اكتفت القراءات العربية لتقرير "لجنة فينوغراد" أو ما نشر منه، باعتبار ان النص النهائي لن يصدر قبل شهر آب اغسطس المقبل، بإبداء ردود أفعال ذهبت في اتجاهين يوحيان باطلاع جدي على التقرير ولا يؤسسان لفهم أعمق لحقيقة الدروس التي خرجت بها اللجنة الإسرائيلية و"المواعظ"التي ألقتها في وجه السلطة السياسية والعسكرية الإسرائيلية الحالية والتي ستخلفها. الاتجاه الأول هو تبني الانطباع الذي شرحه وتوسع فيه"حزب الله"ومفاده ان التقرير يؤكد هزيمة إسرائيل في الحرب وأن"النصر الإلهي"ليس مجرد شعار يجري تكراره. وقد تبنى معلقون وپ"محللون سياسيون"عرب هذا الرأي ونظّروا له وذهبوا فيه بعيداً لتبرير مواقف مسبقة قوامها ان في إمكان"قوى"حزبية وشيعية التصدي للجيش الإسرائيلي وإلحاق الهزيمة به، وبالتالي فإن"الأنظمة"هي التي تمنع الشعوب من التحرك لقتال العدو، اما تحديد من هي الأنظمة المقصودة، فهذا امر يخضع لقياسات المحللين وحساباتهم الخاصة ومصالحهم"العليا". اما الاتجاه الثاني في تقويم"تقرير فينوغراد"فقد ذهب، استناداً الى جرأة القضاة والمحققين الإسرائيليين في تناول مسؤولي دولتهم من السياسيين والعسكريين، الى المطالبة بپ"فينوغراد"لكل بلد عربي، من دون إغفال الإشادة بالديموقراطية الإسرائيلية التي تتيح للحاكم ان يعين لجنة تدينه، من دون ان يخشى اعضاء هذه اللجنة الذهاب الى السجن او الى القبر أو ان تحملهم تحقيقاتهم الى طرح انفسهم بديلاً انقلابياً عن السلطة القائمة. وفي الحقيقة فإن"الفينوغراديين العرب"كانوا موجودين دائماً، ولكن من خارج المؤسسات السياسية والدستورية القائمة، وإذا كانت"أزمات"اسرائيل العسكرية مع العرب جعلتها تلجأ الى الفحص والتدقيق واستخلاص العبر، وهو ما فعلته لجنة"اغرانات"في اعقاب حرب 1973 ولجنة"كاهانا"في أعقاب اجتياح بيروت ومجازر صبرا وشاتيلا عام 1982، وأخيراً"لجنة فينوغراد"في أعقاب حرب تموز يوليو 2006، فإن"أزمات"العرب العسكرية مع إسرائيل أفقدتهم المؤسسات الدستورية تماماً، فكان رد الفعل على هزيمة 1948 انقلاباً عسكرياً من دون نقاش في مصر 1952 وسلسلة انقلابات لم تتوقف في سورية والعراق، وأدى ذلك الى إلغاء الحياة الديموقراطية واستبدالها بحياة"الطوارئ"التي لم يعد ممكناً في ظلها البحث في أسباب الهزيمة، وبات تنطح أي"فينوغراد"عربي مستقل، الى نقد الأوضاع القائمة ومسبباتها سبباً لإدخاله السجن أو قتله أو نفيه الى بلاد الله الواسعة. وما جرى ويجري في لبنان في أعقاب حرب تموز يكاد يشبه ما جرى في عدد من"دول الطوق"كنتيجة لهزيمة هذه الدول أمام إسرائيل، ذلك ان شل الدولة ومؤسساتها ومحاصرة المجتمع الأهلي بقوس التوترات المستدامة، هما الى حد بعيد عملية انقلابية غير مكتملة، لا يبررها القول بتحقيق الانتصار على العدو ولا اعتراف"لجنة"هذا العدو بفشل عمليته العسكرية في لبنان. ومع ان التقرير الإسرائيلي تعامل مع لبنان كپ"بنك اهداف"وهي التسمية التي تداولها العسكريون الإسرائيليون إبان العدوان، فإنه في إشاراته القليلة الى لبنان كشف المكمن الحقيقي للفشل الإسرائيلي الذي يعطي اللبنانيين معنى لحديثهم عن الانتصار. فالتقرير الموجز يشير في الفقرة 15 البند أ الى ان من بين اسباب"الإخفاقات"ان"تعقيد الساحة اللبنانية هو بقدر كبير ليس تحت سيطرة اسرائيل". ولو أردنا تفصيلاً لمعنى هذا الكلام، لأمكننا القول، وهذا انطباع خرج به اكثر من محلل وكاتب في بداية حرب تموز، أن استعجال اسرائيل الرد على خطف الجنديين، ولجوءها الى عمليات القصف التدميرية وتهجير القرى الجنوبية واستهداف مناطق بعيدة جداً من جبهة المواجهة، كان هدفه تفجير"الساحة اللبنانية المعقدة"لكن النتيجة جاءت عكسية، فلم تنفجر هذه الساحة على رغم الجدال السابق على الحرب في خصوص"سلاح المقاومة"، واحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ما ادى الى"الانتصار اللبناني"وإنجاز"الفشل الإسرائيلي". كان يجب على"حزب الله"الانطلاق من هذه النقطة بالذات والبناء عليها في مرحلة ما بعد الحرب، وإكمال ما بدأه خلال الحرب نفسها من تعاون ونقاش مع مكونات المجتمع والمؤسسات الدستورية في الحكومة ومجلس النواب، إلا أن ذهابه في الاتجاه المعاكس يكاد يجعل"الانتصار"عبئاً عليه وعلى اللبنانيين الآخرين. ربما هنا يكمن المعنى اللبناني لاستخلاصات"تقرير فينوغراد"، أما الأخطر في ما خص اسرائيل والمنطقة، وهو ما يجعل لبنان والبلدان العربية الأخرى في أمس الحاجة الى إعادة فحص أوضاعها الداخلية وترتيب شروط صمودها، فهو ما يقترحه التقرير من"برنامج عمل"سيصعب على أي حكومة حالية أو مقبلة في اسرائيل ان تتجاهله. ان"استخلاص العبر وتطبيقها"هو الهدف الذي وضعته لجنة فينوغراد نُصب عينيها، فإذا كانت اللجنة وجدت ان قرار الحرب"لم يستند الى خطة مفصلة"ولم يلحظ"خطوة برية واسعة وطويلة"، فإنها تدعو عملياً الى إعداد خطط تفصيلية للحروب المقبلة وإعادة الاعتبار لعنصر الاجتياح البري، ثم ان هذين التدبيرين ينبغي لهما ان يستندا الى"تفكير استراتيجي"مختلف، فپ"الجيش الإسرائيلي الفقرة 19 لم يكن مستعداً للحرب ... لأن في جزء من القيادة السياسية والعسكرية، تبلور تفكير بأن عصر الحروب انقضى، وأن لإسرائيل والجيش الإسرائيلي قدرة ردع وتفوقاً نوعيين كافيين، من اجل منع إعلان الحرب الحقيقية عليها، ومن اجل إصدار مذكرة أليمة لمن يبدو وكأن الردع لا ينطبق عليه، وسادت ايضاً الفرضية بأن إسرائيل لن تبادر الى شن حرب أخرى، وأن تحديات القوات البرية ستكون في التصدي لنزاعات متواصلة على مستويات قوة منخفضة". هذا"الواقع"تصفه لجنة فينوغراد وتطلب تغييره، وبديلها واضح، انه النقيض تماماً: الاستعداد للحرب والمبادرة الى شنها وإعداد القوات البرية الى أدوارها المقبلة! وبدأ إيهود اولمرت الذي"صمد"على رغم تحميله المسؤولية، ولم يواجه انقلاباً عسكرياً"قومياً"ولا تلقى رصاصة من صانع للتاريخ، في"استخلاص العبر وتطبيقها"عبر الإشراف على أكبر مناورات يجريها الجيش الإسرائيلي، اما الهدف المقبل فلنا ان نتوقعه في أي مكان بدءاً من سورية وصولاً الى ايران، من دون ان ننسى تجارب العقود الماضية التي جعلت من السهل تحويل لبنان الى أكياس رمل في حروب بديلة.