في كانون الأول ديسمبر 2006 توفي في أواغا دوغو، عاصمة بوركينا ناسو التي كانت تعرف بفولتا العليا، جوزيف كي - زيربو، صاحب كتاب"تاريخ افريقيا السوداء"1972، ومنسق كتاب الأونيسكو في الموضوع نفسه"تاريخ افريقيا العام"1986. وكان كي - زيربو أحد رفاق أميلكار لوبيز كابرال 1924 - 1973، من وجوه غينيا - بيساو البارزين قبل اغتياله، ومن جيل السياسيين المثقفين الذين اجتمعوا بباريس في أواخر خمسينات القرن المنصرم وأوائل ستيناته. وكان فرانتز فانون، الى المارتينيكي - الفرنسي ايميه سيزير، والشيخ انطا - ديوب السينغالي والرئيس السينغالي الأسبق الراحل ليويولد سنغور، وآخرين، يترددون الى حلقة مشتركة عرفت باسم دار نشر ودورية ثقافية وسمت بوسم"بريزانس افريكين""حضور افريقي". وأيقظ تأريخ جوزيف كي - زيربو أجيالاً من المتعلمين والناشطين الافريقيين على هويتهم الافريقية المتصلة والواحدة. وجمع في أذهانهم وحياتهم جمعاً وثيقاً بين هويتهم الافريقية وبين سيرهم الشخصية وعملهم وعلاقتهم ببلدانهم وسياستهم. وحين وفاة كي - زيربو، وكان الافريقيون، من شاطئ العاج ومالي الى السينغال وبوركينا فاسو يعرفونه بلقب"الاستاذ"، شيعوه بالآلاف، نساء وأولاداً وشيوخاً، متعلمين وأميين، الى مثواه الأخير في توما، على بعد 200 كلم عن اواغادوغو. وعلى الطريق من العاصمة الى البلدة التي كان أقام بها الى حين وفاته عن 84 عاماً، صلى المشيعون، وغنوا ورقصوا، واستوقفوا النعش وأدخلوه الكنائس، ثم ودعوه واسلموه الى موكب تشييع آخر ينتظره. ومعظم هؤلاء ليسوا من قراء"الأستاذ"، بديهة، وبعضهم لا يعرف أنه كتب ودرس. ولعل ما جمعهم وراء الراحل الافريقي هو علاقته، وعلاقتهم، بافريقيا. فهو تمثيل افريقي على وحدة الفكر والسياسة، واجتماعهما في أصل مشترك يتخطى انفصالهما الموروث من"الأنوار"الأوروبية. وفي داكار، مدينة السنغال الأولى، اختبر الفتى الذي أنهى لتوه دراسة متوسطة لم تكن في أواخر الثلاثينات مرحلة تعد صاحبها لمرحلة تالية، في عهد السيطرة الاستعمارية، اختبر العمل النقابي موظفاً في شبكة السكة الحديد. وخلص من تجربته هذه الى الرابطة التي تصل موضوعات النشاط النقابي ب"النظام الكولونيالي"نفسه، وب"جذره المحوري"، على قوله مسترجعاً بعض فصول تجربته. ولما بلغ السابعة والعشرين، لم يحجم عن التقدم الى امتحان الشهادة الثانوية العامة البكالوريا، وخولته علاماته الحصول على منحة دراسة جامعية بباريس. وفي عاصمة الامبراطورية درس العلوم السياسية في المعهد المعروف باسم هذه العلوم، والتاريخ. وانخرط في الحركة الاستقلالية، وزامل من مرت اسماؤهم أعلاه. وذهب في أحد مقالاته الاولى الى أن الفرق بين الوطنية الأوروبية والوطنية الافريقية هو جواز الثانية لاتصالها بالتحرر من السيطرة الأجنبية. فهي حركة استقلالية. والوطنية الاستقلالية تفضي حتماً الى معان كونية عامة وجامعة، وتدمج جماعة جزئية في عموم الانسانية. وفي 1954، نشر الشيخ انطا - ديوب كتاب:"الأمم السوداء والحضارة". وذهب الى أن لغة افريقية مثل الولوف في مستطاعها العبارة عن أكثر الأفكار تجريداً وعمومية، وتجاري في هذا المضمار اللغات الأوروبية الكبيرة. ونشر ايميه سيزير، في السنة التالية،"مقالة في الاستعمار". وآذن الكتابان الافريقيان، وهما كتبا بالفرنسية ولكنهما عبارتان عن فكرة افريقية، آذنا بخسارة أوروبا انفرادها بالعقل. وفي 1956 كان جوزيف كي ? زيربو أول افريقي يجاز بشهادة الامتياز اغريغاسيون" في التاريخ. ولم يحل"جلده الاسود"، على قول فانون كناية عن الافريقي، بينه وبين مساواة"الأبيض"، المستعمِر. ويقين الأسود المستعمَر بالمساواة هذه نفخ عزيمة جديدة وثورية في نفسه، على ما ذهب فانون في"مستضعف الارض"1961 قبل أعوام قليلة. واذا كان"التنوير"بحسب الالماني كانط، هو الرشد، أو اعمال المرء حكمه ورأيه في المسائل، فحال القاصر التي يعانيها الاسود المستعمَر، إنما مردها الى وطأة المستعمِر ووصايته. وعلى هذا فرشد المستعمَر وتحرره من استعماره والتسلط عليه، واستقلاله تالياً، واحد. ففي افريقيا"العالِم"صاحب الرأي والحكم، و"السياسي"طالب الاستقلال والعامل في سبيله واحد. وحين أعلن نكروما، في 1957، استقلال أول بلد غرب افريقي، غانا، كان كي - زيربو يدرس بداكار. وأعلن، من السنغال، انشاء حركة التحرير الوطني، وهي حركة تنتسب الى فولتا العليا والى افريقيا معاً، شأن استقلال غانا ودعوة نكروما. وشرط كي - زيربو الوحدة الافريقية بتعهدها تنوع الثقافة الافريقية ورعايتها والاقرار بها. ودعاه استقلال فولتا العليا، في 1960، الى ترك داكار. وفي بلده الأم عمل"الاستاذ"في التدريس، ثم في التفتيش التربوي، وتولى مديرية وزارة التربية، ولكن انفراد حزب الرئيس موريس يامييوغو بالدولة، حمل الناشط السياسي والمدرس على السرية. وأدى تحالفه مع النقابي جوزيف أويدراوغو الى خلع الحزب الواحد وطرده من السلطة، في 1966. وخلع عليه نشاطه السياسي وعمله في التدريس معاً لقب"الاستاذ". وفي الاثناء، طوال الاعوام 1960-1967 صرف معظم همه الى كتابة مؤلفه الكبير"تاريخ أفريقيا السوداء". وجمع مادته من مكتبات مدغشقر وزيمبابوي وكينيا والسودان وغيرها من بلدان أفريقيا. وجال في الأرياف والمدن، وسمع الروايات التي يتناقلها"الشيوخ"شفاهاً شيخاً عن شيخ. فهو أراد تلبية نداء باتريس لومومبا، رئيس الكونغو المستقل الأول وصريع الاستقلال، ورجائه:"في يوم لا محالة ان يقول التاريخ كلمته"، ولا بد من ان تكتب افريقيا تاريخها". فاستقلال افريقيا لا يتم فعلاً إلا بتوليها هي، وعن يد ابنائها، كتابة تاريخها، على ان يلتزم المؤرخون الافريقيون الصرامة والتدقيق المهنيين. فأوكل الى الوثائق المكتوبة والحفريات الأثرية والمرويات والألسنية والأناسة الاضطلاع بتقصي تاريخ القارة، فأظهرت الحفريات ان الحدود عالة على الجماعات، وتقتفي أثر حلها وترحالها، ولا قوام لها من نفسها. ودلت الألسنية الى لغة مشتركة محكية سبقت اللغات المحكية الكثيرة المتداولة اليوم. وهذه قرينة على بعض التجانس الثقافي، وعلى سبقها تشرذماً حاداً ضلع المستعمر فيه. وأبرزت الأناسة ان الملك هو كبير الأخوة والخال أخو الأم معاً، ويتصدر العشائر المتحدرة من نسب أمومي مشترك، وعلى هذا فهو رئيس أو شيخ حلف عريض من العشائر، وليس ملكه مملكة على مثال أوروبي. وأنكر"الاستاذ"قسمة التاريخ الى"ما قبل التاريخ"، تحشد فيه الشعوب والأقوام التي لم تتوسل الى التدوين بالكتابة، والى تاريخ يوقف على أهل الكتابة. فالتاريخ هو تاريخ الجماعات البشرية قبل ترتيبها مراتب. وعلى هذا فنحن، البشر المعاصرين، في السنة 3.002.007 لابتداء النوع، واليونان ليسوا"القدماء"، والمجوس معاصرون، على قول كي - زيربو نصف مازح ونصف جاد، وشدد المؤرخ على ان أفريقيا نسجت علاقات وثيقة، قبل الغزو الأوروبي، بآسيا الجنوبية من طريق المحيط الهندي، وبالقرب من طريق الصحراء الكبرى والبحر الأحمر. ولم تعتزل العالم، ولم يعتزلها، على خلاف زعم هيغيل ان أفريقيا أطرحت نفسها من"روح العالم"وتاريخه. وفصل شمال أفريقيا عن جنوبها، على رغم وجوه الشبه الكثيرة، مصطنع. ووحدة أفريقيا تستقوي بالصحراء، وبالمبادلات على جهتيها، ولا تنهار على عتبتها العريضة. والى هذا، فإفريقيا لا تقتصر، منذ قرون، على مداها الجغرافي، فهي تتسع وتمتد الى جاليات الشتات بأميركا والبحر الكاريبي وأوروبا. وتترتب على التاريخ الجديد هذا نتائج كونية استبق"الاستاذ"أبرزها. عن سليم عبدالمجيد أستاذ فلسفة، "إسبري" الفرنسية، 8-9/2007