مرت أمس الذكرى الثانية للانسحاب العسكري السوري من لبنان، في ظل أحداث تنذر بتطورات"دراماتيكية"على الساحة اللبنانية، تدفع الكثيرين إلى استخلاص علاقة بعض هذه الأحداث الرمزية بالذكرى. وبالنسبة إلى كثيرين من حلفاء سورية في لبنان، فإن اضطراب الأمن فيه، في هذه الذكرى، سبب كاف للقول ان الأمن مهدد بعد سنتين على الانسحاب السوري وأن الإدارة السورية السابقة للوضع اللبناني كانت توفر الحد الأدنى من الاستقرار. أما خصوم دمشق فيرون في ذلك مدعاة للإدانة ولتكرار اتهام سورية بالعمل على تقويض الأمن في لبنان على رغم انسحابها. وواقع الأمر ان لبنان يخضع للانقسام السياسي نفسه الذي كان قائماً قبل بضعة أشهر من الانسحاب السوري، يضاف إليه ان تيار العماد ميشال عون، القوة الرئيسة داخل المسيحيين، انتقل الى الضفة التي تصنف قواها بين حلفاء دمشق. ان الاضطراب الأمني واضح بالتزامن مع الذكرى. وهو اضطراب يأخذ منحى فظيعاً مع استمرار الغموض الذي يلف مصير الفتى زياد الغندور 12 سنة والشاب زياد قبلان 25 سنة. لكن الأرض الخصبة لاضطراب الأمن اللبناني ليست سوى استمرار لهذا الانقسام الحاصل بين اللبنانيين واتخاذه منحى تصاعدياً منذ الخريف الماضي. وجوهر الانقسام يتعلق بالموقف من سورية ومن سياستها اللبنانية والإقليمية وتحالفاتها، تماماً مثلما كان قائماً قبل الانسحاب. ارتبكت دمشق نتيجة الضغوط عليها للانسحاب قبل 26 نيسان ابريل 2005، واستمر ارتباكها بعد هذا الانسحاب، لكنها عادت فقررت خطتها المعاكسة منذ خريف 2005، تعينها في ذلك السياسة الإقليمية الهجومية الجديدة التي قررتها إيران بعد اعتلاء الرئيس محمود أحمدي نجاد سدة الرئاسة، وفشل السياسة الأميركية الرعناء في العراق وفلسطين والتي شملت التأييد الأعمى لسلوك إسرائيل في جنوبلبنان. وسمحت هذه العوامل لدمشق ان تنفذ عملياً ما قاله الرئيس بشار الأسد لموفد غربي في 13 شباط فبراير من عام 2005:"ستشهدون انسحاب دباباتنا وآلياتنا عبر الحدود من لبنان كان القرار 1559 الذي يدعو الى الانسحاب قد اتخذ بفعل التمديد للرئيس اميل لحود قبل اكثر من 5 أشهر لكننا نطمئنكم الى اننا باقون فيه"، مشيراً بذلك الى قدرة دمشق بفعل نفوذها الكبير على مواصلة التحكم بالوضع اللبناني. وعلى رغم المستجدات في ظروف المنطقة، والتي كان لها التأثير الكبير في الانسحاب، بدءاً بالتغييرات في السياسة الأميركية، مروراً بالتمديد للرئيس اميل لحود، وانتهاء بالانتفاضة اللبنانية إزاء اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فإن دمشق استمرت في القراءة في الكتاب القديم في سياستها اللبنانية والإقليمية، أي الكتاب نفسه الذي قرأ منه سياسته الرئيس الراحل حافظ الأسد. وهو يقضي ببناء الدور السوري على التدخل في الأزمات الإقليمية والمساهمة في تعقيداتها، من اجل ان تسلّم له القوى الكبرى بدور في ايجاد الحلول لها، وبأهمية نظامه وقوته في تثبيت المعادلات الأساسية في المنطقة. وبين ما يقوم عليه الكتاب القديم اعتماد تكتيكات"حافة الهاوية"في مواجهات سورية مع دول الغرب، والمقايضات مع هذه الدول ودول المحيط الإقليمي في تسويات وتفاهمات موضعية. في الوضع اللبناني الراهن ليس هدف سورية على الأرجح، العودة العسكرية الى لبنان. فنفوذها عبر الحلفاء وخصوصاً"حزب الله"يغنيها عن هذه العودة، نظراً الى الأثمان التي يدين بها هؤلاء لها لمجرد دورها في دعم مواجهة الحزب مع اسرائيل، في لعبة حافة الهاوية. أما المقايضة، التي ينص عليها الكتاب القديم، والتي تسعى دمشق الى اعتمادها مقابل"عودتها"السياسية التي حققت نتائج مهمة في الأشهر الماضية، فهي تلك المتعلقة بالمحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة المتهمين في جريمة اغتيال الحريري، والتي يبدو انها أصبحت أمراً واقعاً دولياً. الكتاب القديم لم يتضمن وصفة واضحة إزاء حالة من هذا النوع. وفي انتظار تجديده لا شك ان لبنان سيبقى يتألم.