كل الجولات الاسرائيلية الحربية التي أخفقت بقدر أو آخر في تحقيق أهدافها على واحدة أو أخرى من الجبهات العربية، أفضت إلى إندلاع تناظر داخلي بين الأوساط والنخب السياسية والفكرية. وعادة ما تميز هذا التناظر بتبادل التلاوم المرير بشأن المسؤولية عن الإخفاق، وما إن كان الأمر يتعلق بانتكاسة استثنائية أم أن له دلالات جذرية أعمق تصل حد تهديد "وجود الدولة" ثم إن التقاليد الاسرائيلية بهذا الخصوص عادة ما انتهت بقرار حكومي بتكوين لجنة تحقيق مستقلة، تستتبعه حالة من الهدوء وسكون الجدل المنفلت، انتظاراً لتقرير هذه اللجنة الذي يفترض أن يقطع قول كل خطيب ومجتهد. عند هذا المستوى من توابع الانتكاسة المقصودة، تكون النخب الصهيونية حققت أول وأهم مراداتها من فكرة التحقيق والفحص، وهو تطييب خواطر قطاعات الرأي العام المهتاجة، الوجلة تجاه مصيرها ومصير الدولة، إلى أن كل شيء تحت السيطرة، وطمأنة الحائرين المتسائلين عما جرى ومآلاته إلى أن ثمة من سينوب عنهم في معرفة أوجه القصور واقتراح سبل معالجتها بأمانة وموضوعية، هذه الآلية تمنح النخب وقتاً مستقطعاً، تسعى فيه جهدها وما وسعها الإبداع السياسي والسيكولوجي المعنوي إلى تهدئة روع الذين نالت منهم هواجس الانتكاسة، مستخدمة في ذلك أدواتها التعبوية والتأثيرية خارج نص التقرير المنتظر... ثم يأتي هذا النص ليستكمل هذه المهمة بأن يصادق على ما تم طرحه وتداوله قبل صدوره، ولكن عبر لغة رصينة منضبطة تعرف كيف تخاطب مايشغل القوم وما الذي يمكن الإفاضة حوله والبوح به وما ينبغي كتمانة. وتخبئته. ولأن التكرار يعلم الشطار، يفترض أن نلاحظ ظاهرة التلاقي المتكرر بين متون تقارير التحقيق الاسرائيلية الشهيرة وتحليلاتها مع ما يقال قبل صدورها على سبيل الاجتهادات المرسلة من لدن المسؤولين الإسرائيليين ومحازبيهم. فبعد معركة 1973، كان أولئك المسؤولون صدعوا رؤوس الخلق أجمعين عن المفاجأة التي باغتتهم بها القوات المصرية والسورية، بما أدى إلى"إرتباك أداء جيش الدفاع في الساعات الاولى للحرب... لا غير"وصادف أن ذكر تقرير التحقيق في مجريات تلك المعركة الشيء ذاته بعد حين!. وبعد أكثر من ثلاثة عقود، صادف أيضاً أن أشار تقرير فينوغراد الى مسؤولية رئيس الوزراء أولمرت ووزير الدفاع بيرتس وقائد الأركان دان حالوتس عن الفشل في إدارة جولة 2006 على لبنان وحزب الله، تماماً كما كان يتردد في مسامرات الاسرائيليين خارج خلوة إعداد التقرير!. لا ندري ما إن كان من قبيل المصادفة أيضاً وأيضاً أن واحداً من تقارير لجان التحقيق في حيثيات الجولات الاسرائيلية المنكوسة لم يُعلق ما يوصف بالفشل بذمه أداء الجبهات العربية ذات الصلة. هناك اجماع مدهش لدى المحققين الاسرائيليين على إحالة هذا"الفشل"إلى عيوب ونقائص في الإدارة الاسرائيلية السياسية والعسكرية الميدانية، وليس إلى احتمال تطور أداء العرب القتالي وأنماط إدارتهم للمعارك. لا يبدو العرب عند هؤلاء المحققين قوماً قابلين للتطور واستيعاب دروس هزائمهم المتوالية. الأمر وما فيه أن إسرائيل هي التي تخطئ في حساباتها أحياناً لا أن العرب يمكنهم إجادة الحساب والجهوزية. وعليه تقول التقارير بمستور العبارات، إنه ليس على إسرائيل، لتكسب الجولة المقبلة بعد كل انتكاسة وتسترد هيبتها، سوى تدارك أخطائها الذاتية، نحسب أن"فينوغراد"كان الأكثر تأكيداً على هذا الاعتقاد النمطي، كونه ألمح بقوة إلى أن فشل 2006 مجرد حدث عابر يقع على عاتق بضعة قادة، وأنه كان بوسع المؤسسات المعنية وما زال، معالجة هذا الحدث ببضعة إجراءات احترازية، بما من شأنه الوصول إلى نتائج أفضل تسر خواطر الاسرائيليين. نود القول إن قوة يعتد بها في اسرائيل، بما في ذلك لجان التحقيق الموصوفة بالموضوعية والرأي العلمي المستقل، لم تصل بها المدارسات والتحليلات الى الاعتراف بأن العرب لديهم القدرة على إلحاق هزيمة ما بإسرائيل في ظل شروط معنية، ولعل أقصى ما أمكن لبعض القوى الاسرائيلية الإقرار به هو أن دولتهم تحتمل الفشل والنكوص الموقت والمحدود، لأسباب لا دخل للعرب في اجتراحها. لو أن تقارير التحقيق الاسرائيلية بلغت من الشفافية والإنصاف مرتبة البوح بأن إسرائيل ربما تنكسر تماماً أمام العرب، لأدت إلى عكس المقصود بها على طول الخط. وهو إشاعة الرعب في الوجدان الاسرائيلي الجمعي. هذا على حين تدبج هذه التقارير وتصدر لغرض محاولة بث الإحساس بالأمن التاريخي للاجتماع السياسي في الدولة، إنها وظيفة إزالة آثار"الذعر الجماعي"المترتبة على أي انتكاسة وفشل أمني الطابع في كيان دولي غير طبيعي، يُقال إنه لا يحتمل الهزيمة ولا يتحملها ويقدس الأمن. يتحسس الاسرائيليون وجود دولتهم من الأساس كلما واجهوا إحساساً بالخطر أو الفشل العسكري بالذات، والمثير أن الهزائم الموضعية، وأحياناً الواسعة، لا تؤدي إلى مثل هذا السلوك أو الاشعاع المقيت إلا في إطار كيان مصاب بعيوب خِلقية وخُلقية جسيمة، تورده موارد الشكوك في احتمالات الحياة والموت جراء أية محنة. هناك دول غير إسرائيل مُنيت بهزائم عسكرية تكسر الظهر، لكن نخبها وعامتها لم تقع فريسة هذه الشكوك، حدث هذا مع بعض الدول العربية غداة هزيمتي 1948 و1967 أمام إسرائيل ذاتها. مناسبة تلك الهزائم على قسوتها، لم تجمح بخيال أحد الى تصور أن واحدة من هذه الدول باتت آيلة للاستئصال والغياب من الخريطة الدولية، وحدها إسرائيل من دون بلاد"الشرق الاوسط"التي تبدو مرشحة لهكذا تصور جامح بين يدي أية انتكاسة في معاركها الخارجية. ولا يغادر التصور ذاته كثير من الاسرائيليين عند مجرد التفكير والتأمل في ما هو أدنى من الهزائم العسكرية البينية، مثل إختلال التوازن السكاني في إسرائيل لصالح عرب 48، أو التطور الوحدوي العربي ثنائياً أو جماعياً بالجوار، أوتخطي دول عربية أو إقليمية معادية حاجز الاحتكار النووي الاسرائيلي، أو اشتداد ساعد التيارات جذرية المواقف تجاه إسرائيل مقابل ضمور القوى الأميل للتطبيع والتعامل التفاوضي معها. وفي دولة هذا مبلغ حساسية مواطنيها مستوطنيها! تجاه الوجود والعدم، لا يجمل بتقارير التحقيق أن تفصح عن كل شيء بما قد يراكم هذه الحساسية ويفاقهما. وظيفة التقارير أن تفعل العكس. وهنا يصح الاعتقاد بأن لجان التحقيق يمكنها أن تضحي بنسبة من الشفافية والديموقراطية، طالما أن الهدف هو منع التصدع النفسي والاجتماعي في كيان الدولة برمته. بعبارة أخرى، لا تصدر التقارير في هذه الحالة الخاصة لأجل إثبات الجدارة الديموقراطية فقط. ومع ذلك يصعب الإدعاء بأن هذه التقارير تنحو الى الكذب القراح ومخادعة الجمهور.. الحال أنها تتجمل وتميل حتماً الى تخبئة الكثير بحيث لا يطلع على"الحقائق الكاملة"إلا بعض من خاصة الخاصة. وهي في كل الأحوال لا تندرج في زمرة المصادر المعرفية عن ديموقراطية إسرائيل، وإنما هي أحد أدوات إدارة التجمع الاستيطاني في الداخل وإدارة الصراع مع العرب في الخارج. النخب الصهيونية الحاكمة تعرف ذلك، ولهذا لا يعبأ بعض الذين يدينهم تقرير فينوغراد بالتقصير والغباء الإداري والسياسي والعسكري في التعامل مع جولة الصيف الماضي ضد حزب الله بالتقرير، ولا يمتثلون لحجم شعبيتهم المتدني في الشارع الاسرائيلي، ويداومون في مواقعهم وبجاحة الزعماء في عيونهم، وليس بلا مغزى هنا أن إيهود أولمرت مر وحكومته بأمان من ثلاثة اقتراعات لحجب الثقة في الكنيست خلال شهر واحد بعد صدور هذا التقرير! لكن بعض أصحاب الرأي وأهل السياسة والتنظير من العرب، المعجبين بديموقراطية إسرائيل، لا يعرفون ما تعرفه النخب الصهيونية. فقد طار الظن بهؤلاء حتى اعتقدوا أن حدود الشفافية والمساءلة والمحاسبة ودولة المؤسسات في هذه الديموقراطية، تبلغ حد نشر غسيل الدولة وإفشاء أسرارها على الملأ. أو يمكن ان تصل الى أريحية الاعتراف بقابلية هذه الدولة للهزيمة المنكرة على يد العرب المتخلفين. على أن هذا الاعتقاد يهون قياساً بالخطيئة التي اقترفها معلقون عرب كثيرون وهم يعالجون فينوغراد ومسألة تقارير لجان التحقيق الاسرائيلية بعامة، وفحواها السخرية من افتقار دنيا العرب لمنهجية المراجعة والتبصر الموضوعي في أسباب إخفاقاتهم وهزائمهم أمام إسرائيل، وكذا في مناح كثيرة من حياتهم وقضاياهم المزمنة!، نلمس هذه الملاحظة من موجة - ولعلها عاصفة - التساؤلات المتماثلة التي انداحت في الأجواء الإعلامية والثقافية العربية حول الحاجة إلى فينوغراد أو أكثر من فينغراد عربي، ونحسب أنه لا صحة بالمطلق لهذا الزعم وأن المحتجين به يراوحون بين مواقع الغفلة وعدم الدراية ونقص المتابعة والإرجاف والكذب، أو أنهم في أسلم الفروض راحوا ينسجون على منوال موضوعةٍ ذات جرسٍ إعلامي جذاب. فالشاهد أن اخفاقات العرب وهزائمهم في معمعة الصراع الصهيوني العربي منذ إطلالاته الأولى إلى ساعتنا هذه، نالت حقها وزيادة من البحث والمدارسة وقراءة العبر واستخلاص الدروس، وجرى ذلك أحيانا بشكل عاطفي ساذج وفي أحايين أخرى على نحو عقلاني علمي رصين لا تعوزه الموضوعية. وفي تقديرنا أنه ما من هزيمة أو انتكاسة لحقت بالعرب، فرادى أو مجتمعين في هذه المعمعة الممتدة إلا وخاضت فيها مباضع الأدبيات العربية ذات الصلة، بحثاً عن مواطن الخلل، ونقداً للذات بل وجلداً لها. وربما لم تأخذ هذه المراجعات شكل اللجان والتقارير الاسرائيلية الزاعقة، غير أنها لم تغب من افق المناظرات المعمقة عربياً، لا سيما على الصعد الثقافية الفكرية ودوائر البحث المتخصصة، هذا وإلا ما معنى تحسن الأداء العربي في مواجهة إسرائيل بوتيرة ملموسة على منحنى الزمن؟! من قال إن هذا الأداء على مختلف الجبهات ظل متماثلاً وانتهى إلى المصير ذاته في مختلف الجولات العسكرية؟ وبم نفسر الفارق المذهل بين الإدارة العربية لمعركتي 1967 و1973 بالنسبة للجيوش النظامية وبين جولتي 1982 و2006 بالنسبة لقوى المقاومة غير النظامية؟ من هو المنصف الذي ينكر ترقي أساليب هذه الإدارة، على صعد التخطيط والتعبئة والتنظيم والتنسيق والجهوزية القتالية والاتصال والتعامل الديبلوماسي والإعلامي وغير ذلك بما يتعلق بأسباب النصر والهزيمة؟! لا يتسع المقام لإدراج نماذج من جهود العشرات من رموز الفكر والعلم والحركة الذين أسسوا للمسافة التي يجحدها البعض بين أداء العرب أجمعين في جولة 1948 وأداء حزب عربي واحد عام 2006، ولو كان الأمر على غير هذا التصور. ففيم إذن كان"فينوغراد"والجدل الاسرائيلي المثار على ضفافه؟ المنطق يقول إنه لولا"الفينوغرادات العربية"المتعددة الأشكال وأصداوها الميدانية ما كان فينوغراد الاسرائيلي! وعطفاً على مخرجات الاجتهادات العربية البحثية متعددة الأنماط، من المداخلات الفردية إلى أعمال ورش البحث والندوات إلى المؤتمرات، التي لم تترك صغيرة ولا كبيرة في سيرة ومسيرة ومصير الصراع الصهيوني العربي والقضية الفلسطينية إلا تعرضت لها، عطفاً على هذه الحقيقة نهمس في آذان البعض: بحق السماء، ألا تعرفون حتى الآن أسباب إخفاق العرب في بعض حروبهم مع إسرائيل ومن المسؤولون عن ذلك؟! * كاتب فلسطيني.