قبل عامين حكى لي كونديرا قصته مع غابو. قال انهما كانا في آلاسكا في دعوة لم يقص لي من كان صاحبها. كانا في حمام"سونا"غابرييل وهو. كان غابو سعيداً بالدفء الذي يبعثه بخار الحمام ثم حانت لحظة الانتقال الى صقيع السونا خارج الحمام، في برودة آلاسكا التي وصف جاك لندن لسعتها. تردد غابو ثم رفض ان يرمي نفسه على الجليد. حمل كونديرا نفسه وركض نحو ماركيز الواقف خلف النافذة الزجاجية، حمله ومشى به الى الخارج وغابو يصرخ: اللعنة عليك يا كونديرا ستقتلني، كأنك لا تعرف اني شجرة فلومبيون تموت اذا مسها الصقيع. كان كونديرا يضحك وهو يقص ذلك. انه خفيف الوزن على رغم ربعته. أضاف. تحدثنا بعد ذلك عن هاري، بطل همنغواي، في رواية"وداع السلاح"أو"وداع للسلاح"كما ترجمت الى العربية بقلم المعلم منير بعلبكي. قلت له : هل فكرت يوماً أين مضى هاري بعد ان تركه ارنست ماشياً تحت المطر؟ هل تزوج بكاترين أخرى أم دخل في حانة أم ما زال يسير تحت المطر؟ توقع كونديرا انه ما زال يسير تحت المطر، كما في مخيلة كل القراء. قلت له أني اكتب مقالة عن ما بعد الرواية، أين يمضي هؤلاء الذين عرفناهم والفناهم في صفحات عدة بعد ان ننتهي من قراءة الرواية؟ ماركيز، لا بد انه فكر بذلك لذلك لم يترك أحداً حياً في نهاية روايته التوراتية. فالعاصفة تقتلع ماكوندو وبيوتها وأشجارها وصحائف الرقاق التي كان يقرؤها اركاديو، وهي الوثيقة الوحيدة التي تؤكد لنا وجود ماكوندو في فاصلة من فواصل كتاب التاريخ. ليس من شاهد على كل هذا غير الرواية"مئة عام من العزلة"التي لا يمكن مقارنتها بأي وثيقة تاريخية أخرى، فالعاصفة ألغت حتى من"يحتمل"ان يكون شاهداً على وجودها. وهي بهذا رواية نهاية التاريخ وبداية رواية للتاريخ السحري، تاريخ بلا جذور بل تاريخ اللاجذور. انها بهذا المعنى الرواية الضد بلزاكية الباحثة عن ترسيخ الجذور. قبل ستة شهور، في قرطاجنة كولومبيا"كارتخينا"كما يسمونها تحدثت مع غابو في الموضوع ذاته. كان ساهماً، كما في كل الأيام التي قضيناها سوياً. ابتسم ثم شرح لأورسولا"زوجته"ما قلت وبعد ان انتهى التفت لي بهدوء والابتسامة لا تفارقه: لا أتذكر جيداً الأحداث لكن ما تقوله ممكن. كنت صغيراً حينها - كان يريد ان يقول كنت شاباً حينها فقد كنا نتحدث بالفرنسية والإسبانية معاً والعبارة تلك قالها بالفرنسية - وكانت ذاكرتي اكثر اتقاداً. ضرب على يدي ثم امسكني وقال لنشرب نبيذاً. بعد ذلك طلب لي ان أحدثه عن صورة أمي التي احبها في قراءته لپ"وداعاً أيها الطفل". كان المساء مكتظاً بالحنين وريح الكاريبي المحملة بعطر جزر الليساريو القريبة تزيده حنيناً. تعشينا تلك الليلة بهدوء وغادر غابو المائدة مبكراً بطلب من زوجته فقد كان متعباً. لم ارو له هذه الحكاية الصغيرة التي حكتها لي أمي قبل سنين بعيدة حينما لم يكن الكاريبي بالنسبة للطفل غير مفردة مبهمة. ذلك قبل ان تدور السنوات ويجد الطفل ذاته نفسه في ضيافة الكاتب الذي علمه حب هذه المفردة: الكاريبي... قالت أمي ذلك المساء، وعيناها تنظران في بحر بعيد لم تره يوماً: "جاء من بعيد. من ارض لا يجدون فيها للذهب قيمة. كانوا يسمونه دمع القمم. كان كالتراب على سفوح جبالهم التي تورق أشجارها ذهباً. لكنه قبل ان يترك بلاده اخذ حفنة من الأوراق ووضعها في خرجه. قال لنفسه: الدنيا غادرة والإنسان اكثر غدراً. مضى بعيداً وعبر البحر المظلم في الليل كما في النهار. التقى ببحارة لا يجيدون الكلام بلا شراب في بطونهم وشاهد من البعيد مدناً تشبه خلايا النحل وهرب من كواسر تزأر فتهتز لزئيرها الجبال. ثم وصل مدينة خالية إلا من رجل يحرس أسداً في قفص يتدلى من سقف قبة ذهبية لم ير اكبر منها. اخبره الرجل ان الآس قد مات وهو لا يعرف ما الذي سيفعله الآن بحياته. فهو، رجل المدينة، لم يعرف شيئاً في حياته غير ان يطعم أسداً في قفص. بعد أيام غادرا سوياً في طريق لا يعرفان نهايته. أكلا وشربا ما أعطاهما الطريق. في الرحلة شعر الرجل بالتعب فطلب من رجل المدينة ان يحمل خرجه الذي لم يبق فيه غير أوراق الذهب. أطاع رجل المدينة ومضيا. نسي الرجل خرجه على ظهر رفيق سفرته ونسي رفيق السفر انه يحمل خرجاً محملاً بأوراق الذهب. بعد مسيرة سنين حلا في مدينة نبتت في وادٍ لا ينبت فيه زرع فاستقرا هناك. كانت آخر الرحلة فبعد تلك المدينة يبدأ البحر الذي لا نهاية له ولا عودة منه. قالا: انه القدر المكتوب في اللوح المسطور. سكن كل منهما في طرف من المدينة. تقاسما الشرق والغرب وكانا يلتقيان في سوق المدينة كل هلال. تذكر الرجل خرجه يوماً فطلب من صاحبه حينما التقيا ان يرده فلم يرفض رجل المدينة بل وعده ان يرده حين يلتقيان في الهلال المقبل. هكذا كل مرة يقول له: في الهلال المقبل ويضيف: ان شاء الله. مرت سنوات وهما كذلك واحدهما في شرق والآخر في غرب. نسي الاثنان الخرج وأوراق الذهب التي فيه لكنهما كل مرة يلتقيان يرددان الكلمات ذاتها. الآهلة لا تنتهي وهما في مدينة لا زرع فيها لكنها مدينة كُتب على كل من داس ترابها الخلود. نُسيت المدينة منذ ان كُتب على أهلها الخلود لكن لم ينس الرجلان ما تعاهدا عليه في عبارة: في الهلال المقبل، وبعدها: ان شاء الله. قالت لي أمي وهي تبتسم، مثل ابتسامة ماركيز المتعبة: اذا وعدت أحداً فلا تقل له غداً، لأن كل شيء ينتهي يوماً إلا غداً فهي لا تنتهي أبداً. وأضافت: إلا بإذن من الله.