يقولون إن الصحافة هي مهنة البحث عن المتاعب، غير انها في العراق اليوم فاقت ذلك واصبحت المهنة التي تفضي بأصحابها الى ما هو اكثر جسامة، وفي حالات كثيرة الى الموت، كما يدل على ذلك العدد الهائل من القتلى من ابناء هذه المهنة المهمة التي تعتبر مهنة البحث عن الحقيقة ونشرها بين الناس. وكصحافي عراقي أريد ان استغل يوم الصحافة العراقية، الذي يصادف الخامس عشر من شهر حزيران يونيو، وهو ذكرى صدور اول صحيفة عراقية العام 1869، كي اشارك القراء بعض الهموم التي يعاني منها الصحافيون العراقيون، اضافة، بطبيعة الحال، الى ما يعانونه كمواطنين يعيشون المأساة المريعة التي حلت ببلدهم. ففي اليوم الاول من هذا الشهر اضيف صحافي آخر الى 180 آخرين من الصحافيين والعاملين في المؤسسات الاعلامية الذين سقطوا قتلى ضحايا العنف المنفلت والاعمى الذي يضرب بالعراق منذ احتلاله في ربيع العام 2003 وهو حسب منظمة"مراسلون بلا حدود"اكثر من ضعف عدد الصحافيين الذين قتلوا خلال 20 عاماً استمرت فيها الحرب في فيتنام التي سجلت مقتل 63 صحافياً فقط بين عامي 1955 و1975. كما انه رقم يفوق بأضعاف عدد الصحافيين الذين سقطوا في ساحات الحروب في اي مكان في العالم. ان اعداداً هائلة من العراقيين، ومعظمهم من الأبرياء الذين وجدوا في المكان الخطأ وفي الزمن الخطأ، يسقطون هم ايضا في أتون هذا الصراع الدموي، غير ان تفاقم اعداد القتلى من الصحافيين اصبح يشكل ظاهرة ملفتة للنظر، ومثيرة لأسئلة عدة، عن الاسباب الحقيقية التي تكمن وراء استهدافهم. إن أول مؤشر ينبغي التركيز عليه هو ان عددا اقل من الصحافيين العراقيين قتلوا او اصيبوا أثناء تغطيتهم لمواجهات عسكرية او بسببها، وأن الغالبية منهم اغتيلوا اما فوراً او بعد اختطافهم، او خلال هجمات استهدفتهم مباشرة، ما يعطي لمقتلهم معنى آخر، وهو انهم كانوا مستهدفين لأسباب تتعلق بأدائهم المهني او على اقل تقدير لانتسابهم لهذه المهنة. هناك مؤشر ثان هو ان العديد من الصحافيين اغتيلوا بطرق وحشية، ومنها ما جرى وكأنه حالة اعدام علني، والبعض شمل الاستهداف عائلاتهم، مما لا يمكن تفسيره إلا بأنه رسالة كان يستهدف القتلة ايصالها الى باقي الصحافيين العراقيين. كما ان هناك مؤشراً ثالثاً، وهو تنوع الخلفيات السياسية للضحايا وكون غالبيتهم من الصحافيين العاملين في هيئات مستقلة او اجنبية مما يعني شيوع الظاهرة وتحولها الى حرب تصفيات شاملة. ولعل ما يحد من إمكان إلمامنا بدوافع الجناة في كل حالة، ولسلسلة الجرائم ذاتها، هو عدم قيام القوات الأميركية التي لا تزال تتمتع بسلطات واسعة في العراق، ولا الحكومة العراقية أو اجهزتها الرسمية، بالتحقيق في أي من حالات قتل الصحافيين خلال السنوات الأربع الماضية، وبالتالي فإن الجناة لم يفلتوا من المحاسبة والعقاب فقط، بل جرى طمس الدوافع والاسباب التي تقف وراء الظاهرة وبالتالي استمرارها وتفاقمها. ولا يمكن بطبيعة الحال توجيه اللوم الى الاجواء العامة التي يعشيها العراق وانعدام حال الأمن فيه كونها المسؤولة فقط عن سقوط هذا العدد الكبير من ضحايا الصحافة، اذ ان هناك اسباباً عدة اخرى منها التحريض الذي يمارس ضدهم، بخاصة من قبل جماعات العنف والارهاب، وتفاقم حال الاستقطاب السياسي والطائفي الحاد، وهيمنة الجماعات السياسية على الحياة الاعلامية وفرض احتكارها، وغياب الحريات، وشيوع ثقافة عدم التسامح والقبول بالرأي الآخر. ولا يقتصر الأمر على التصفيات الجسدية للصحافيين، فالعراق حسب"مؤشر احترام الحريات الصحافية"الذي تصدره المنظمة سنوياً جاء في المرتبة 154 من اصل 168 دولة شملها التصنيف، مقارنة بالمرتبة 157 التي احتلها العراق في العام 2005. وفي الوقت الذي كان يتوقع ازدهار الحريات الصحافية بعد انهيار النظام الديكتاتوري فإن اكثر ما يعاني منه الصحافيون العراقيون اليوم، هو الانعدام شبه التام لحرية التعبير والرأي، إذ يتعرضون لمضايقات كثيرة من قبل القوات الأميركية والحكومية اثناء قيامهم بتغطية الاحداث تصل احيانا الى القتل أو الاعتقال، كما اتخذت الحكومة اجراءات عقابية مشددة ضد مؤسسات صحافية كإغلاقها أو حرمانها من حق العمل والتغطية، في الوقت الذي يتعرض صحافيون وكُتّاب مستقلون الى تهديدات من قبل الجماعات السياسية الطائفية، سواء داخل الحكومة، أو خارجها، لو تعرضوا في كتاباتهم الى مواقف لا تحبذها تلك الأطراف. هناك العديد من المشاكل والتحديات التي تواجه العاملين في مجالي الصحافة والاعلام في العراق والتي تحول دون ممارستهم لعملهم بحرية، وعلى رأسها الخطوط الحمر التي توضع امامهم في المجالات السياسية والفكرية والتي تقتل الابداع، اضافة الى النواهي المتعلقة بمواضيع مكافحة الفساد وغياب المحاسبة، ما ادى الى اضمحلال دور الاعلام في الرقابة على مؤسسات الدولة. لقد سجلت حالات عدة اقتيد فيها صحافيون الى المحاكم وحكم عليهم بغرامات مالية كبيرة كان خصومهم فيها من كبار المسؤولين في الدولة، الذين لم يحرصوا فيها ابدا على اظهار الشفافية في تعاملاتهم المالية التي كانت سبباً لانتقادات هولاء الصحافيين. وهناك ايضاً حالات التحكم والتلاعب بالمعلومات والاخبار التي تسيطر عليها القوى والشخصيات والهيئات المتنفذة، سواء داخل اجهزة الحكومة او لدى الجماعات الاخرى، والتي تستخدمها اما لتسريب تقارير مضللة او لتوجيه الاحداث بما يخدم اجنداتها الخاصة. لقد انتجت هذه الحالة من الشللية والزبائنية انعداماً تاماً للشفافية واشاعت التعامل الانتقائي وانعدام الصدقية ما انتج بدوره هيمنة تامة على مصادر الأخبار واحتكارها أفقد الصحافيين القدرة على العمل الحر والوصول الى المعلومة الصحيحة وحرم العراقيين والعالم من الحق في المعرفة والاطلاع واشاع في كثير من الأحيان صورة كاريكاتورية لوضع شديد المأساوية. ان احد الأوجه السلبية لهذه الحال هو ظهور صحافيين جدد اكثر ولاءً لمصادر أخبارهم من ولائهم للحقيقة والمهنة، وهي حالة ستترك آثارها السلبية لمدة طويلة على أوضاع الصحافة العراقية. وفي مقابل عمليات الكبت والتضييق والحرمان التي يتعرض لها الصحافيون المستقلون، فإن العديد من القوى السياسية يمارس ايضاً فنوناً من اساليب الترهيب والترغيب، منها الهيمنة والتحكم والإغراء والرشوة، بهدف السيطرة على الصحافيين او شراء ذممهم في ممارسات مماثلة لتلك التي تلجأ اليها الانظمة الشمولية والبوليسية. ومن أسوأ ما تلجأ اليه هذه القوى، ومنها من هو مشارك في الحكومة، هو تعاملها مع الصحافيين على اساس طائفي، إذ لا يتردد بعضها في تقسيم الصحافيين حسب هوياتهم المذهبية، وتفرض أو ترفض تعاملها معهم على هذا الاساس، ما يعني نقل المحاصصة الطائفية الى الجماعة الصحافية، الحصن الأخير للحقيقة ولحرية الكلمة. إن نظرة الى عالم الصحافة والاعلام في العراق ستوضح الى اي مدى وصل الفرز الطائفي والعرقي فيه، إذ تتصاعد النبرة الطائفية والعرقية في معظم الصحف والقنوات الفضائية والمواقع الالكترونية، ليس فقط على حساب المعايير المهنية السليمة، بل ايضاً على حساب القيم الوطنية والانسانية النبيلة. وتضرب حال الاستقطاب المذهبي والقومي هذه صدقية الصحافة العراقية في الصميم، وتحولها الى مجرد ابواق للجماعات الطائفية المتخندقة، كما انها تشيع، بسبب الهيمنة على وسائل الاعلام، ثقافة استقطابية انقسامية مماثلة، هي النقيض المباشر للثقافة الوطنية القائمة على غنى التنوع والتعدد في المجتمع العراقي. ولعل أسوأ ما افرزته ظاهرة القمع التي تعيشها الصحافة في العراق هو انها حرمت العالم من تغطية جيدة وحقيقية ومستقلة لواحدة من اهم واكبر حوادث التاريخ الانساني الحديث. فبإمكان أي مراقب اعلامي وسياسي أن يدرك ان الوضع العراقي الحالي لا يحظى بالتغطية الاعلامية الحيادية اللازمة او الكافية، وان الحقيقة تكاد تكون غائبة وان ما ينقل الى العالم هو جانب أحادي ومبتسر. والسبب في ذلك واضح تماما وهو عدم قدرة الصحافيين على النزول الى موقع الحدث، إذ يضطرون ان ينقلوا الى العالم الاخبار من فنادقهم او مكاتبهم المحصنة في حين يتعرض القلة الذين يغامرون بحياتهم من اجل نقل الخبر والصورة والمعلومة الى مخاطر لا تحمد عقباها. وفي مرحلة يشهد فيها العالم ثورة في المعلومات والمعرفة فإن سيف الخوف والارهاب المسلط على الصحافيين يقف عاجزاً عن معرفة ما يجري حقيقة على الأرض العراقية. مع سقوط نظام صدام حسين الديكتاتوري كان مؤملاً ان تشهد الصحافة العراقية التي تمتلك كوادر مهنية ممتازة، قفزة نوعية، تتكئ على احلام ووعود بعصر جديد. غير ان الانتكاسة التي تعيشها الصحافة العراقية الآن هي تعبير عن محنة حقيقية لا للصحافيين العراقيين وحدهم، بل للمجتمع العراقي بأسره، الذي لا يحرم فقط من سلطة رقابية حقيقية، بل من ضميره الاخلاقي المعبر عن تطلعاته وارادته وحريته. حقا ان هناك صحافيين عراقيين لا يزالون يثيرون الاعجاب لشجاعتهم في مواجهة التحديات التي تعترض عملهم في ظل اوضاع امنية وسياسية صعبة، لكن الصحافة العراقية تبقى في محنة، تحتاج لانهائها الى تضافر جهود وطنية ودولية قبل ان تنال يد الارهاب والعنف والفساد من حياة آخر صحافي عراقي أو تخرس لسانه او تكسر قلمه أو تطفئ ضميره أو تشتريه. * كاتب عراقي