناخ، ويكفل في الوقت ذاته التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية. الصين كانت صادقة حين أعلنت في كانكون أنه بينما يستمر الكلام فالصين تعمل. إنها بالفعل تستغل فرصة تاريخية لتهيئة نفسها لعصر جديد، يقوم على الاقتصاد الأخضر. على الدول العربية أن تحذو حذو الصين، فتستغل «فترة السماح» لتحويل دخل البترول الى تكنولوجيا متطورة وتنويع اقتصاداتها، بما يضعها في موقع متقدم حين تدق ساعة الحقيقة. تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية عن الاقتصاد العربي الأخضر، الذي سيقدم إلى المؤتمر العام للمنتدى نهاية السنة، لن يكتفي بتحديد مواقع الضعف واقتراح خريطة طريق لبناء الاقتصاد العربي الأخضر، بل سيضيء على المبادرات الناجحة التي تقودها بعض دول المنطقة في هذا المجال: من برامج التكنولوجيا والطاقة المتجددة وتحلية المياه المالحة بالشمس في السعودية، و «مصدر» لطاقة المستقبل في أبو ظبي، ومشاريع طاقة الشمس والرياح في المغرب والجزائر ومصر، وانطلاق مجالس الأبنية الخضراء في دول عدة، وصولاً إلى بداية مشاريع احتجاز الكربون وتخزينه. سيعمل المنتدى مع البلدان العربية ليقدم إلى العالم، في قمة المناخ المقبلة في دوربان، تقريراً يقول: «بينما نتكلم، العرب يعملون». الانتظار لم يعد خياراً. * ناشر ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية» [email protected]/www.najibsaab.com