المقولة التي تعتبر أن كتابة النثر هي المحك الفعلي للشعراء هي مقولة صادقة الى حد بعيد. ذلك ان النثر يحرر الشاعر من قيود الاوزان والقوافي أو من استتباعات الايقاع التي تطيح بالكثير من مفردات اللغة وتجعل الشاعر أسيراً لما يتوافق مع ايقاعات قصيدته ولوازمها الموسيقية. وهو حين يعود الى النثر فإنما يستعيد فرصته الكاملة لاظهار ثقافته وبراعته التعبيرية ويتاح لموهبته ان تظهر على سجيتها وأن تتجول في قاموس اللغة الشاسع دون عوائق تذكر. كما ان التخفف من الاوزان والايقاعات الخارجية يظهر الشاعر على حقيقته ويرفع عنه غطاء الانشاد والتطريب اللذين يؤديان أحياناً الى تضليل القارئ عن حقيقة التجربة وباطنها. لهذا فإن مقولة إليوت التي تعتبر ان كل شاعر كبير هو ناثر كبير بالضرورة هي مقولة صحيحة الى حد بعيد. ويكفي ان نستشهد في هذا السياق بنثر إليوت نفسه كما ينثر شعراء كثر من أمثال كولردج ولوركا ونيرودا ونزار قباني ومحمود درويش ومحمد الماغوط لكي نتأكد من صحة هذه المقولة. ومع ذلك فثمة دائماً ما يشذ عن القاعدة وما يجعل الحقيقة نسبة وحمالة أوجه. وأولى هذه الاستثناءات في رأيي هي التجربة النثرية لبدر شاكر السياب. فالذي يقرأ"رسائل السياب"على سبيل المثال لا بد له ان يشعر بالدهشة والاحباط ازاء المستوى النثري العادي لهذا الشاعر الاستثنائي الذي ما زال شعره حاضراً ومتوهجاً في الساحة الشعرية العربية اكثر بكثير من معظم الشعراء العرب الأحياء. قد تكون هذه المفارقة متمثلة ايضاً في تجربة شاعر آخر مجايل للسياب هو البياتي ولكن تجربة البياتي الشعرية تقترب من بعض جوانبها من النثر العادي ومن مفردات الواقع السياسي والاجتماعي ومتطلباته. اما عند السياب فتبدو الهوة شاسعة بين شعره ونثره حتى ليبدو هذا النثر أقل تألقاً وعمقاً من"زميلته"في الريادة نازك الملائكة التي تبدو في كتابها"قضايا الشعر المعاصر"ذات باع طويل في المجالين الجمالي والنقدي. لهذا السبب كان لدي فضول دائم للعثور على نصوص نثرية اضافية للسياب وكنت أحسب أنني لا بد عاثر في مثل هذه النصوص عما يوازي قامة السياب الشعرية او يدانيها على الأقل. حين عثرت على كتاب السياب النثري الأخير"كنت شيوعياً"، الصادر عن دار الجمل، بادرت الى قراءته خلال ساعات قليلة من حصولي على الكتاب، الأمر الذي استلزم ليلة بكاملها من القراءة. سيظن القارئ بالطبع ان قراءة الكتاب في شكل متواصل ومن دون انقطاع لا بد ان تكون متصلة لفرادة النثر السيابي وتميزه. والحقيقة أن الأمر بخلاف ذلك وأنه ليس متصلاً بفتنة النثر عند صاحب"أنشودة المطر"وپ"منزل الأقنان"بل يكون صاحب النصوص هو السياب نفسه من جهة والرغبة في التعرف الى تجربته الحزبية وحقيقة علاقته بالحزب الشيوعي العراقي من جهة اخرى. واذا كان من الانصاف ان نشير الى ان الكتاب هو عبارة عن اربعين مقالة صحافية نشرها السياب في جريدة"الحرية"العراقية في العام الاخير من خمسينات القرن الفائت فإن ذلك لا يغير من حقيقة الامر شيئاً اذ ان الكتابة الصحافية لا تعفي الشاعر من اظهار لمساته الفنية والجمالية على النص المكتوب حتى لو كان هذا النص سياسياً بامتياز. ان المرء يشعر بصدمة حقيقية وهو يرى من السياب ذلك الوجه اللاذع في قسوته وحقده على الذين كان رفيقاً لهم لسنوات عدة من أربعينات القرن الماضي وخمسيناته. فالكتاب برمته هو تفنيد لمزاعم الشيوعيين حول الاشتراكية والعدالة ونصرة الشعوب، وهو تسفيه بالغ الضراوة لا لسلوكياتهم المنحرفة ومثالبهم الاخلاقية فحسب بل لكل ما يتصل بالمبادئ الماركسية والشيوعية بدءاً من المؤسس اليهودي للفكرة وصولاً الى شيوعيي العراق المتحالفين مع الصهيونية والمنافحين عن قيام دولتها. والصدمة بالطبع لا تتأتى من طروحات السياب نفسها، فهو يملك الحق الكامل في قول ما هو مقتنع به، بل في المفارقة الشاسعة بين الطبيعة الرمزية المثقلة بالأسى والعاطفة والحب لشعره وبين ما يحمله نثره من واقعية فظة ومباشرة ومن قدرة غير متوقعة على تعنيف الخصوم ورجمهم بكل انواع الشتائم والتشنيعات والتهم السياسية والأخلاقية. فهو لا يعفّ عن أحد منهم حتى ولو كان هذا"الأحد"زعيماً للحزب قضى نحبه بفعل عقوبة الاعدام مثل فهد أو كان أخاه الأصغر مصطفى بالذات. ولا يمكن قارئ السياب، الذي عرف في شعره كل هذا النهر الهادر من الحزن والالم والعاطفة المكسورة، الا وأن تجحظ عيناه وهو يقرأ قول السياب عن أخيه مصطفى:"أيليق بي ان أرد على تلميذ في الصف الرابع ثانوي؟ لو أنني أفصل من عملي لكنت اليوم أستاذه، ثم وجدت ان هذا التلميذ الفاشل ليس شخصاً اعتيادياً فهناك رابطة تربطني به لا سبيل الى نكرانها او تناسيها. مقال الكويتب ويعني أخاه بعد مقدمات أغرقها بدموعه وملأها بارتعاشات يديه شأن الكتابات التي يكتبها المراهقون المتأثرون بعبرات المنفلوطي انه وجد نفسه في معركة حتمية فرضتها عليه"ليتابع الشاعر بعد ذلك هجومه الساخر والصاعق على أخيه الصغير. على ان الطريف في الامر ان السياب لا يتورع من أجل ادانة الشيوعيين عن ادانة نفسه ومواقفه السابقة وعن اظهار انقياده الاعمى الى هذا الحزب واذ يدين في شكل قاطع مجزرة كركوك التي قال بأن الشيوعيين ارتكبوها اثر محاولة انقلاب فاشلة على عبدالكريم قاسم يبرئ هذا الأخير من أية فعلة او خطأ ويشير اليه باستمرار بوصفه"الزعيم الأوحد"أو"الزعيم العبقري"الذي يعود له، لا الى الشيوعيين، الفضل في توزيع الملكيات العراقية الكبيرة على الفلاحين. وهذا الزعيم العبقري هو نفسه الذي يقول الشاعر لدى تلقيه نبأ مقتله:"هرع الطبيب الي، آه لعله عرف الدواء / للداء في جسدي فجاء / هرع الطبيب الي وهو يقول: ماذا في العراق؟ / الجيش قار ومات"قاسم"/... أي بشرى بالشفاء! / ولكدت من فرحي أقول / أسير، أعدو دون داء". ومع ذلك فإن تحييد الشاعر لعبدالكريم قاسم، وهو في عز سطوته، في معركته الشرسة مع رفاقه القدامى هو أمر غير مستهجن بعد معاناة النفي والسجن والتشرد والفقر والمرض والطرد من الوظيفة وكل صفوف الحرمان التي لقيها خلال حياته القصيرة. أما الجانب الثقافي لدى الشيوعيين فلم يكن حظه أقل من الجوانب الاخرى، وإن الخلاف معهم قد نشأ في الأصل بسبب قصيدته الشهيرة"المومس العمياء"التي رأى فيها الرفاق قضية مفتعلة وهامشية ولا تستحق النشر، مفضلين عليها يومذاك قصيدة السياب الاخرى"الاسلحة والاطفال"التي تتناسب مع دعوتهم الى السلام بين الشعوب. واذ بدأ السجال القاسي بين الجانبين لم يتردد الشاعر في خلع كل مظاهر التواضع لديه مشيراً الى نفسه غير مرة بوصفه شاعر الحداثة الألمع ومنقضاً بالاسلحة كلها على خصومه وعلى شعرائهم بالذات. وقد خص زميله عبدالوهاب البياتي بهجومات عنييفة، خاصة بعد ان استخدمه الشيوعيون للنيل من رفيقهم"العاق"، حيث يقول:"ولاحظت آنذاك ان بعض المتشاعرين التافهين من أمثال عبدالوهاب البياتي وزمرته قد برزوا بشكل عجيب آنذاك نظراً لخلو الميدان لهم لأنني لم أنشر خلال وجودي في ايران والكويت بيتاً واحداً من الشعر". الا ان حربه على الرفاق قادته مرات عدة الى مجانية الموضوعية ووضع كل الشعراء المنتمين الى الشيوعية في سلة الابتزال والسطحية والسخف، خالطاً في شكل عشوائي بين القامات الشعرية العالية وبين الخطباء والزعماء السياسيين، كما في قوله:"لقد قرأت مثلاً شعراً لكثيرين من الشعراء الشيوعيين من ناظم حكمت وبابلو نيرودا وأراغون وماوتسي تونغ وسيمونوف فوجدته سخيفاً، بل وجدت الكثير منه لا يستحق ان يسمى شعراً". واذا كان السياب محقاً في ما يتعلق بماو وسيمونوف لكنه ليس محقاً على الاطلاق في ما يخص الاسماء الاخرى التي عرفت كيف تخترق الايديولوجيا وتنفذ من ورائها الى جوهر الانسان وجوهر الرؤيا الابداعية. أما دفاع السياب عن الشعر خارج وظائفه السياسية والاخلاقية وإعجابه بالتالي بشعر إليوت وشكسبير واديت ستويل فهو دفاع محق من دون ريب ويعكس تطور الشاعر وفهمه العميق لروح الشعر ودوره ومعناه. يبقى القول اخيراً إن القيمة الحقيقية لكتاب السياب"كنتُ شيوعيا"لا تتمثل في سداد آرائه أو عمقها كما لا تتمثل في فنيته العالية بل في كونه وثيقة شخصية واجتماعية فريدة مكنتنا من الوقوف على الوجه الآخر وغير المتوقع لشاعر الألم والحب الانسانيين. واذا لم يكن السياب متميزاً في نثره فذلك عائد على الأرجح الى كونه قد وهب حياته برمتها للشعر وأوقف لغته عند الذرى الاخيرة للتوتر والجيشان العاطفي والعصبي بحيث لم يترك للنثر ما يفعله بعد ذلك.