في مقال "الحقيقة والمصالحة" "الحياة" 1/2/1999 يجدد ادوارد سعيد انتقاده عملية التسوية، المتمثلة باتفاق "أوسلو". ففي رأيه، مهد الاتفاق للانفصال، في حين "لا يمكن للسلام الحقيقي أن يتحقق إلا بدولة اسرائيلية فلسطينية، ثنائية القومية"، يعيش فيها الشعبان الإسرائيلي والفلسطيني على أفصل نحو ممكن من العدل والسلام، بعد أن تعذر على أي منهما التخلص من الآخر بالوسائل العادية أو العسكرية. في طرحه هذا يحاول إدوارد سعيد ابتكار حل غير تقليدي لقضية الصراع مع اسرائيل، مقترباً من أطروحة "الدولة الثنائية القومية"، الشهيرة التي عمل عزمي بشارة على بلورتها، كبديل لأطروحة "دولتين لشعبين"، في تجاوز للممانعة الإسرائيلية لقيام الدولة الفلسطينية، وبافتراض أن قيام دولة ضعيفة ومحدودة السيادة، قد لا يقدم ولا يؤخر شيئاً لقضية الشعب الفلسطيني. وبغض النظر عما طرحه عزمي بشارة، فإن هذه المناقشة ستقتصر على طرح ادوارد سعيد لها، حصراً. بداية ينبغي التأكيد على أن هذه الأطروحة أو غيرها، تكتسب شرعيتها من تعقيدات العملية الصراعية ضد المشروع الصهيوني، ومن تطورات هذه العملية خلال نصف قرن: اسرائيلياً، وفلسطينياً، وعربياً، ودولياً، فهذه التطورات طرحت أسئلة وتعقيدات جديدة باتت تتطلب ايجاد أجوبة غير تقليدية وخلاقة، عبر حوار ديموقراطي بناء، لإغناء وجهات النظر المتبادلة" فقد آن الأوان للفكر السياسي العربي أن ينتقل من طرح البديهيات والشعارات الى التعمق في نقاش الإشكاليات، وأن ينتقل من حقل التفكير بالمطلقات الى حقل التفكير بصنع الوقائع. ولعل مساهمات بشارة وسعيد وغيرهما من المفكرين المجددين هي من هذا النوع الذي يصدم الأفكار السائدة، ويفكك اليقينيات، في غمرة البحث عن الحق والعدالة في عالم تتحكم فيه النسبيات وموازين القوى. وأهمية هذه الأطروحات أنها لا تقدم نفسها كيقينيات جديدة، وإنما كمحاولات لتجديد الفكر السياسي وتطويره بما يتناسب والمتغيرات والتطورات التي تحيط بعملية الصراع العربي - الإسرائيلي، وهي محاولات خاضعة بدورها للنقاش والنقد بهدف البناء عليها أو تطويرها. بتبنيه لفكرة ثنائية القومية، ينطلق إدوارد سعيد، من الاعتقاد بتعذر تحقيق الانفصال بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بحكم التداخل الكبير والمعقد بينهما في مختلف المجالات، وبسبب صغر مساحة فلسطين الأصلية. وعليه فهو يستنتج بأن "إعطاء حق تقرير المصير للفلسطينيين في دولة منفصلة شيء غير عملي"، مما يجعله يفضل للشعبين العيش معاً في دولة واحدة، بسلام وعدالة ومساواة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل الحل الأفضل هذا هو الحل الواقعي حقاً؟ ثم هل حل الدولة ثنائية القومية هو الحل الأفضل فعلاً؟. المشكلة هنا أنه في مقالة سياسية مبسطة من الصعب انتاج فكرة سياسية متكاملة ومتماسكة، هذا فضلاً عن الالتباس الذي قد تثيره كتابات موجزة وسريعة من هذا النوع. فإدوارد سعيد لم يوضح تماماً لماذا يفضل هذا الحل على حل الدولة الفلسطينية، فصغر الدولة ليس حجة عليها، فثمة دول أصغر، أما التداخل والتشابك فليس نهائياً، وهو نتاج مرحلة الاحتلال، ويمكن في معطيات أخرى، وبدعم عربي تحقيق فك الارتباط. وبشكل محدد فإن أطروحة دولتين لشعبين، هي الطرح الذي يستجيب لمتطلبات وتوازنات هذه المرحلة من الصراع مع اسرائيل في بعده الفلسطيني، وهو الطرح الذي يبدو أقرب الى التحقيق، برغم الممانعة الإسرائيلية الظاهرة، فهذا الحل بات يكتسب شرعية دولية وعربية وحتى اسرائيلية. وهذا الحل برغم أنه ليس نهاية المطاف بالنسبة لمختلف جوانب الصراع العربي - الإسرائيلي، وبرغم أن عصرنا هو عصر الكيانات الكبرى، الذي تتآكل فيه عناصر سيادة الدول في ظل مسارات العولمة والتطور التكنولوجي والتداخل الاقتصادي، فإن قيام دولة فلسطينية، هي مسألة على غاية من الأهمية، فهي، نتاج للنضال الفلسطيني والعربي، وتأكيد لفشل اسرائيل في الغاء الشعب الفلسطيني، وهي تفتح آفاق استعادة باقي الحقوق الفلسطينية" هذا برغم محاولات اسرائيل توظيف هذا الموضوع للمساومة على القضايا الأخرى. بالمقابل فإن طرح خيار الدولة الثنائية، في ظل موازين القوى والمعطيات الراهنة، من شأنه أن يطمس حق الفلسطينيين بتقرير المصير في دولة مستقلة، كما من شأنه تمكين اسرائيل من الالتفاف على قضية الانسحاب من الأراضي المحتلة في العام 1967. وأعتقد أن الفلسطينيين في ضوء الأوضاع الراهنة، لا يملكون ترف التفكير بهذا الخيار، الذي يتضمن، فضلاً عما تقدم، المخاطرة بإمكانية استمرار هيمنة شعب على شعب آخر، بما في ذلك إمكان أسرلة الفلسطينيين، بشكل قانوني وشرعي، فالارتباط بدولة مع الإسرائيليين سيكون على حساب ارتباط الشعب الفلسطيني بأمته العربية، بغض النظر عن النيات. باختصار فإن الدولة الفلسطينية رغم محدوديتها هي نقلة مهمة في العملية الصراعية ضد المشروع الصهيوني، وإذا كان ثمة مخاوف من توظيف اسرائيلي لهذه الدولة، أو جعلها موضوعاً للمساومة، فإن الوضع يتطلب مقاومة ذلك، وعن طريق تعزيز مرتكزات هذه الدولة، وتعميق الاحتضان العربي لها، بغض النظر عن القيادة الحالية والموقف من إدارتها للعملية التفاوضية أو للسلطة، فمسألة القيادة هي مسألة متحركة، أما حق تقرير المصير فهو القضية الأساسية. بمعنى آخر فإن خيار الدولتين، هو الخيار الأكثر واقعية وإمكانية، رغم ما يحيط به من اشكاليات وعراقيل، فقيام دولة فلسطينية مرتبطة بإطارها العربي، يخلق توازناً نسبياً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو الجسر الذي لا بد من عبوره نحو الخيارات الأخرى الأكثر تطوراً من مثل: دول ثنائية القومية، أو دولة كونفدرالية مع بعض دول الجوار العربي، أو دولة علمانية ديموقراطية/ دولة لكل مواطنيها. بكل الأحوال فإن هذا النقاش لا يصادر أطروحة الدولة الثنائية، ولكن هذه الأطروحة بحاجة الى مزيد من التبلور باعتبارها إحدى الأطروحات المتعلقة بحل الصراع مع اسرائيل، فثمة خيارات أخرى، كما قدمنا، والدولة الفلسطينية المفترضة، يمكن أن تدخل بعلاقات كونفدرالية مع دول عربية أخرى، للتغلب على مسألة الإمكانات والمساحة وغير ذلك من مشكلات الكيانات الصغرى، فليس الحل الوحيد للتغلب على ضعف الدولة وصغرها الارتباط بإسرائيل. في كل الأحوال فإن هذا النقاش لا يصادر أطروحة الدولة الثنائية، لكن هذه الأطروحة في حاجة الى مزيد من التبلور باعتبارها إحدى الإطروحات المتعلقة بحل الصراع مع اسرائيل، فثمة خيارات أخرى، كما قدمنا، والدولة الفلسطينية المفترضة، يمكن أن تدخل بعلاقات كونفدرالية مع دول عربية أخرى، للتغلب على مسألة الإمكانات والمساحة، وغير ذلك من مشكلات الكيانات الصغرى، فليس الحل الوحيد للتغلب على ضعف الدولة وصغر مساحتها هو الارتباط بإسرائيل. في الحقيقة فإن المكان الطبيعي لطرح الدولة الثنائية القومية، هو في اسرائيل ذاتها، التي يشكل العرب 20 في المئة من سكانها، ولكن هذا الطرح لن يجد آذاناً تصغي له، حتى في أوساط دعاة السلام واليسار الإسرائيليين، اللهم إلا لدى فئة محدودة من المثقفين الإسرائيليين. وأعتقد أن طرح الاستقلال الثقافي الذي يطرحه عزمي بشارة وأطروحة دولة لمواطنيها في اسرائيل، هي محاولة مهمة لتجاوز الرفض الإسرائيلي لطرح الدولة الثنائية القومية، حيث أن الغالبية العظمى من الإسرائيليين يعتبرون دولتهم دولة يهودية، من مختلف الجوانب، تعيش فيها أقليات أخرى. ولعل عزمي بشارة بمعرفته بالسياسات الإسرائيلية، وبديناميته الفكرية، يدرك استحالة المس بالطابع اليهودي للدولة، في المرحلة الحالية، لذلك فهو يعمل على تفكيك ايدلوجيتها العنصرية، والتشكيك بديموقراطيتها، بمقاربته المتمثلة بزطروحة دولة لمواطنيها، بحيث تكون اسرائيل دولة لمواطنيها حصراً يهوداً وعرباً، في اطار من المساواة أمام القانون وأمام الدولة من الناحيتين الفردية والقومية. وفي مقاله المذكور يقول ادوارد سعيد: "نحتاج الى ان نحد من حيث المدى والاستثناء من فكرتين على السواء، فكرة اسرائيل الكبرى باعتبارها الارض التي منحها الله لليهود، وفكرة فلسطين باعتبارها ارضاً عربية لا يمكن ان تعزل عن الوطن العربي". ويتابع "كانت فلسطين دائماً ولا تزال مهد الحضارات واقوام كثيرة، وسيكون من قبيل التبسيط المفرط ان ننظر اليها باعتبارها يهودية أو عربية بشكل اساسي أو على وجه الحصر". وهذا الطرح يثير عدداً من الالتباسات، بغض النظر عن النيات الطيبة التي تقف خلفه. فمحاولة تدوير الزوايا، والبحث عن حلول وسط، تتجاوب مع تطورات الواقع والعدالة النسبية، شيء مشروع، ولكن التوصل الى نتائج من نوع القبول بعزل فلسطين عن الوطن العربي، هو استنتاج متسرع ومبسط. صحيح انه ثمة واقع يتمثل بوجود اسرائيل، ولكن المسألة هي هل ستبقى اسرائيل على وضعها كدولة خارج تاريخ المنطقة وجغرافيتها، وهل ستبقى دولة - مشروع توظف يهود العالم والاسرائىليين فيها، على خلفية ايدلوجية غيبية أو مصلحية، في خدمة المصالح الغربية، وفي عرقلة التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتطور القومي للمنطقة العربية. بمعنى آخر يمكن الاتفاق مع ادوارد سعيد على ان فكرة تحرير فلسطين باتت تحتاج الى مضامين جديدة، بعد نصف قرن من المتغيرات والتطورات المحيطة بالطرفين، وبعد ان بات 60 في المئة من يهود اسرائيل من مواليدها. وهذا الواقع المعقد يفرض المساهمة بتحويل اسرائىل الى دولة عادية لمواطنيها، بتقويض أسس الصهيونية فيها، وبتحررها من دورها السياسي - الوظيفي، والانخراط في التاريخ السياسي للمنطقة وفي جغرافيتها وحضارتها المنفتحة والمتنوعة، وهذا هو معنى أطروحة الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين، التي هي جزء من النسيج الحضاري للمنطقة، وهو معنى فكرة التحرير الذي تبنته الحركة الوطنية الفلسطينية، بشكل مبكر، باعتباره حلاً حضارياً وانسانياً، ينفتح على الآخر، ويساهم بتحرير اليهود من الصهيونية. اما بالنسبة الى عدم وجود استقلال للفلسطينيين تاريخياً، فهو واقع كل دول المنطقة، التي كانت عبر التاريخ منطقة واحدة، في اطار كيانات كبيرة. وبشكل عام، فالدول الحديثة - القومية، المتشكلة في العالم، هي وليدة مرحلة الرأسمالية، التي دخلت الى المنطقة متأخرة، وبشكل مشوّه وقاصر بفعل البنى الداخلية الهشة، وبفعل التقسيمات الاستعمارية والتدخلات الخارجية. وبعد انتهاء مرحلة الاستعمار حرم الشعب الفلسطيني من حقه في اقامة دولته، أسوة بغيره من الشعوب في المنطقة، بحكم التصارع مع الحركة الصهيونية، المدعومة من الدولة المنتدبة بريطانيا، كما قطع التواصل والتطور القوميين بسبب العامل الخارجي، ورغم ذلك ظل وعي الفلسطينيين لذاتهم باعتبارهم جزءاً من الامة العربية، ليس بسبب وعيهم لضرورة ذلك في المواجهة مع الصهيونية، فحسب، وانما بسبب تاريخهم وثقافتهم ووعيهم السياسي. ايضاً، في المقال، مبالغة في حجم تيار ما بعد الصهيونية، أو تيار الاسرائىلية. والمناسبة فان افكار هذا التيار تأثرت بمنهج ادوارد سعيد النقدي، فهو ذاته له فضل كبير في ذلك. وافكار هذا التيار تعبر بشكل دقيق عن ارهاصات التحول في الثقافة والمجتمع الاسرائيليين، في تعبير عن نضج اسرائيل، بعد نصف قرن على قيامها، من النواحي المجتمعية والاقتصادية والسياسية، والوجودية ايضاً، وهو تيار ينمو في اطار افكار ما بعد الحداثة ومسارات العولمة والتغيرات الدولية والاقليمية، وعلى الاخص بدفع من عملية التسوية، لتحديد هوية اسرائىل ورسم حدودها الجغرافية والبشرية والسياسية. ولكن افكار تيار ما بعد الصهيونية برغم جرأتها تحتاج الى مزيد من الانضاج والى شروط اخرى مواتية ذاتية، وموضوعية، فهي ما زالت، والى المدى المنظور، افكاراً هامشية في المجتمع الاسرائىلي، ولا يمكن المراهنة عليها، برغم أهميتها ودلالاتها المعنوية والتاريخية، التي تشير الى مأزق اسرائيل، التي رغم نجاحاتها الهائلة تقف في مواجهة تناقضاتها واخفاقاتها. اخيراً، المصالحة الحقيقية تبدأ من تمكين الفلسطينيين من اقامة دولتهم المستقلة، وتنتهي بالتوصل الى قيام دولة ديموقراطية علمانية في فلسطين / اسرائيل، بمعنى آخر دولة لكل مواطنيها، تكون جزءاً من النسيج الحضاري المتنوع للمنطقة العربية. وهذا الحل يتضمن تفكيك المشروع الصهيوني، باعتباره مشروعاً عنصرياً استعمارياً وظيفياً، وفيه استعادة المنطقة لتاريخها وتطورها، وهو بالطبع حل دونه صراعات مديدة متنوعة، وفيه اشكاليات وتأثيرات داخلية وخارجية، وايضاً فيه اخفاقات ونجاحات. * كاتب فلسطيني