لا يخلو بلد من البلاد العربية التي تعرف تعددية حزبية أو سياسية مقيّدة من مشكلات على صعيد حرية الصحافة، فمن مصر الى الاردن الى اليمن الى تونس والمغرب، تبدو الصحافة في مأزق لا تستطيع الفكاك منه. وواضحةٌ هي ملامح هذا المأزق الى حد يصعب إنكاره. ولكن ليس واضحاً بقدر كاف أنه أكبر وأوسع نطاقاً من القيود التي تفرضها الحكومات على حرية الصحافة في هذه البلاد. واذا كان السعي الى حل أي مشكلة يبدأ بتحديد ملامحها، فهذا لأن صحة التشخيص هي الخطوة الأولى الجوهرية في اتجاه البحث عن الحل. فالتشخيص الخاطىء أو القاصر أو الجزئي لا يساعد على الوصول الى نتائج مرضية في شؤون السياسة والمجتمع، كما في أمور الصحة والمرض والطب. وهناك ما يدل على أن معظم المعنيين بحرية الصحافة العربية والمدافعين عنها لم يحسنوا تشخيص المشكلات التي تعانيها، ووقعوا غالباً في أسر تشخيص جزئي يركز على أحد مسببات المرض وهو القيود السلطوية ويغفل غيره مما تقع مسؤوليته على قطاع من الصحافيين أنفسهم فضلاً عن المثقفين والسياسيين الداعين دوماً الى تعزيز حرية الصحافة. وبسبب قصور التشخيص على هذا النحو، تفاقم المرض واشتد المأزق الى أن وصل الى مستوى ما كان ليبلغه لو أن هذا التشخيص كان أكثر دقة وشمولاً. وحين حدث التلاسُن المشين بين وزير يمني وبعض الصحافيين، خلال ندوة عن الحريات الصحافية في التشريعات اليمنية، كان هذا دليلاً إضافياً على مدى حدة المأزق. فهذا يتكرر في معظم بلاد التعددية المقيدة من وقت الى آخر، وبكلمات أقل أو أكثر حدة وتجريحاً. ولا شك في أن الوزير اليمني تجاوز كل الحدود المرعية عندما اتهم بعض الصحافيين بأنهم يباعون ويُشترون في سوق النخاسة. كما أنه اخطأ عندما عمد الى تشبيههم بالراقصات من حيث انهم ينامون في النهار ويعملون في الليل. غير أن ما صدر عن الوزير اليمني يؤكد مدى تفاقم مأزق الصحافة في البلاد التي حدث فيها تحول جزئي من نظم الحزب أو التنظيم الواحد الى نظم تعددية مقيدة كانت مبشرة في يوم ما. فقد وفر ذلك التحول هامشاً لحرية الصحافة كان مأمولاً ان يتسع تدريجاً مع نضج التجربة. لكن التجربة لم تطرح ثماراً ناضجة في أي من هذه البلاد، على رغم أن عمر تجربة التعددية المقيدة يربو الآن على ربع قرن في بعض البلاد العربية. ويستطيع من شاء أن يفسر خيبة الأمل هذه بضيق الهامش المتاح لحرية الصحافة. ولا خلاف على أنه هامش ضيق فعلاً، وأن القيود التي ظلت قائمة فرغت التعددية الحزبية والسياسية من مضمونها في كثير من الأحيان. ولكن الحق يقتضي القول أيضاً إن الهامش الضيق لحرية الصحافة كان ممكناً أن يتسع لو توافر أفضل من جانب الجماعة الصحافية وامتداداتها في الجماعتين الثقافية والسياسية غير الرسمية. وهذا هو الجانب الذي يقل حضوره في التشخيص السائد لأزمة حرية الصحافة. صحيح أن هذه الحرية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالواقع السياسي. تستوي في ذلك البلاد المتقدمة والمتخلفة وما بينهما. وتزداد مساحة الحرية المتاحة للصحافة كلما كان النظام السياسي أكثر ديموقواطية وانفتاحاً وتسامحاً. وليس العالم العربي بدعاً في هذا السياق. لكن حرية الصحافة والإعلام لا تتوقف على طابع نظام الحكم فقط حتى اذا كان هذا هو المؤتمر الأول عليها. فهي تتعلق كذلك بحالة المجتمع السياسي الذي يضم المشتغلين بالسياسة والمتفاعلين معها والذين يتسع نطاقهم أو يضيق وفقاً لطابع نظام الحكم بالضرورة. ولكن تأثير ادائهم في حرية الصحافة والاعلام يكتسب استقلالاً نسبياً في بعض نظم الحكم. وهناك أيضاً حال المجتمع الثقافي الذي يضم مجموعة المثقفين بالمعنى الواسع، أي الذي لا يقتصر على أهل الأدب وما يرتبط به من إبداعات، وانما يشمل مجموع المتعلمين المعنيين بالشأن العام والمتفاعلين معه. والأهم من ذلك حال المجتمع الصحافي نفسه أي ممارسات الصحافيين وطريقة أدائهم لعملهم وكيفية معالجتهم لقضايا المجتمع. ولذلك اذا كانت نظم الحكم مسؤولة عن القيود التشريعية والادارية المفروضة على حرية الصحافة والإعلام في البلاد التي تعرف تعددية مقيدة، فإن أداء قطاع من الصحافيين والمثقفين والسياسيين مسؤول عن خلق مناخ عام يتيح ذرائع شتى للتضييق على حرية الصحافة، فضلاً عن أن جزءاً من هذا الأداء ينطوي على انتهاك مباشر لحرية صحافيين ومثقفين وسياسيين آخرين مختلفين في الرأي والاتجاه. وعلى هذا النحو تمكن الاشارة الى نوعين من الممارسات الخاطئة التي تصدر عن المجتمع الصحافي نفسه وامتداداته في المجتمعين الثقافي والسياسي عبر صحف حزبية أو خاصة ذات توجهات معينة، وتسهم في حصار حرية الصحافة والإعلام: 1- الخلط بين النقد المباح قانوناً وبين السب والقذف اللذين يضعان مرتكبهما تحت طائلة القانون أي في وضع يصعب الدفاع عنه فضلاً عن أنه يعطي للرأي العام انطباعاً سيئاً عن حرية الصحافة ويثير مخاوف من هذه الحرية لدى من يُفترض ان يكونوا سنداً لهم كونها ملاذهم ضد القمع والفساد وإساءة استغلال السلطة وغيرها من الانتهاكات التي يصعب التصدي لها من دون صحافة حرة وإعلام منفتح. وليس أسوأ من أن تصبح حرية الصحافة نفسها مصدراً لانتهاكات حقوق الناس وحياتهم الشخصية. 2- الوصول بالخلافات السياسية والفكرية بين بعض الصحافيين انفسهم أو في أوساط المجتمع الثقافي والسياسي الى حد تبادل الاتهامات بالكفر او الخيانة أو العمالة وما الى ذلك من اتهامات تُخرِج من "المللة" وتخلق أجواء قائمة تؤدي الى مزيد من تقييد حرية الصحافة. وتقترن هذه الممارسات احياناً بدعوات الى مصادرة كتب أو روايات أو حظر نشر مقالات أو منع كُتاب من التعبير عن آرائهم. وفي مصر مثلاً اصبح صحافيون و"مثقفون" لا الدولة أو الحكومة، هم مصدر هذه الدعوات في السنوات الاخيرة. وهكذا يتطوع صحافيون ومثقفون بفرض مزيد من القيود على حرية الصحافة، إما خلطاً بين النقد المباح والتجريح غير المباح، أو إمعاناً في الخصومة السياسية والفكرية الى حد يجعل بعضهم أكثر انغلاقاً من نظم الحكم القائمة في البلاد التي تعرف أشكالاً من التعددية المقيدة. وعلى رغم وضوح الضرر المترتب على هذه الممارسات، تقف نقابات الصحافيين في معظم هذه البلاد عاجزة عن وضع حد لها وغير قادرة على محاسبة اعضائها الذين لا يعرفون الخط الفاصل بين الحرية والاعتداء على الحرية. وعلى رغم أن بعض النقابات اصدر مواثيق شرف معنية للعمل الصحافي، إلا أنها ظلت حبراً على ورق حتى في الحالات التي ثبت فيها حدوث تجاوز، الأمر الذي يشجع على ممارسات أخرى تسيء الى الصحافة مثل الابتزاز الذي يستهدف الحصول على اعلانات لجريدة أو "إتاوة" لصحافي. ولذلك تتراجع تقاليد المهنة وآدابها في غياب آليات محددة الأعمال مواثيق الشرف الصحافية ولوائح تنفيذية. وفي ظل هذه الأوضاع من الطبيعي ألا تتوافر القوة الاخلاقية اللازمة لممارسة ضغط فاعل من أجل توسيع نطاق حرية الصحافة والاعلام أو تقليص القيود المفروضة عليها. فهذه القوة رهن بمساندة الرأي العام الذي تتراجع ثقته في الصحافة واحترامه لها بسبب التجاوزات التي يرتكبها بعض الصحافيين أو الكُتاب الذين ينشرون في الصحف. فعندما تتكرر هذه الانتهاكات، تجعل نظرة الرأي العام الى الصحافة سلبية. وعندئذ تصعب تعبئة تأييد شعبي للمطالبة بتوسيع نطاق حرية الصحافة أو حتى لمطلب محدد مثل إلغاء العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر. على رغم أن عقوبات مالية كبيرة يمكن أن تكون أكثر ردعاً للتجاوزات. ويثير ذلك كله اسئلة ينبغي أن يقف عندها المعنيون بحرية الصحافة العربية انطلاقاً من ان هذه الحرية مفتاح أساسي من مفاتيح تقدم أمتنا. فربما لا يكون المطالبون بهذه الحرية قادرين على إزالة القيود التشريعية والادارية التي تفرضها نظم الحكم التعددية المقيدة. ولكنهم على الأقل قادرون على تقديم نماذج مضيئة لحرية الصحافة والإعلام، الأمر الذي يؤدي مع الوقت الى إدراك الرأي العام لأهمية هذه الحرية وأنها له وليست عليه، مما يخلق قوة معنوية يزداد تأثيرها مع الوقت. ومن الأسئلة التي يمكن إثارتها في هذا السياق: 1- الى أي مدى ساهمت، وتسهم، ممارسات خاطئة من قسم من الجماعة الصحافية أساساً وكذلك الجماعتين الثقافية والسياسية غير الرسمية في إضعاف صدقية الدعوة الى حرية الصحافة، وتقديم ذرائع ليس لتجاهل هذه الدعوة فقط، ولكن أيضاً لفرض مزيد من القيود؟ 2- ما مغزى تزايد الخلط بين النقد المباح والتجريح المؤثم في السنوات الأخيرة، وهل يرجع ذلك الى مجرد ضعف في الثقافة القانونية، أم الى مزيد من التوتر السياسي والاجتماعي، أم الى سعي البعض لإثبات الوجود السياسي والإعلامي والوصول الى مزيد من القراء عبر أساليب أكثر إثارة أو سخونة، أم الى عوامل أخرى؟ 3- كيف يمكن وضع حد للانفلات الذي يحدث في بعض المعارك السياسية والفكرية على نحو يسيء الى الصحافة في مجملها وليس للمنفلتين فقط الذين يستسهلون الاتهام بالكفر والخيانة والإرهاب؟ 4- هل يمكن الوصول الى حرية حقيقية للصحافة والاعلام في غياب حوار موضوعي لا يسوده التراشق بالاتهامات والشتائم؟ وكيف يمكن إرساء أسس لهذا الحوار ما لم تنتشر قيم التسامح وقبول الآخر والحل السلمي للخلافات؟ * رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي" - القاهرة.