في منطقةٍ تتأجج فيها نيران القضايا المعقدّة والشائكة، بات اتخاذ مواقف عميقة، متزنة ومستقلّة، ضرباً من المستحيلات. فمن شأن ملاحظة متسرّعة تصدر عن أحد أعضاء طاقم العمل، أو أي خطأ في سرد الأحداث يرتكبه صحافي، أن يؤدي إلى سوء تفاهم كبير وأن يُطلق العنان لقافلة من الانتقادات. هذا ما حصل في الأيام الأخيرة مع "المجموعة الدوليّة لمعالجة الأزمات" لدى تعاطيها مع أحد المواضيع الأكثر حساسيّة على الساحة الدوليّة اليوم، أي قرار مجلس الأمن بإنشاء محكمة دوليّة للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري والاغتيالات الأخرى التي تلته. دعوني أوضح موقف"المجموعة الدوليّة لمعالجة الأزمات". لسنا نعترض ولم نعترض يوماً على إنشاء محكمة جديدة خاصة بلبنان. ولكننا نعتبر أنّه من المهم أن نعي أهداف هذه المؤسسة الجديدة، ما يتوجّب عليها وما يُمكنها تحقيقه في السياق السياسي الأكبر الذي أُدخلت إليه، وكيف يتعيّن أن تلحق بانشائها اليوم جملة خطوات سياسيّة أخرى. أنشئت المحكمة بقرار من مجلس الأمن صدر بتاريخ 30 أيار مايو 2007 ومن دون العودة إلى البرلمان اللبناني المنشق على ذاته. وعليه، تشكّل المحكمة لحظةً غير مسبوقة في تاريخ القضاء الدولي، حيث أنّها المرّة الأولى التي تستحدث فيها هيئة مشابهة لمعالجة جريمة سياسيّة استهدفت اغتيالات سياسيّة محددة. ومن غير المفاجئ إذاً أن تتخذ المحكمة صبغة سياسيّة. فما هو على المحك في نهاية المطاف لا يقتصر على دعوة المجرمين للمثول أمام القضاء. تلقى المحكمة الخاصة دعم جهات ثلاث، يتمتع كلّ منها بطموح خاص به. بالنسبة إلى فرنسا، كانت الغاية من هذه المؤسسة المهمّة حماية لبنان عبر إقامة رادع للجارة سورية التي تُوجَّه إليها أصابع الاتهام لضلوعها في اغتيال الحريري. أمّا بالنسبة إلى قوى"14 آذار"في لبنان، فترمي المحكمة إلى تدعيم"ثورة الأرز"، والتظاهرات الحاشدة التي تلت اغتيال الحريري والتي أدّت إلى انسحاب سورية من لبنان. وبالطبع، بينما تأمل قوى"14 آذار"اكتمال الانسحاب السوري، فهي لن تُمانع أن يتضرر في سياق العمليّة أخصامها على الساحة السياسيّة لا سيّما"حزب الله". وبالنسبة إلى الولاياتالمتحدة، وهي الجهة الثالثة الداعمة للمحكمة، فلبنان مجرّد قطعة من الفسيفساء الشرق أوسطي ووسيلة إضافيّة لإضعاف محور"حزب الله"- سورية - وإيران. ويتعيّن على المحكمة أن تضاعف الضغط على دمشق لتبتعد عن طهران وتوقف دعمها ل"حزب الله"و"حماس". لذالك، تتضمن هذه العمليّة القضائيّة الجديدة أهدافاً عديدةً تتخطّى إحقاق الحقّ في اعقاب اغتيال رفيق الحريري - وهو بعد ترغب به"المجموعة الدوليّة لمعالجة الأزمات". ومع أن قرار مجلس الأمن لم يأت صراحةً على ذكر سورية، ولكن من الواضح للجميع بأنّ النظام في دمشق هو مرمى الجهات الفاعلة الثلاث. والمشكلة هي أنّ سورية بالكاد ستجاري ما تعتبره محكمة صوريّة غايتها الوحيدة زعزعة الاستقرار في دمشق. حتّى لو لم يكن أفراد من النظام بحد ذاتهم متورّطين، فمن المستبعد أن تُسلّم سورية المحكمة أي مشتبه بهم لتحاكمهم. وعليه من المرجّح أن يُحاكَم المتهمون غيابيّاً في حين تحاكم سورية مسؤولين محددين - يصفهم البعض بكبش المحرقة - على أرضها كما وعد الرئيس بشّار الأسد. فماذا لو ثبتت إدانة سورية؟ وما هي العقوبات التي قد تفرضها الأسرة الدوليّة على النظام؟ قد تترتب على أي حصار اقتصادي على سورية تبعات وخيمة على اقتصاد لبنان الهشّ أصلاً، حيث يعبر العديد من المنتجات اللبنانيّة الاراضي السورية. ولقد اثبتت العزلة الديبلوماسية أن لها حدوداً في ما يتضح أنّه طريق مسدود. ولا تصبّ هذه الخطوات في مصلحة أي من الأطراف. ومن شأن محاولة الانقلاب على النظام، بحسب تعبير البعض، أن تأتي على حساب لبنان حيث تكيل دمشق بمكيالين على ساحة معركة تتمتع فيها بقوّة تدمير هائلة. وفي الواقع، لا يسعى أيّ من دعاة المحكمة الثلاثة إلى تحقيق غاياتهم من وراء قيام المحكمة. فليس من المؤكّد أن تجلب المحكمة المتهمين أمام القضاء، أو أن تحمي لبنان، ولن تُحدث في سورية التغييرات التي ينشدها الغرب. باستطاعة سورية أن تضرب بهذه العمليّة عرض الحائط وأن تنجو بفعلتها. ولا يعني هذا أنّ سورية ستفوز في المواجهة الحاليّة، ولكنّها لن تستسلم أبداً، في حين ستنفق الأسرة الدوليّة جهداً كبيراً لتحقق شبه نصر. لكنّ دعاة المحكمة يغضون الطرف عن النصر الكبير الذي سطّروه، فبعد الأخطاء غير المسموح بها في لبنان، اضطرت سورية إلى الانسحاب بشكل مذل. وبالطبع لا بدّ من معالجة بعض القضايا المهمّة. يحتاج اللبنانيّون إلى أن يطمئنّوا إلى أنّ أيام نهب ثرواتهم ولّت إلى غير عودة وحملت في جعبتها ترهيب الطبقة السياسيّة ناهيك عن الاغتيالات السياسيّة. ويترتب على هذا على الأقل افتتاح سفارة لسوريّة في بيروت وتوضيح مصير العديد من المفقودين وترسيم الحدود النهائيّة بين البلدين. ولكن الأمل في أن تُذعن سورية للضغوط المتزايدة عليها ضرب من المستحيلات والسبيل الوحيد إلى ضمان زعزعة الاستقرار في لبنان. يجب على الإجراء القضائي أن يستمر، ولكن يجب أن تحصل سورية على الضمانات بأنّ الغاية ليست تقويض نظامها. فلا طائل للتصريحات المتكلّفة والجهود الفارغة الرامية إلى"إلزام"سورية. ولهذا السبب ناصرت"المجموعة الدوليّة لمعالجة الأزمات"الحوار المبني على خطوات مجدية وعمليّة، ومنها طرح مسألة الجولان على طاولة البحث، وإعادة إطلاق المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن الشراكة الاقتصاديّة، والتخطيط لنوع من التعاون مع الولاياتالمتحدة بشأن العراق. وحين يتخذ الغرب هذا المنحى، ينجح على مستويات ثلاثة. فهو يُبيّن أوّلاً وبشكل ملموس ولو ضمناً بأنّ الغاية ليست زعزعة النظام السوري. وثانياً، قد يتيح للنظام مصادر بديلة بحيث يكون الثمن الواجب سداده عن الجرائم المرتكبة في لبنان ثمناً منطقيّاً. وأخيراً عبر منح سورية الحوافز التي يُمكن إعادة النظر فيها في حال قررت إنكار الأدلّة الدامغة التي تدينها، يمنح الغرب نفسه السلطة التي يفتقدها وهو بأمسّ الحاجة إليها. بمعنى آخر، يجب أن يتم تطبيع العلاقات بين سورية ولبنان بموازاة تطبيع ولو مشروط للعلاقات بين سورية والغرب. يجب أن يكون امام سورية خيار واضح بين تسوية مفيدة للطرفين وما يبدو انّه مواجهة لا بدّ منها. أمّا تحويل المحكمة إلى مسألة حياة أو موت بالنسبة الى سورية فهو السبيل الأكيد إلى تدمير لبنان. * رئيس المجموعة الدوليّة لمعالجة الأزمات