في منطقة ينخفض فيها مستوى الحريات الإعلامية، شرع جيل جديد من الصحافيين الاستقصائيين العرب الجريئين في رسم خط لافت في الرمال يسبر غور المآسي الإنسانية ويحاسب السلطات العليا. هؤلاء الصحافيون المسلحون بالشجاعة والمثابرة والالتزام بأخلاقيات مهنتهم، يعكفون على توثيق القضايا الجادّة التي تهم مجتمعاتهم، وقد أصبحوا يشكّلون قوة صاعدة في مجال المطالبة بتعزيز سيادة القانون ودعم العملية الديموقراطية. تعمل هذه الشريحة الفتّية، التي تنتمي إلى وسائل إعلام خاصة وعامّة، تحت مظلة «إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية» (أريج) . إلى الآن، لم تفضِ التحقيقات الاستقصائية التي رعتها «أريج» إلى استقالة تكنوقراطيين من مناصب عليا أو مسؤولين فاسدين بخلاف ما يحدث في بلدان كثيرة في العالم. إلا أنها حققت تحسينات مهمّة تؤثر في الحياة اليومية للمجتمعات المحلية في مجالات حيوية مثل الصحة، البيئة، التعليم، الأمن وحقوق الإنسان. ففي مصر، الرازحة تحت قانون الأحكام العرفية منذ اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981، طلب أحد المحامين من النائب العام مقاضاة الحكومة بتهمة الإهمال بعد أن كشفت منى العراقي، الزميلة في شبكة «أريج»، خبايا سوء إدارة نفايات المستشفيات والمافيات التي تقف وراءها من خلال فيلم وثائقي تلفزيوني. أما زميلاها، هشام علام ودارين فرغلي، فقد أثارا ضجة رسمية وشعبية حين وثقّا التلوث الذي تسبّبه مياه الصرف غير المعالجة الناتجة من مصنع سكر حكومي، لبعض أجزاء من نهر النيل، والتهديد الذي يشكلّه لصحة وحياة أكثر من 220000 من السكان. بعد نشر تحقيقهما في الصحيفة المستقلة «المصري اليوم»، استدعى مجلس الشعب وزير الصحة لمساءلته عن ذلك الإهمال، بينما رفع عشرات السكان دعاوى قضائية للحصول على تعويضات. وفي سورية، أزالت جرّافات حكومية جبال القمامة من موقع كان يعدّ أكبر مكبّ للنفايات قرب العاصمة دمشق، بهدف منع انتشار الأمراض المعدية والتخفيف من حدة تلوث الهواء. جاء ذلك بعد أيام من نشر تحقيق لخالد موسى وبراء بوشي، اللذين عملا معاً لمدة ثلاثة أشهر لكشف أساليب إساءة المقاول واستغلاله في تطبيق التعاقد مع البلدية. وفي غمرة ذلك، تعرّض الصحافيان للتهديد من قبل عمال النظافة المحليين الذين كانوا يتصرفون بدعم خفي من مسؤولين صغار في البلدية. وفي اليمن، شكّلت الحكومة لجنة للنظر في مكارة صحية كان وديع العبسي، أحد الصحافيين المحليين، كشفها حول عدد من المستشفيات بسبب سوء تشغيل، وتعطل أو غياب حارقات النفايات الطبية فيها. وفي الأردن، قدّم 15 يتيماً شكاوى لدى المركز الوطني لحقوق الإنسان بعد تحقيق أجراه الصحافيان المستقلان مجدولين علان وعماد الرواشدة حول الإساءات الجسدية، النفسية والجنسية في عدد من دور الأيتام الأردنية. وتم تحويل بعض تلك الشكاوى إلى النائب العام، بينما سيوثق المركز الحالات الأخرى في تقريره السنوي لعام 2010 حول أوضاع دور الأيتام. ومنذ أن نشر التقرير أوائل هذا العام، اتخذت الحكومة سلسلة إجراءات لتحسين الوضع داخل هذه الدور. وفي تحقيق آخر حول المعوقات القانونية والمهنية التي تقف حائلاً أمام الوصول إلى الوثائق العامة بموجب قانون «حق الوصول إلى المعلومات» الأردني، سجّلت الصحافية مجدولين علاّن شكوى ضد دائرة الأراضي والمساحة الأردنية لمنعها من الحصول على معلومات حول بيع أراضٍ أميرية لمستثمرين. وكانت تلك أول قضية من نوعها لدى محكمة العدل العليا في ما يتعلق بانعدام إمكان الحصول على المعلومات بخلاف القانون الذي سن عام 2007. ووجدت كاتبة التحقيق في القانون ثغرات قانونية وعبارات مطاطية تحول دون تمكين الناس من الاطلاع والوصول إلى المعرفة. كذلك استضافت إذاعات محلية الصحافية سهير جرادات بعد أن نشرت تحقيقا حول عائلات أردنية ترغم بناتها المتزوجات حديثاً على الخضوع لفحص العذرية لأنهن لم ينزفن في ليلة الدخلة في مخالفة واضحة للقانون، ولتعاليم الدين وحقوق الإنسان. وفي العراق الذي تمزّقه الحرب، وثّق صحافيون محليون أساليب «القاعدة» ووسائل مجموعات مسلحة مشبوهة أخرى في تجنيد مئات الأطفال للانخراط في أعمال قتالية أو تنفيذ هجمات انتحارية، فضلاً عن تحقيقات حول إخضاع الإناث في مناطق كردية للختان. وفي البحرين كشفت الزميلة هناء بوحجّي عن الإساءات التي يتعرض لها عمال وعاملات منازل من الوافدين بعد توثيق عدد من حالات سوء المعاملة التي تتراوح بين حرمانهم من الأجور الشهرية والمضايقات الجنسية والجسدية من قبل أرباب عمل يستغلون مواطن الضعف القانونية. بالطبع ليست لكل التحقيقات الاستقصائية التي تدعمها «أريج» نهاية سعيدة. إذ تعرض زملاء في شبكة «أريج» في ثلاث حالات على الأقل، للتهديد من قبل مسؤولين ومجموعات أعمال ذات مصالح واهتمامات، وأجبروا على إيقاف تحقيقاتهم حول تهريب الصقور المهددة بالانقراض وصناعة منتجات تجميلية محلية تسبب تحسساً جلدياً وتشوهات في الوجه وبيع الكحول المغشوشة. لا تزال هناك طريق طويلة أمام العالم العربي، قبل أن تصبح الأخبار المعمّقة والمصممة للوصول إلى الحقيقة، أو حتى الوقائع في أفضل أحوالها، جزءاً لا يتجزأ من الممارسات اليومية في غرف الأخبار العربية. ولا تزال منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تسجل أدنى المستويات في مجال الحريات الإعلامية على نطاق العالم، وذلك بحسب مؤشّر الحريات الإعلامية العالمي الذي أصدرته منظمة «فريدوم هاوس» لعام 2010. وتفتقر المنطقة لعوامل أخرى مهمة، مثل إصلاح البيئة القانونية والصحافة الحيوية التنافسية ذات الملكيات المتنوعة والدعم المجتمعي المناسب للصحافيين المستعدين لمساءلة السلطة بأسلوب مهني محترف من دون تجريح وتخندق. تخلو غالبية الدول العربية، باستثناء الأردن، من قوانين تضمن حق الحصول على المعلومات. حتى في الأردن، لا يزال الصحافيون يشكون من أن القانون تشوبه ثغرات عديدة يستخدمها البيروقراطيون لمنع تدفق المعلومات وانسيابها، كما كشف تحقيق مجدولين علان. فوجود مسؤولين يخشون وسائل الإعلام ويرتابون منها وانعدام فرص توفير المعلومات العامة والإحصاءات الموثقة يعيقان ظهور الحقائق الاجتماعية والسياسية في الإعلام العربي. لكن هناك على الأقل جيلاً جديداً من الصحافيين العرب الذين يكرسون أنفسهم لترسيخ دور السلطة الرابعة. كما توفر شبكة «أريج» الإقليمية التي تأسست نهاية 2005 كل ما يحتاجه الصحافي الاستقصائي من تدريب مهني بحسب دليليها الإرشادي «على درب الحقيقة» وتوظيف الكومبيوتر في الإعلام CAR، فضلاً عن منحة صغيرة تغطي تكاليف إجراء التحقيق ومشرف ودراسة قانونية قبل نشر التحقيق لضمان جاهزيته القانونية. يوم الجمعة، الموافق 26 تشرين الثاني 2010، يلتقي أكثر من 250 صحافياً ومحرراً عربياً من 20 دولة عربية في مؤتمر «أريج» الثالث في عمان، مقر الشبكة. يعقد المؤتمر في نسخته الثالثة هذا العام بفضل دعم وكالة التعاون الدولي السويدي (سيدا) التي تمول تكاليف هذا الحدث الاستثنائي. وتنشط «أريج» في ثماني دول عربية: مصر، العراق، سورية، الأردن، فلسطين، البحرين، اليمن ولبنان وتعمل حالياً على نقل التجربة إلى دول المغرب العربي بالتعاون مع زملاء هناك. * رنا صباغ المديرة التنفيذية لشبكة «أريج» ww.arij.net ومدربة في مجال الإعلام وصحافية منذ العام 1984. وهي رئيسة تحرير سابقة لصحيفة «جوردان تايمز».