في الأسواق بعد أسابيع كتاب جديد بعنوان "قصص مختارة لباتريشا هايسميث" دار نورتون يتضمن 15 كتاباً من تلك التي كانت المؤلفة الأميركية 1921 - 1993 وضعتها. تحديداً هذا نصف ما نشر لها من كتب خلال حياتها التي عرفت خلالها ككاتبة بوليسية من طراز رفيع. وبينما لا تزال آغاثا كريستي أكثر روائيات القصة البوليسية - اللغزية انتشاراً، تأتي باتريشا هايسميث في مركز قريب وبمقدرة منافسة. على عكس الكاتبة البريطانية التي منحت تقديراً كبيراً تستحقه في بلادها والعالم، عرفت باتريشا التي ولدت في تكساس شهرة أكبر في أوروبا مما عرفته في أميركا. هذا مرده الى أنه في حين أن ما نشرته من مؤلفات بيع حتى النفاد، إلا أن الاعلام، من نقد كتب ومن أفلام سينمائية مقتبسة، بقي فاتراً حيالها في موطنها، وساخناً في أنحاء أوروبا وخصوصاً الغربية. ألفرد هيتشكوك احتفى بها عندما قدم "غريبان في القطار" 1951 - بعد عام واحد من نشر الرواية. كذلك فعل الفرنسي رينيه كليمان عندما أنجز "شمس ساطعة". هذا الفيلم كان اقتباساً عن رواية هايسميث "السيد ريبلي الموهوب"، تلك التي قام الأميركي انطوني منغيلا بإخراجها مجدداً قبل ثلاث سنوات من بطولة مات ديمون. وكان الألماني فيم فندرز أقدم على إخراج جزء ثانٍ من سلسلة "ريبلي" التي تألفت من خمس قصص هو "الصديق الأميركي" 1977 المأخوذ عن "لعبة ريبلي" 1975. حالياً هناك فيلمان آخران من سلسلة ريبلي في مراحل مختلفة من العمل، أقربهما الينا فيلم عهد تنفيذه الى الايطالية ليليانا كافاني لحساب ميراماكس الأميركية. ما استحوذ اهتمام كل من هؤلاء السينمائيين باستثناء كافاني التي يبدو انها تسلمت المهمة جاهزة هو نفسه ما جلب للكاتبة شهرتها: مقدرتها، في رواياتها الجيدة كونها كتبت أيضاً أعمالاً أقل جودة، على حياكة الوسيلة التي ينقلب فيها أناس عاديون لا غبار على بعدهم من الشر وزلات القدم، الى مجرمين. في رواياتها تلك تترك القلم يسترسل في وصف حياة ما قبل النقلة الكبيرة ثم تدلف فجأة فيها. ونجد أن الأفلام التي اقتبست رواياتها غالباً ما حافظت على هذا العنصر. مثلاً في "الصديق الأميركي" نلحظ الحياة الرتيبة لصاحب محل لصنع "براويز" وإطارات الصور قام به برونو غانز الى أن يجد نفسه مطالباً بإلقاء شخص من على رصيف "المترو" الفرنسي. عمل لا يحاول محاربته طويلاً. في "غريبان في القطار" لاعب تنس فارلي غرانغر في رحلة عادية عندما يتعرف إلى رجل في القمرة ذاتها روبرت ووكر. إذ يبدآ الحديث يكشف غرانغر مشكلة عائلية تواجهه إذ ترفض زوجته الموافقة على طلاقهما. ووكر سريعاً ما يعرض الوضع الآتي: يقوم لاعب التنس بقتل والد ووكر لكي يرثه بينما يقوم ووكر في المقابل بقتل زوجة غرانغر. وبما ان الدافع غائب لا يمكن ربط ووكر بجريمة قتل زوجة غرانغر ولا ربط غرانغر بجريمة قتل والد ووكر. بصرف النظر عما يحدث لاحقاً واحد من أفضل أفلام هيتشكوك فإن ما أسسه الفيلم هنا سهولة اغواء الجريمة لرجل لم تكن الجريمة تخطر له على بال. وهذا يتماشى مع خطة هايسميث التي تنشغل فيها بمتابعة رجال ينزلقون من دون سابق تمهيد، علماً أن النزعة الشريرة كانت بعيدة تماماً منهم أو متوارية في أعمال مجهولة. فيلم الفرنسي رينيه كليمان "شمس ساطعة" قام على القصة ذاتها التي قدمها انطوني مينغيلا لاحقاً: توم ريبلي هو شاب عادي من طبقة غير ميسورة ألان ديلون في الفيلم الفرنسي يطلب منه ثري اميركي السفر الى أوروبا لإعادة ابنه فيليب اليه عوض البقاء هناك مبذراً مال والده. بعد التعرف الى فيليب موريس رونيه ومحاولة اقناعه بالعودة وتحمله اهاناته، يقدم توم ريبلي على جريمته الأولى بقتل فيليب. بما ان فيليب اميركي في الغربة، يتراءى لريبلي تقمّص شخصيته والتمتع بماله وصديقة فيليب ماري لافوري. حين يرتاب صديق لفيليب ويبدأ التحقيق ينقاد ريبلي وقد أصبح القتل عنده مستساغاً كحل لقتله وإلقاء تبعية الجريمة على فيليب ثم الانتقال مجدداً الى شخصية ريبلي، شخصيته الأساسية. الخطوط العامة للفيلم قريبة جداً من تلك التي نجدها في نسخة مينغيلا الأحدث التي أبقت لا على اسم الرواية فقط، بل على الايحاءات الجنسية - النفسية التي صاغتها الكاتبة بخصوص بطلها ريبلي الذي قد ينقاد الى الإعجاب برجل آخر لكنه يكره أن يمضي بعيداً في بلورة أحاسيسه تلك، مؤثراً العودة الى رقعته النفسية لحماية نفسه. ليست كل القصص القصيرة والروايات التي اختيرت للكتاب الجديد متساوية. اذا ما نحيت سلسلة ريبلي الواردة، تجد ان الكثير من القصص القصيرة تبدو أقرب الى أفكار أو كما لو كانت مشاريع لم تجد هايسميث الرغبة في تكملتها أو الإبحار بها. من الممكن القول إذاً، ان مهارتها في حياكة القصة القصيرة متأخرة بالمقارنة مع درايتها في حياكة الرواية. الكاتب الأميركي غراهام غرين بينما كان يعترف بسطوة أسلوبها ومقدرته على الجذب يلحظ أن الكاتبة لا تفي حق شخصياتها جيداً حين تكتب القصة القصيرة "لا نعيش مع هذه الشخصيات مدة طويلة لكي ننجذب اليها" - كما كتب. 2 في هذه الأيام، من الصعب ايجاد فيلم بوليسي يعتمد على اللغز والتشويق النفسي أكثر مما يعتمد على الحركة والتشويق القائمين على مشاهد القتال. ليس لأنه لا يمكن صنع أفلام جديدة من النوع الثاني، بل لأن النوع الأول يتضمن شروطاً فنية أصعب للنجاح كونه يعتمد على ترجمة أحاسيس نفسية والجمع بين ما هو مطروح على الشاشة على شكل حدث متواصل وبين البعد الذي يدور في الخلفية على نحو شفافي أو رمزي. أحد الأفلام الحديثة في هذا الاطار هو "النهاية العميقة" للمخرجين سكوت ماكهي وديفيد سيغال اللذين وضعا إطار الأحداث لفيلمهما الجديد قريباً من بحيرة تاهو التي تقع خارج مدينة لوس انجيليس وتتمتع بمناظر أخاذة. الشمس تسطع معظم الوقت وعلى بعض ضفافها تنتشر مناطق سكنية هادئة ومترفة. أضع هذا الوصف لأنه من الأسهل - كما من المعتاد - خلق الأجواء المناسبة للفيلم البوليسي في مدن داكنة وغرف معتمة من تأليفها وصوغها في ضوء النهار. لكن ذلك لم يمنع ماكهي وسيغال من إنجاز فيلم تشويقي له حسنات متعددة، وبعض الهفوات. "النهاية العميقة" مأخوذة عن رواية نشرت سنة 1947 بعنوان "الجدار الصامت" اقتبس منها ماكس أوفولوس روايته "لحظة طائشة" سنة 1949. والكاتب هو أيضاً إمرأة بريطانية منسية اليوم باسم اليزابيث سانكساي هولدينغ، كانت لها شهرتها في الأربعينات والخمسينات. أعتقد ان "لحظة طائشة" هو الفيلم الوحيد الذي اقتبس عن أي من رواياتها الى أن جاء "النهاية العميقة" الذي آثر اقتباس المصدر نفسه عوض البحث عن عمل آخر للكاتبة. نسخة أوفولوس تتبع أثر الرواية: أم تتورط في جريمة قتل تليها عملية ابتزاز مرهقة لكي تحمي ابنتها من القانون معتقدة ان ابنتها هي التي قتلت صديقها. خلال ذلك، ينشأ لدى أحد الرجلين اللذين يبتزانها شعور بالذنب وهو يدرك المحاولة اليائسة التي تقوم بها الأم لكي تحمي ابنتها. في النسخة الجديدة قام المخرجان ماكهي وسيغال بإجراء تحويلات مهمة: الإبنة أصبحت ولداً ذكراً. والقتيل هو عشيقه. الأم الملتاعة لانجراف ابنها في علاقة شاذة تعتقد ان ابنها ذاك هو الذي قتل العشيق صاحب ملهى ومقدم على أنه رجل حقير بينما الحقيقة هي أن ذلك سقط على صخور بحرية وقضى إثر مشادة بينه وبين الابن. تقوم الأم برمي الجثة في البحر. لكن اختفاء صاحب الملهى لا يغيب عن شريرين كانا على علم بعلاقاته وأحدهما يواجه الأم بدفع 50 ألف دولار وإلا يذهب الى البوليس بشكوكه مع شريط فيديو يصوّر علاقة القتيل بابنها. على رغم التغيير المناط بجنس الولد من أنثى الى ذكر فإن القصة تتبع الخط ذاته وتبلور بضع نقاط حسنة أساسها الاندفاع غير المحدود الذي تقوم به الأم نظير حمايتها لعائلتها في ظل غياب زوجها. للممثلة ذات الخبرة المسرحية ثيلدا سوينتون، مقدرة قلما تضاهى في تجسيد دور بمنأى كامل عن الكاميرا والإحساس بوجودها. انها طبيعية ومن دون "ماكياج"، لا عيني مساحيق الوجه ولا غيبي التمثيل تسجيلاً لنقاط مع النقاد والجمهور، بل ينبع اهتمامها الأول بإنجاح شخصية بعيدة من هوليوود وتقاليدها بعد بحيرة تاهو من بحيرة طبريا. حياة العائلة هي فعلاً القوة الدافعة للفيلم. نلاحظ في ما بعد أن الولد نفسه يلعب دوراً في محاولة مساعدة أمه تخطي مصاعب لا يعلم أسبابها أخفت موضوع الابتزاز عنه. وبينما تعتقد ان ابنها هو الذي قتل عشيقه، يعتقد الابن أنها متورطة على الأقل بالقتل أو ربما قتلته هي. وهي لا تعلم بشكوكه نحوها كما لا يعلم هو بشكوكها نحوه. هذا كله يساعد على خلق حال غموض كلاسيكي، إضافة الى التطورات التي تقع على صعيد الشاب المبتز الوجه الجديد القادم من البلطيق غوران فيجنيتش إذ ينتقل من حال القسوة التي تماثل نهش الذئب أنيابه بالفريسة، الى حال التفهم والدفاع عن هذه الضحية ضد شريكه الأرعن رايموند باري. 3 الاقتباسات البوليسية القائمة على اللغز والتشويق النفسي قليلة، أقل منها تلك التي تنجح في النقل من الورق الى الفيلم. وإحدى السقطات الكبيرة ولدينا فيلمان حديثان آخران يصلحان نموذجاً للدراسة: "الخطيئة الأصلية" المأخوذة عن رواية لكورنل وولريتش بعنوان "الرقص دخولاً في الليل" و"من بعيد جاء عنكبوت" المأخوذ عن رواية لجيمس باترسون. بين هذين الكاتبين، فإن كورنل وولريتش هو الأنجح قياساً بمكانته لدى نقاد الرواية البوليسية وهواتها. وولريتش، كما تلقبه إحدى الموسوعات، هو "سيد المزاج الداكن والمسود". والواقع ان هاتين الصفتين متأتيتان من نظرة الكاتب الذي ولد باسم جورج هوبلي الى العلاقات العاطفية السائدة ونظرته الى أن المرأة مدخل لتدمير الرجل الذي يقع في حبها. وهو ليس الوحيد الذي يرى المرأة على هذا النحو، بل يمكنني أن أذكر جيمس م. كين كأحد أبرز الأمثلة. هو من كتب رواية "ساعي البريد يدق مرتين دائماً" التي انتقلت الى السينما مرتين على الأقل مرة تحت ادارة تاي غارنت وأخرى من تحقيق بوب رافلسون وكلاهما اقتباس جيد. كذلك فإن المرأة كلذة قاضية أو أنثى العنكبوت، خط روائي منتشر بين آخرين من كبار الكتاب البوليسيين ولو على نحو أقل حدة كما في حال رايموند شاندلر وميكي سبيلان وداشيل هاميت. رواية وولريتش، "الرقص دخولاً في الليل" أفضل على الورق من الفيلم لناحية أن انهيار بطل الفيلم المبرر بحبه لامرأة أوهمته أنها تحبه حباً أبدياً في الوقت الذي تنفذ خطة مع عشيقها لسرقته، مرسوم بدراية وإلمام يساعدان في قبول التحولات القصصية على رغم احادية النظرة المعالجة بها. في الفيلم تريد أن تهز الزوج المخدوع انطونيو بانديراس ليفيق من غيبوبة الحب لأن الرجل غير مقنع في دوافعه أو في غبائه. كذلك يحاول الفيلم تعويض العواطف الممكن استغلالها على نحو درامي متين، بالكثير من العري الذي لا يفعل شيئاً سوى تقريب الصورة الى المشاهد من دون تعميقها. بالنسبة الى الكاتب جيمس باترسون، فإن وضعه يختلف. انه من الكتاب حديثي العهد بالرواية البوليسية ومن الذين أمّوا درب الرواية العنيفة القائمة أساساً على الأحداث، ولو أنه يقف في الصف الأول من أتباعها. كتب بضع قصص من بطولة التحري أليكس كروس تم تحويل اثنتين منها الى السينما في غضون السنوات الخمس الأخيرة هما "قبّل الفتيات" 1997 و"من بعيد جاء عنكبوت" 2001. الأول أخرجه غاري فلدر والثاني من أعمال النيوزيلاندي الأصل لي تاماهوري. وعلى عكس "الخطيئة الأصلية" التي سبق لها أن تحولت فيلماً فرنسياً بعنوان "حورية المسيسيبي" لفرنسوا تروفو، فإن كلا هذين العملين مقتبس للمرة الأولى. هناك باع طويل للفيلم البوليسي القائم على شخصية التحري. السينما البوليسية في حد ذاتها منقسمة على أكثر من وجه، وبعض هذه الوجوه متقاربة، بل متداخلة. لكن أهمها وأكثرها جدية في توفير مظلة من الغموض والتشويق النابع من الدراما التحتية للأحداث إثنان: الفيلم الذي يتمحور حول رجل بوليس. والفيلم الذي يتمحور حول تحر خاص. الأول مقيّد عموماً بالقانون الذي يعمل له، والثاني أكثر تحرراً. الأول موظف مؤمّن، والثاني يحاول الإفادة من تلك القضايا، شأنه في ذلك شأن المحامي، لكنها افادات كثيراً ما تعود عليه بالمتاعب كونه وحيداً بلا سلطة تحميه عادة ما يعامله رجال القانون كدخيل غير مرحب به.