تلملمُ أسواق المال العالمية ذيول انعكاسِ أزمة الرهن العقاري الأميركي، العالي الأخطار، وسط إفلاس عددٍ من صناديق هذا الرهن، لا سيّما في الولاياتالمتحدة، وإلغاء آلاف الوظائف فيها، وتعثّر الكثير من المؤسسات الكبرى في تنفيذ برامج مستقبلية كانت أعدت خططًا توسّعية لها، فأوقفت تنفيذها وألغت صفقات. وتأذّى عددٌ كبيرٌ من المصارف التجارية، سواء في أميركا أو أوروبا أو في آسيا وأستراليا، ولم يُصدّق المستثمرون أنّ الأزمة أفلت إلى غير رجعة، بل هم باتوا غير أكيدين من ثبات مكاسب الأسواق، إثرَ اتخاذ مجلس الاحتياط الفدرالي الأميركي، قراراً، بخفض الفائدة المدينة نصف نقطة مئوية، على إمداداته المالية إلى المصارف التجارية العطشى إلى السيولة. ويبدو أن أزمة الرهن العقاري، لم تأتِ نتيجةً لحركة مبيع العقارات في السوق الأميركية، بل لتعثّر المدينين، في هذا السوق، عن الوفاء بالتزاماتهم المالية نتيجة ارتفاع سعر الفائدة على الرهن الائتماني المجازف. ففي تموز 2007، ارتفع مبيع السكن 2.8 في المئة عما كان في حزيران، وجاء مبيع الوحدات السكنية أعلى مما توقّع الخبراء بنسبة 5.4 في المئة، وتمّ تصحيح عدد الوحدات السكنية المباعة في حزيران بزيادتها 1.4 في المئة. وحدها مبيعات الشقق السكنية الجديدة تأخرّت بنسبة 10.2 في المئة عنها في حزيران 2006. وخلافًا للمتوقّع، أمكن استيعاب أزمة العقارات في أميركا، بخلاف تأثيرها في أسواق المال العالمية، لا سيّما في آسيا والشرق الأوسط، التي خسرت الكثير وفقدت المستثمرين الأجانب. وأفادَ من الأزمة، سنداتُ الخِزانة الأميركية، وهي من الأدوات المالية المضمونة العائد، ولو بمعدلٍ ادنى من عائد الأسهم وسندات الدين الخاصّة. فلجأ المستثمرون إليها، بفائدةٍ أدنى من مستواها الرسمي. وكانت الخزانة في حاجة إلى مثلِ هذا الاكتتاب لتعويم العجز فيها، وتنويع مصادر الاستثمارات بعيداً من قبضة الصينواليابان، الدولتين الأكثر اكتتابًا فيها، وللصين وحدها أكثر من 200 بليون دولار سندات خزانة أميركية. پوسبق أزمة الرهن العقاري، هلعٌ عالميٌّ من ارتفاع سعر برميل النفط إلى مراتب قياسية. وعلى رغم أن السعر لم يتخطَ حاجزاً سابقاً له، فإن اقتصادات العالم تخوّفت من عدم قدرتها على تحمّل أعباء الارتفاع، وعزا الأميركيون، إلى منظمّة"أوبك"جزءاً من الانعكاس السلبي، إذا لم تزد إنتاجها النفطي. پلكن سعر النفط، على ما تُثبتُ الوقائع، ليس ناتجاً من نقصٍ في العرض وازديادٍ في الطلب، بل على العكس هو ناتجٌ من آليةٍ لتحقيق أرباح ومكاسب، تتبعها، دورياً شركات النفط والتجار، فيتحكمون بالسوق. وغالباً ما تبرز هذه الآلية لدى تراجع مستوى المخزون التجاري أو المخزون الاستراتيجي من النفط ومشتقاته، وتقصير تجهيزات المصافي عن تكرير أنواع المشتقات لاحتياجات دول العالم كلّها، لا سيّما الولاياتالمتحدة الأميركية، أكبر مستهلك للنفط. واللافت أنّ تدني مستوى المخزون لدى اليابانوالصين، ثاني وثالث أكبر دولتين مستهلكتين له، لا يُحدِثُ في السوق، ما يُحدثه انخفاض المخزون الأميركي. وتشيرُ الوقائع، إلى تقدّم الطلب على المعروض على مدى السنوات الخمس الأولى من الألفية الثالثة، باستثناء عام 2002 فقط، وفي ما عدا ذلك كان العرضُ يفوق الطلب. وبلغ متوسط العرض اليومي 80.14 مليون برميل، والطلب 79.88 مليون برميل. ونما العرض بين 2001 و2005 بمعدل 2.2 في المئة سنوياً، والطلب بمعدل 1.95 في المئة. هذه المعطيات الاحصائية تحملُ على الشك بأسباب ارتفاع أسعار النفط العالمية، وتمويه حقيقتها بهدف استنزاف الاحتياط النفطي، لتعويم"شره"السوق الأميركية بدولارٍ ضعيفِ تجاه العملات الرئيسة، فتؤثّر في اقتصاد منطقة اليورو، وبريطانيا، والدول الناشئة، في مقدمها الصين والهند، فضلاً عن اليابان، وتزيد من تكلفة الإنتاج. إذاً، يمكن ضبط أزمة الرهن العقاري، وأزمة ارتفاع أسعار النفط، بأسبابٍ قد تكونُ متعمّدة. فالولاياتالمتحدة تتمتع بنموٍّ اقتصاديٍ سليم، ولم تؤثّر الأزمات المتتالية في لجمِ معدّل هذا النمو، إلا طفيفاً، بما لا يعكّر الاقتصاد، بل انحصرَ التقهقر في قطاعات اقتصادية ونشاطات فرعية لها. وتردد صدى الأزمة لدى صندوق النقد الدولي، فأعاد حسابات نمو الناتج المحلّي القائم في العالم. ورأى أن تأثيراً طفيفاً سيطرأ عليه، وتنخفض التوقعات من 5.2 في المئة لعامي 2007 و2008، إلى نحو خمسة في المئة أو أقل قليلاً. لكن من دون شك تركت الأزمة العقارية الأميركية وارتفاع أسعار النفط، بصماتٍ مؤذية. فمؤسسة"بريتون وودز"الأميركية ستلجم تفاؤلها وتقوّم تقديراتها قبل أن تنشرها منتصف تشرين الأول أكتوبر المقبل. والمؤسسات الاقتصادية الكبيرة، مثل مصرف"يو بي إس"أكبر مؤسسة مصرفية في أوروبا لناحية المدخلات، توقع خطر تقّلّص الاقتصاد العالمي، ضمن هامشٍ ضيّق لا يتجاوز 20 في المئة، لكن"الأسوأ ليس دائماً أكيداً، وتوسّع تباطوء النمو الاقتصادي، يرتبط بمدى استمرارية الأزمة في الأسواق". وضربت الموجات الارتدادية، أسواق الأسهم بما لا يعوّض الخسائر في المدى القريب. فالمكاسب المحقّقة، إثرَ تعويم المصارف التجارية بالسيولة الضرورية، وبخفض الفائدة الأميركية"البين مصرفية"، أنعشت أسهمَ قطاعاتٍ على حساب القطاعات المتردّية والخاسرة. إذ لجأ المستثمرون إلى الأسهم الأكثر ضمانًا وأقلّ مجازفةً وتعرّضاً للاهتزاز. وسوف تبقى ثقة المستثمرين، مضطربة وغير سويّة تجاه المجازفة، بعد اهتزاز أسس التعامل في أسواق المال، والنقص في الشفافية المطلوبة من الرقابة. فالترابط بين أسواق المال والمصارف الرئيسة، يضع في الواجهة احتمال ذوبان ودائع الزبائن والمدخرين، وهو أمرٌ يضرٌ بحركة رؤوس الأموال في أسواق الإنفاق والاستثمار. ويتوقع أن تظهر نتائج الاضطراب في الأسواق، خلال الفصل الثالث من السنة، فيما ينعكسُ ارتفاع سعر النفط على مدى سنة تقريبًا من الآن، مع حلول الخريف وبداية فصل الشتاء.