هل تنتمي القصص البوليسية الى الأدب، الى الأدب الكبير أو إلى الأدب الصغير، هل هي أدب شعبي بسيط له قواعده وأهدافه التجارية، هل هي جزء من التاريخ الرسمي والكبير للأدب، هل على النقد الأدبي ان ينظر الى القصص البوليسية نظرة جدية تحليلية ليس على اعتبارها ظاهرة، بل على اعتبار كل عمل منها جديراً بأن يدرس وينقد؟ هذا النوع من الأسئلة لم يتوقف عن شغل أذهان أهل الدراسة والنقد وأهل الأدب منذ عقود طويلة، بل ربما منذ ولدت القصة"البوليسية"الحديثة على يدي الكاتب والشاعر الأميركي ادغار آلن بو، أواسط القرن التاسع عشر. وهي - أي الأسئلة - ازدادت حدة وتشعباً مع الطفرة التي عرفها هذا الأدب، مرة في بريطانيا مع سير آرثر كونان دويل، ثم مرات في الولاياتالمتحدة الأميركية مع كتّاب من امثال داشيل هاميت وخصوصاً رايموند شاندلر، من دون ان ننسى آغاثا كريستي وموريس ليبلان وغيرهما في بلدان عرفت هذا النوع من الكتابة وأمنت له ازدهاره، ولا سيما منذ ارتبطت مواضيعه بالمدنية والحداثة. طبعاً تتنوع الإجابات على الأسئلة المطروحة بتنوع توجهات الباحثين والنقاد، وربما القراء ايضاً. وفي الأحوال كافة يمكننا، بصرف النظر عن الآراء والإجابات، ان ننظر الى اكثر من كتّاب الأدب البوليسي على انهم كتّاب أدب حقيقيين، ذلك ان الروايات التي كتبوها - أو معظمها على الأقل - عرفت كيف تخرج عن السياق المعتاد والمتعارف عليه للقصة البوليسية، بتضمين أدبهم ابعاداً إنسانية ورسم علاقات في تلك الأعمال تخرج عن المقاييس المعتادة لعلاقة التحري بالمجرم، أو الوصول في نهاية الأمر الى حل اللغز بطريقة أقل ما يقال عنها انها مسرحية مفاجئة. ومن الكتّاب الذين يمكن التوقف عندهم في هذا الإطار، الأميركي رايموند شاندلر، الذي خلف عدداً كبيراً من الروايات والقصص، كما خلف عدداً من السيناريوهات السينمائية التي اقتبست اعمالاً لغيره من الكتّاب خلال مرحلة انتمائه الى هوليوود ككاتب سيناريو، أسوة بكتّاب آخرين لعل أبرزهم وليام فولكنر. رايموند شاندلر يعتبر اليوم في حلقات البحث والنقد الأدبي كاتباً كبيراً ومميزاً، حتى وإن كان عُرف عنه انه ندر أن كتب في حياته نصوصاً تخرج عن إطار الأدب البوليسي. ونعرف طبعاً ان السينما - حتى خارج إطار عمل شاندلر ككاتب للسيناريو - اقتبست رواياته وقصصه الأساسية اكثر من مرة كل عمل. كما نعرف انه في كل مرة يجرى فيها استفتاء شعبي، أو بين النقاد لمعرفة ما هي الأفلام المئة التي تعتبر أعظم ما أنتج في أميركا في القرن العشرين، يرد على الأقل اسم او اسمان لفيلم أو فيلمين اقتُبسا من ادب شاندلر. ولعل ذكرنا لفيلمي"السبات العميق"و"وداعاً يا جميلتي"حيث مغامرات التحري الشهير مارلو، يكفي لتأكيد ذلك، وهنا كنموذج لعل شاندلر في هذا المجال، وقوة الإرث الذي تركه حين رحل عن عالمنا، قد يكون من الأنسب التوقف عند روايته الأشهر السبات العميق التي كُتبت ونُشرت في سنة 1939، لتحول بسرعة الى فيلم سينمائي حقق نجاحاً كبيراً. في هذه الرواية لدينا على عادة معظم روايات شاندلر - التحري الخاص مارلو الذي يستدعى ذات يوم من قبل الجنرال العجوز ستيرنود، الذي يكلف التحري بعد اللقاء بينهما بأن يحقق حول شخص يدعى جيجر لا يتوقف عن ابتزاز الجنرال وعائلته بصدد ابنة للجنرال تدعى كارمن، وفي الوقت نفسه يسرّ الجنرال الى التحري بأنه شديد القلق بصدد اختفاء راستي ريغان، صهر الجنرال وزوج ابنته الثانية فيفيان... ويخبر الجنرال التحري بأن ثمة صداقة عميقة تربط بينه وبين صهره هذا... كما يخبره انه مستاء جداً بصدد ابنتيه اللتين كف منذ زمن على النظر إليهما وإلى حياتيهما بأمل. ذلك ان كارمن غارقة في الشراب والقمار، فيما فيفيان لا تتوقف عن تعاطي المخدرات. وهنا اذ يجمع مارلو كل هذه المعلومات والآراء من الجنرال ينصرف الى التحقيق بادئاً بجيجر نفسه الذي يدير مكتبة تبيع الكتب الإباحية، وتتوسع دائرة التحقيق لتشمل آغنس، مساعدة جيجر، وبرودي، صديق هذه الأخيرة الذي يتبين لمارلو انه، لدى موت جيجر، يريد ان يتولى بنفسه إدارة مكتبة هذا الأخير ومن هنا يسعى من وقت الى آخر الى ابتزاز كارمن لمعرفته بعض الأسرار التي تتعلق بها. وأخيراً، في مجال بحثه وتحقيقه، يصل مارلو الى ادي مارس الذي يدير منزل قمار ترتاده فيفيان الابنة الأخرى للجنرال. وإذ يجمع مارلو معلوماته ويقارن بين ما توصل إليه من تحقيقات وحقائق، نجده وصل في نهاية الأمر الى رسم شبكة العلاقات والأحداث بطريقة شديدة الذكاء، على رغم كل التعقيدات التي تحيط بالمسألة ككل. فما الذي يكتشفه؟ يكتشف أولاً ان راستي ريغان قد قتل بالفعل. وأن كارمن الابنة الكبرى للجنرال هي التي قتلت زوج اختها هذا، خلال نوبة هستيريا ألمت بها. ومن ثم طلبت من اختها ان تساعدها على تجاوز ما حدث فتقوم فيفيان بالطلب من مارس ان يخفي جثة ريغان تماماً وكأن الجريمة لم تحدث وكأن ريغان اختفى من تلقائه. كان الأمر ذات لحظة يبدو أقرب الى الجريمة الكاملة، لولا ان الأب الجنرال قلق على صهره وصديقه، ولولا انه نُصح بأن يطلب من التحري مارلو ان يحقق في ما حدث، ولكن من دون ان يدور في خلده اول الأمر ان ريغان قُتل. ومن ثم ان ابنتيه، على رغم كل جنوحهما وفسقهما على علاقة بالأمر. حتى هنا، أي حتى اكتشاف مارلو لما حدث حقاً، وللمصير الذي آلى إليه راستي ريغان، تبدو روايته"السبات العميق"شبيهة بالعديد من الروايات البوليسية الأخرى التي تقوم على فكرة وجود جريمة ووجود تحري يحقق في الجريمة. اما الجديد هنا - الجديد الذي يدخل"السبات العميق"حلقة الأدب الإنساني، والأدب المرتبط بالقلق والعواطف بعيداً من الرغبة في مجرد كشف الحقيقة لكشفها - فهو ان مارلو، وعلى رغم حرفيته المهنية يجد نفسه حين يصل الى الحقيقة، بعد سلسلة من المغامرات والأخطار التي يتعرض لها، امام سؤال يلح عليه ويقلقه لفترة من الزمن طويلة: ماذا أفعل بهذه الحقيقة التي وصلت إليها؟ هل يجوز إبلاغ الجنرال بحقائق من المؤكد انها ستدمره إن عرفها لأنها تتعلق بابنتيه وإجرامهما؟ المهم ان مارلو وهو في عز قلقه، يجد امامه فيفيان تطلب منه ألا يفعل. هنا وكي لا يكون الموقف مفتعلاً - من الناحية الروائية - طالما ان مارلو محقق وحرفي ولا يقوم هنا، بعد كل شيء، إلا بجزء من مهنته، تعرض عليه فيفيان تعويضاً في مقابل السكوت عن الحقيقة وإخفائها، فيفعل، ما يضافر لديه بين قلقه السابق، ومكسبه المالي الذي هو غايته. وبهذا يكون رايموند شاندلر اقترب في عمله من الواقعية المنطقية مبتعداً عن المثالية الأخلاقية التي كان من شأنها ان تدمر العمل وتعطيه طابعاً ميلودرامياً ووعظياً. بهذا الحل إذاً، وبعد ان دفعنا الكاتب الى ان نحبس انفاسنا طوال صفحات الرواية، تمكن الكاتب، من ان يعطي روايته سمات مقنعة. وهو أمر اعتاده رايموند شاندلر 1888 - 1959، على أي حال في عدد كبير من رواياته التي كتبها طوال مسار مهني جعل منه واحداً من اكبر الكتّاب الشعبيين وأشهرهم، وكذلك كتّاب النخبة في الأدب الأميركي خلال النصف الأول من القرن العشرين. كما جعل للأدب البوليسي, ولا سيما لأدب التحري مكانة متقدمة في حياة الأدب كما أسلفنا... كما في حياة الفن السينمائي.