لا تقتصر الغاية من انشاء المحكمة الدولية للنظر في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، على تحقيق العدالة، بل تستجيب، الى ذلك، مقاصد ومرامي عملية تعود الى مناصري العملية القضائية، وهؤلاء هم فرنساولبنانوالولاياتالمتحدة الأميركية. وتسعى سياسة فرنسااللبنانية الى بناء "حمى" يحصن لبنان ويحميه من جاره السوري، المتهم بالضلوع في اغتيال الحريري، بواسطة قوة ردع محاكمة مشهودة. وفي لبنان تسعى حركة 14 آذار في استكمال"ثورة الأرز". وهذه تعبئة شعبية واسعة حملت، في 2005، القوات السورية على الجلاء عن لبنان. وتريد هذه القوى حماية نفسها من أعمال انتقامية سورية جائزة، وقطع دابر عودة وصاية دمشق على لبنان. وترى الولاياتالمتحدة الأميركية لبنان حجراً على خريطة اقليمية. وترمي المساعي الأميركية الى اضعاف محور "حزب الله" - سورية - ايران. وشأن المحكمة الدولية أن تعزز الضغط على دمشق، فتحملها على فك تحالفها مع طهران، والامتناع من مد"حزب الله"بالسلاح، الى الكف عن دعم"حماس". وتعقد السياسة الأميركية الآمال على استسلام النظام السوري لهذه الضغوط. ولكن النظام السوري يرى الى علاقاته بپ"حزب الله"وايران وپ"حماس"أوراق تفاوض راجحة، يستخدمها في تحصين مصالحه، والتصدي للمساعي الخارجية الرامية الى زعزعة استقرار البلاد. وفي هذا الضوء، تبدو العملية القضائية الآيلة الى المحكمة سياسية في المرتبة الأولى. وتحمّل أهدافاً لا تقتصر على جلاء الحقيقة واحقاق العدالة. ولئن لم يسم مشروع قرار انشاء المحكمة سورية، صراحة، فالنظام السوري في مرمى التهمة، والنتائج العملية المترتبة على المحاكمة في الأذهان كلها. والحق أن في حال اقامة البينة الصارخة على ضلوع دمشق في الاغتيال، فالاحتمال الراجح أن ترفض تسليم المتهمين. فتسليمهم مؤداه توجيه التهمة الى نفسها، وقبولها الإذلال، والمغامرة بفتح ملفات أخرى قد تدعو الى فتحها اعترافات المستجوبين الى هيئة المحكمة. ولن يضعف هذا، في نهاية المطاف، حدة خصومها وتهمهم. ولا ريب في ان هذا السيناريو ينحو منحى صدامياً. ولا يخدم هذا المنحى مصلحة طرف من الأطراف. فما هي العقوبات التي قد يعاقب بها المجتمع الدولي النظام السوري، في حال ثبوت تورطه؟ فبعض الأطراف يقترح فرض حظر صارم. وشأن الخطوة إلحاق ضرر كبير بلبنان. فسورية هي ممر لبنان التجاري الأول، ومعاقبة النظام السوري من طريق فرض عزلة سياسية عليه، بلغت قصارى ما يسعها بلوغه. واذا أفلحت محاولة قلب الحكم، فلن يكون لبنان بمنأى من مترتباتها، ومن هذه المترتبات مفاقمة هشاشة استقراره. والى اليوم، لم تستنفد سورية مواردها كلها في زعزعة الاستقرار اللبناني. ولعل ظن بعض الأطراف أن دعم حكومة لبنانية تناوئها دمشق، يوفر"حمى"للبنان، هو من باب الوهم. ففاعلية سورية، في الميدان اللبناني، تفوق بأشواط فاعلية الدول الغربية. وعلى فرنسا استعادة صدقيتها من طريق رعاية تعريف الجارين علاقاتهما الواحد بالآخر، والسير بها الى علاقات طبيعية وعالية. وليس معنى هذا، أبداً، إطلاق يد سورية في لبنان. فهي فعلت في لبنان، في أمس قريب، ما لا يفعل: وترتب على أفعالها ثمن لا بد من تسديده، وهو انسحاب القوات السورية على نحو مهين، وادانة معظم المسؤولين السوريين الكبار الذي تولوا الملف اللبناني. ولا بد، في هذه الحال، من طمأنة الشعب اللبناني الى استحالة رجوع عقارب الساعة الى الوراء، والعودة الى زمن التعديات، ونهب الموارد، وتهديد الطبقة السياسية، من غير اغفال القرائن القوية على الضلوع في الاغتيالات السياسية. ولكن لا يبقى شك في أن زمن التسلط ولى، ينبغي مباشرة اجراءات سريعة مثل افتتاح سفارة سورية ببيروت، وجلاء مصير كثير من"المفقودين"اللبنانيين، وترسيم الحدود بين البلدين من غير ابطاء. فهذه الإجراءات وحدها تقوم مقام البرهان على طي صفحة الماضي، ولعل المحكمة وسيلة كذلك لطي صفحة الماضي، والبدء بصفحة جديدة، وهذا مشروط بتفادي مواجهة مع دمشق، ليست في مصلحة لبنان. وعليه، فلا غنى عن العودة الى الحوار مع سورية، وطرح المسائل المتعلقة بالجولان، واستئناف مفاوضات الشراكة الاقتصادية مع أوروبا، من غير اغفال معالجة الملف العراقي في اطار تعاون صريح. وتطبيع العلاقات بين بيروتودمشق ينبغي أن يصحبه تطبيع مشروط للعلاقات بين الغرب ودمشق. فهذا التطبيع، وعلى هذا الشرط، هو الركن الذي يمهد لإملاء تنازلات صارمة على بشار الأسد في لبنان. عن روبيرت مالي مدير مجموعة الأزمات الدولية وبيتر هارلينغ مستشار، "لوموند" الفرنسية، 1/6/2007