تبدو الثقافة الإفريقية غائبة، أو شبه غائبة، عن حياتنا الثقافية العربية في الوقت الراهن، فعدا الأسماء الإفريقية القليلة التي نعرفها في الكتابة الروائية والشعر لم نقرأ كتاباً جدداً مترجمين إلى العربية منذ مدة طويلة. نعرف ليوبولد سيدار سينغور وإيمي سيزير ووول شوينكا ونغوجي واثيونغو وغينوا أتشيبي. هذه هي الأسماء التي وصلتنا في خمسينات القرن الماضي وستيناته وسبعيناته عبر ترجمات نشطة عن الإنكليزية والفرنسية، فيما ظل الأدباء الأفارقة الذين يكتبون باللغات المحلية، كالهاوسا والسواحلية، شبه مجهولين خصوصاً إذا لم يحظوا بالترجمة إلى الإنكليزية أو الفرنسية أو البرتغالية وهي لغات الأقوام التي استعمرت إفريقيا في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين. ولكن، وعلى رغم هذا الغياب القسري لآداب الأمم الإفريقية عن ثقافة مجاورة، بل ربما ملتحمة بها، كان لإفريقيا حضور ساطع في الوطن العربي خلال حقبة التحرر الوطني، وكان باتريس لومومبا وأحمد سيكوتوري وجومو كينياتا أشقاء جمال عبد الناصر واحمد بن بيلا في حركة عدم الانحياز. وقد أدى هذا الحضور السياسي في زمن التخلص من الاستعمار، وإنشاء الدولة الوطنية في إفريقيا والوطن العربي، إلى اهتمام ثقافي على الأقل من الجانب العربي وإنشاء مراكز للدراسات الإفريقية في مصر والجزائر وبصورة أقل في ليبيا والمغرب وتونس. وأدى أيضاً إلى ترجمة الأعمال الأدبية الإفريقية البارزة إلى اللغة العربية، وصدور عدد من الدراسات عن الآداب الإفريقية وتطورها. وكان فرانز فانون ولنتذكر نظريته حول الاستعمار وعلاقة المستعمِر بالمستعمَر في ضوء علم النفس والدراسات الأنثروبولوجية ملهماً للمثقفين، والسياسيين من قبلهم، ومحرراً للعقول من بعض الأوهام التي تمكنت منها في ما يتعلق بالتحرر من الاستعمار بمجرد خروجه من المستعمرات في إفريقيا والوطن العربي. وقد رأى فانون أن الجلود قد تكون سوداء لكن الأقنعة بيضاء حيث يتلبس المستعمَر صورة مستعمِره ويتصرف انطلاقاً من إعجابه المرضي بمضطهده. في هذا السياق من الوقوع في شراك جرح الاستعمار في خمسينات القرن الماضي وستيناته بدت إفريقيا شديدة القرب من العرب، فهي إضافة إلى تلك العلاقة التاريخية البعيدة التي تربطها بالعرب، وحضور الإسلام مكوناً أساسياً في تاريخ القارة السوداء وحاضرها كذلك، كانت شريكة في الكفاح ضد الغزاة الآتين من القارة الأوروبية، كما أن جزءاً منها هو عربي الأصل واللسان حيث يشكل المسلمون نصف سكان القارة تقريباً. مع رحيل جمال عبدالناصر وجومو كينياتا واحمد سيكوتوري، وضعف حركة عدم الانحياز، وخفوت صوت الكثير من حركات عدم التحرر ابتعدت القارة السوداء عن العرب، وبدا أنها انشغلت بصراعاتها السياسية وأمراضها المستعصية وحروبها العرقية والقبلية المدمرة، التي صارت عنواناً للتطهير العرقي وإفناء الجنس البشري. لكن أدب تلك القارة ظل يتسرب إلينا من خلال ما يكتبه كبار كتاب إفريقيا في اللغات الأوروبية. هكذا تعرفنا الى أعمال وول شوينكا الروائية والمسرحية، وحتى الشعرية والنقدية، في ترجمات أنجزها كتاب عرب كبار من حجم سعدي يوسف، كما قامت سلسلة حكايات الشعوب، التي كان يحررها إلياس خوري في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات وتصدرها مؤسسة الأبحاث العربية، بتعريفنا بشوينكا نفسه وجيمس نغوجي الذي سمى نفسه فيما بعد نغوجي واثيونغو متخلصاً من اسم المستعمر وبصمته الثقافية، وغينوا أتشيبي، وعثمان سيمبين، وفردينان أويونو، وغابرييل أوكارا، وكامارا لاي، وأسماء أخرى لامعة في الآداب الإفريقية المختلفة. كانت تلك الأعمال المترجمة تدفعنا للتعرف الى قلب القارة السوداء وتجعلنا ندرك حجم المشترك في المشاغل والآلام بين العرب وجيرانهم الأفارقة، وهو ما دفعني في بدايات الثمانينات إلى كتابة ورقة عن مشكلة الهوية في الروايتين العربية والإفريقية قدمتها لندوة انعقدت في العاصمة الجزائرية عام 1983 وشارك فيها كذلك كتاب عرب وأفارقة، وكانت اللغتان المستخدمتان هما العربية والفرنسية. لكن بعد أكثر من عشرين عاماً كشفت ندوة"العلاقات الثقافية العربية الإفريقية: رؤية مستقبلية"، التي عقدت قبل أيام في مدينة سرت بليبيا بالتعاون بين رابطة الكتاب والأدباء في ليبيا والاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وحضرها كتاب ونقاد وباحثون من ليبيا والوطن العربي وإفريقيا، أننا لا نعرف بعضنا بعضاً: لا العرب يعرفون الأفارقة، ولا الأفارقة يعرفون العرب. جهل شبه مطبق، وغياب لسبل التواصل وآفاق التعرف الى آداب بعضنا بعضاً. جميع الذين حضروا من الكتاب الأفارقة، بمن فيهم أوتوكاي أوكاي رئيس اتحاد كتاب عموم إفريقيا، مجهولون بالنسبة الينا. أما نحن فغير معروفين على الإطلاق بين تلك الجمهرة من كتاب إفريقيا، باستثناء معرفتهم بالليبيين الذين يتواصلون معهم، من خلال الاتحاد الإفريقي ربما. كانت الندوة نوعاً من حوار الطرشان في غياب ترجمة أوراق العمل، واكتفاء منظمي الندوة بترجمة مختزلة إلى العربية والإنكليزية. وقد كانت تثور، بين الحين والآخر، ضجة بين الكتاب الأفارقة معلنين احتجاجهم على سير الندوة لأن الترجمة لا تفي بالغرض، ولكونهم غير قادرين على متابعة النقاشات الحادة التي تدور أحياناً بين المشاركين العرب. أحد الكتاب الأفارقة علق قائلاً إن هناك ندوتين اثنتين تجرى وقائعهما في القاعة واحدة إفريقية والثانية عربية، فما الغاية والفائدة المرجوة من لقاء يحضره كتاب عرب وأفارقة؟ ذلك السؤال الاستنكاري جسد جوهر الانقطاع بيننا وبينهم، وركز الضوء على عدم معرفتنا بهم أو معرفتهم بنا. ظهر ذلك أيضاً في تقوقع الأفارقة على أنفسهم، وعدم إدارتهم حواراً مع المثقفين العرب الساعين حولهم، وعدم اقتراب أي من الكتاب العرب المشاركين في الندوة من نظرائهم الأفارقة الذين بدوا مكتفين بحضور الندوة، على مدار أربعة أيام طويلة، والاكتفاء بالنزر اليسير من الترجمة إلى الإنكليزية الذي يمن به عليهم أكاديمي ومترجم ليبي آت بالصدفة من الولاياتالمتحدة الأميركية! إنها قمة المأساة من جانبنا على الأقل، لأننا نحن من دعوناهم واقترحنا عليهم عنوان الندوة عن علاقاتنا الثقافية معهم لكننا اكتفينا بالتحاور مع أنفسنا، والتباهي بدخول الإسلام إلى إفريقيا، والعودة أعمق أعمق في التاريخ لنصل إلى نقطة تبعد آلاف السنوات في العلاقات العربية الإفريقية عندما كان العرب في شبه الجزيرة يرتحلون إلى القارة السوداء بدءاً من الحبشة التي لها في تاريخ الإسلام علامة وموعد لا ينسى. كان الماضي هو المهيمن إذاً، فيما الحاضر غائب تحت ستار كثيف من الجهل وعدم البحث والاكتفاء بالعتيق من الكلام نمضغه على مهل علنا نقنع أنفسنا أننا كنا يوماً سادة الأرض ومكتشفي القارات اللصيقة بعالمنا.