افتتاحيات جريدة "الاهالي" العراقية التي كتبها كامل الجادرجي في الفترة بين عامي 1944 و1954 تصدر قريباً في كتاب عن دار الجمل - ألمانيا في عنوان: "في حق ممارسة السياسة والديموقراطية"، أعدها للنشر مركز الجادرجي للأبحاث وقدّم لها المهندس المعماري المعروف رفعت الجادرجي بدراسة عنوانها: "تنشئة النظام الديموقراطي وإحباطه في العراق". وفي هذه المرحلة القلقة التي يجتازها العراقيون يطرح الكتاب في الوقت المناسب، وحين تندر المثالات، صورة سياسي عراقي ديموقراطي كان يشكل مع نوري السعيد طرفين متعارضين في رؤية العمل السياسي وتطوير الدولة العراقية الوليدة وتحديثها. تنشر "الحياة" مقاطع من الكتاب بالاتفاق مع الناشر، وهنا الحلقة الأولى. يمكن لمن يتأمل في تطور الأحداث منذ العشرينات في العراق القول انها كانت مصادفة جيدة أن تتوافق مصلحة الإمبراطورية البريطانية، العسكرية والاقتصادية والسياسية، في أن تؤسس دولة دستورية برلمانية في العراق. وكانت فرصة أخرى جيدة أن يتولى قيادتها في البداية أشخاص مثل فيصل الأول وعبد المحسن السعدون اللذين كانا أكثر تفهماً من أقرانهما لمتطلبات انشاء الدولة. ويتبين من قراءة افتتاحيات "الأهالي" أن استقطاباً فكرياً وسياسياً واضحاً ساد في تلك الحقبة، بين فئة صغيرة احتكرت السلطة واستأثرت بمنافعها، ومعارضة تُسائلها حول سلوكياتها في مجال ممارسة السلطة والتعامل مع الدستور. وليس من المغالاة في شيء القول إن الكثير من فحوى هذه الافتتاحيات تتضمن الخصام بين هاتين الفئتين. وقد يُمثل واقع هذا الخصام، من حيث الممارسة العملية والمواقف الفكرية، بسلوكيات شخصيتين هما: نوري السعيد وكامل الجادرجي. وتركز الاستقطاب بين الرجلين خصوصاً في الموقف من انشاء الدولة لجهة وظائفها وإدارتها، وكيفية إدارة المجتمع والموقف من الحداثة والتعرف الى مقوماتها، فكانت معركة في قاعدتها الأساسية طبقية وفكرية ومعرفية ووجدانية بين نظام المجتمع التقليدي ومتطلبات انشاء المجتمع المعاصر. وفي هذا التباين الفكري، تكمن جذرية الخلاف بين الموقفين: الرجعية في مقابل التقدمية، والاستبداد في مقابل الديمقراطية. وتفاعل بالتوازي مع ذلك صراع على صعيد آخر خارج المجتمع العراقي بين العقل الإنكليزي التنويري والديمقراطي ومصالح الاستعمار البريطاني بما في ذلك تنظيم الأحلاف العسكرية. وأخذ الاستقطاب، في بعض مظاهره، صفة شخصية. ويرجع ذلك إلى عقليتين متناقضتين في سلوكياتهما وأهدافهما ونظرتهما إلى نظام الحكم وحقوق الفرد. فبرز خصام شديد بين التفكير التقليدي والفكر الناشئ الذي يسعى إلى استبدال الأول والحلول محله. وبقدر ما كانت تتفاقم صورة احتمال هذا الاستبدال في مخيلة المستأثرين بالحكم، بسبب ما كان يتحقق من تطور في تأسيس الفكر الديمقراطي في العراق واشتداد المعارضة وإعلاء المطالبة بسيادة الدستور على سلوكيات سلطوية، اشتد، في المقابل، الإرهاب للمعارضة وللفكر الحر عموماً. وهكذا أخذ الفكر الذي تعبر عنه افتتاحيات "الاهالي" يمثل تدريجاً وجدانية البعض من الطبقة المتوسطة المتعلمة والمعارضة للحكم، خصوصاً الفئة التقدمية منها. لكن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك معارضة شديدة له من بعض فئات الطبقة الوسطى والمتعلمة، بخاصة من بين المنتفعين الذين اقترنت مصالحهم بمنهجية الفئة المستأثرة بالحكم، ومن الذين كانوا يعتمدون على نهج فئوي وطبقي وطائفي. كما أنه لقي معارضة شديدة من حاملي الإيديولوجيات الشمولية المتمثلة بالأحزاب الثورية. ولم يكن هدف الاستقطاب السياسي بين هاتين الفئتين ومعارضة افتتاحيات الجادرجي التي استمرت نيفاً وثلاثة عقود من الزمن، حول تأسيس دستور ديمقراطي، كما أصبحت المسألة بعد 1958. ولم يكن النضال ضد "دولة ثورية لادستورية" بهدف استبدال "دولة تنبني على دستور برلماني فعال" بها، لأن المجتمع العراقي في ذلك الحين، كان يتمتع بهيكل "دولة دستورية برلمانية" أُنشئت منذ سنة 1925، وذلك قبل أن يظهر السعيد في موقع القيادة السياسية عند تشكيله وزارته الأولى سنة 1930، وقبل أن يظهر الجادرجي معارضاً داخلها. لم يكن للسعيد، بصفته قائد الفئة المستأثرة بالسلطة، مفهوم معين في تكوين "المجتمع المدني"، ولم تكن في مخيلته صورة لهذا المجتمع ودوره في انشاء "الدولة الدستورية". ولربما لا تتجاوز مخيلته كثيرا تفهم مجتمع غير "المجتمع الأهلي التقليدي" والسيطرة عليه. فهو رجل عسكري، وإداري حازم، قاد رجال العسكر الذين استأثروا بالسلطة. وترجع الخلفية المعرفية والمرجعية الفكرية التي سخرها في الإدارة وتنظيم المجتمع إلى مفهوم السلطة الأبوية العثمانية. وهذا يعني أن الفئة الحاكمة التي كان يقودها تعتبر أفراد المجتمع عموماً من رعيتها، فلا حقوق لهم خارج سيطرة إرادتها وهيمنتها عليهم. وفي مقابل هذه المرجعية الأبوية، انبنت قراءات الجادرجي على مفاهيم فلسفة التنوير، وتداخل معها تأسيس "المجتمع المدني" في المجتمع البورجوازي، في أوروبا وأميركا الشمالية. فالجادرجي مارس السياسة وكتب بصفته مفكراً معاصراً. وأعلن في افتتاحياته أن كل فرد في المجتمع يمتلك حقوق المواطنة بما في ذلك حق ممارسة الحوار العلني الحر والاشتراك في صنع قرار إدارة تنظيم المجتمع. وإذا أردنا ان نختزل موضوع الافتتاحيات وهموم الممارسة السياسية التي أقدم عليها الجادرجي، سنجد بأن الكثير منها اقتصر على مسألة إفساد الدستور. والعوامل الاجتماعية والفكرية التي أدت إلى إفساد الدستور متعددة وجوهرية في التكوين الفئوي للمجتمع العراقي، ومتأصلة في مرجعياته التقليدية، ومتضمنة في النهج السياسي للإدارة البريطانية. وأدى العجز الفكري والمعرفي للمجتمع العراقي وفقدان الخبرة السياسية في كيفية التعامل مع "دولة الدستور"، وكذلك تخلف المرجعية الفكرية السياسية التي أخذت تجابه متطلبات التعامل مع تأسيس دولة الدستور، إلى ظهور زمرة استأثرت بالحكم وأفسدت الدستور، لم يتمكن المجتمع من كبت نهجها، اذ لم يكن له أصلا تصور غير مركزية السلطة واحتكارها من قبل فئة ما. وعندما ظهرت المعارضة، كانت ناشئة ولا تتمتع بمرجعية سياسية ومن دون خبرة عملية، سوى لقلة من رجالها، ولم تتمتع بدعم فعال من قبل الفئة المتعلمة، التي هي ذاتها ناشئة وهشة. فظلت المعارضة، في غالبية مراحل تطورها، ضعيفة وعارية من دون حماية. وكان المجتمع العراقي عموماً، عند تأسيس الدولة، ينظر إلى نفسه باعتباره رعية، ولم تتبنَّ مفهوم "المواطنة" أو تتمكن من تفهمها إلا القلة منه. فكان مجتمعاً تقليدياً، منسلخ الإرادة، لم يمارس حكم نفسه، ولا يمتلك مرجعية فكرية تسعى لحكم نفسها. كما اتصف تكوين "المجتمع الأهلي" بفقدانه المنظمات التجارية والتسويقية والحرفية المستقلة عن هيمنة مركزية "الدولة الاستبدادية". وهكذا انبنت مرجعيته الفكرية من دون أن يكون له دور أو تجربة في إدارة تنظيم المجتمع خارج هيمنة السلطة، سوى تنظيم العلاقات الانتسابية ضمن "مجتمع أهلي" ضيق. ويرجع ذلك في درجة كبيرة إلى الصفة العسكرية لمختلف صيغ أنظمة السلطة التي ظهرت في العراق. لذا لم تكن ل"المجتمع الأهلي" العراقي خبرة في التعامل مع متطلبات انشاء منظمات مستقلة عن مركزية "الدولة الاستبدادية" والارتقاء الى تأسيس نواة "المجتمع المدني" عندما ظهرت الفرصة مع تنشئة "دولة الدستور". وكانت هذه من بين أهم أسباب قدرة فئة صغيرة في المجتمع على إفساد الدستور واحتكار السلطة. وبسببها تعطلت الممارسة السياسية، وحصل فراغ سياسي ولم تتكون مرجعية سياسية فعالة. فحصل استياء شعبي، مما أدى إلى حدوث ثورة 1958. إلا أن هذه الثورة، بسبب طابعها العسكري، احتكرت السلطة وأقدمت بالاشتراك مع الأحزاب الشمولية على إقامة سلسلة أنظمة دكتاتورية استبدادية وعقائدية شمولية، بدلا من أن تعمل على إصلاح ما أُفسد من الدستور. وللسبب نفسه لم ينم بعد هذه التجربة في الممارسة السياسية فكر سياسي يقوم بتطويرها وتوسيعها، فأصبح المجتمع العراقي خالياً من التجربة السياسية، ومعرّى أمام متطلبات تنشئة مجتمع معاصر يحترم حقوق الفرد. ومن هنا تنبع أهمية تجربة "الأهالي" في نشر ممارسة سياسية أقدم مجتمع العراق على تحقيقها في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وتمثلت بالافتتاحيات التي كتبها الجادرجي وعالجت مسألة حقوق الفرد وتنشئة النظام الديمقراطي ومعارضة السلطة التي أفسدت "النظام الدستوري". كما انها أّلفت مرجعية سياسية ستكون مفيدة حينما يتجه المجتمع العراقي نحو تأسيس نظام ديمقراطي. اذ ان التجربة السياسية التي أقدم عليها الجادرجي وجماعته وجريدة "الأهالي" ومن ثم الحزب الوطني الديمقراطي سعت الى تفهم المبادئ الديمقراطية وتجربة البعض من آلياتها وإشراك المجتمع فيها. وتضمنت هذه التجربة ممارسة السياسة والحوار العلني، داخل تنظيمات الجماعة وخارجها، بما في ذلك مساءلة إجراءات السلطة والاعتراض عليها ومحاججة سلوكيات رجالها. ويؤلف الحوار السياسي العلني الذي قاده الجادرجي في افتتاحياته تجربة غنية في تكوين فكر سياسي ديمقراطي، وفي استحداث مرجعية فكرية تتوافق مع متطلبات المعاصرة. صدور "الأهالي" صدر في اليوم الثاني من كانون الثاني يناير 1932 العدد الأول من جريدة يومية جديدة باسم "الأهالي". وظهرت في صدر عددها الأول جملة: "جريدة يومية سياسية جامعة، يصدرها فريق من الشباب". وكان عدد صفحاتها ستاً، وجاء في التمهيد أن الغرض من إصدارها معالجة الافتقار إلى "عقيدة" وشرح "الشعبية"، وهي مبادئ اجتماعية إصلاحية حررها عبد الفتاح إبراهيم، وعرضت كمنهج سياسي للجريدة. ظهر العدد الأول من الجريدة لصاحبها ومديرها المسؤول حسين الجميل. وكان يوم صدورها آخر أيام المهلة القانونية التي كانت تمنح لصاحب امتياز الجريدة، وكان أمد تلك المهلة ستة أشهر فقط، اعتبارا من تاريخ صدور الامتياز. ويبدو أن "فريق الشباب" الذي أصدر الجريدة كان يقصد به أولئك الذين أسهموا في توفير رأس المال للمشروع، ومن بينهم عبد الفتاح إبراهيم وحسين جميل وعبد القادر إسماعيل ومحمد حديد. ويتضح من أسماء هؤلاء ومن مسرى حياتهم السياسية أن هذا الفريق لم تكن تجمعه إلا الرغبة في الخدمة العامة عن طريق الصحافة. واستقطبت "الأهالي" منذ صدورها نخبة من الشباب كانت تجمع عدداً كبيراً منهم الرغبة في الخدمة العامة بصرف النظر عن العقائد والمبادئ السياسية. ويستدل على الأهمية التي اكتسبتها سريعاً من أنها سرعان ما استقطبت عدداً من الكتّاب والمترجمين الذين ثبتت أسماؤهم في حقولهم في ما بعد، ومن هؤلاء مثلاً عبد الوهاب الأمين ولطفي بكر صدقي وعبد اللّه الجدوع وآخرون. وكان عبدالفتاح إبراهيم المنظر السياسي والإصلاحي للجريدة في تلك الفترة. كانت فترة صدور "الأهالي" زاخرة بخلافات أثنية وطائفية وثقافية واقتصادية وتباين شديد بين الأغنياء والفقراء، كما اتصفت بعدم النضج السياسي، فخاض العراق حالات تمرد عشائرية وانقلابات عسكرية. وكان فريق الشباب الذي أسس مشروع الجريدة وأنصاره ومؤيدوه، من الناشطين في الحركات الطلابية أيامئذٍ، اذ شاركوا في تنظيم التظاهرات والإضرابات وتعرضوا للفصل من الدراسة مدداً معينة أو للسجن. وكانت تلك التجارب تؤلف نقاط التقاء بين أولئك الشباب، وتجعلهم في صف واحد لتقديم بديل عن سلوكيات الفئة التي استأثرت بالسلطة، كموقف إصلاحي، ويرصدون ممارساتها معارضين لها جذرياً. لكن كانت مثل تلك التجمعات السياسية لا تفتأ أن تغربلها الظروف اللاحقة فتبقي على فئة قليلة منها يربطها التزام عقائدي معين وتذهب بفئات أخرى إلى توجهات مختلفة بفعل الانتماء إلى مبادئ سياسية مختلفة أو بضغوط الأهواء الشخصية. كان اسم "الأهالي" مختلفاً عن أسماء الجرائد الأخرى مثل "العراق" و"البلاد" و"العالم العربي" و"الزمان" وغيرها، وخرج عن المعاني التي توحي بها تلك الأسماء بمفهوم جديد هو أن أهالي البلاد لهم كذلك أولوية الاهتمام، كما يتعين أن يكون لهم صوت ورأي في إدارة تنظيم المجتمع وأجهزة الدولة. ويقول حسين جميل الذي اختار الاسم وتقدم به نيابة عن مؤسسي المشروع للحصول على امتياز، إن ذلك الاختيار كان رغبةً في أن يكون الاسم مشتقاً من معنى الشعب، فضلاً عن تأثر الجماعة التي أصدرت الجريدة بحزب الوفد المصري وصحافته التي كانت معروفة بكفاحها الوطني، ومن أبرز صحف الحزب آنئذ صحيفة "الأهالي" لصاحبها عبد القادر حمزة. كما كان لبعض الكتاب والمفكرين المصريين تأثير مباشر في فريق "الشباب" الذي أصدر الجريدة، ومنهم إسماعيل مظهر وسلامة موسى وطه حسين وعلي عبد الرازق. واصطلح على "فريق الشباب" أن يسمّوا باسم الجريدة: "جماعة الأهالي"، وهو المصطلح الذي احتل مركزاً مرموقاً في كثير من الدراسات الجادة عن تطور الفكر السياسي في العراق. أما الذي خطّط اسم كلمة "الأهالي" على الصفحة الأولى فكان الخطاط المصري نجيب الهواويني الذي كان يعمل في بغداد. وثمة شكل آخر للاسم يظهر على الصفحة الأخيرة من أعمال خطاط آخر اسمه محمد أمين يُمني. وتناسل عن اسم "الأهالي" اسمان آخران هما: "صوت الأهالي" و"صدى الأهالي"، إذ كلما كانت تغلق الجريدة الأم بأمر حكومي يعود أصحابها إلى استصدار امتياز جديد باسم آخر كما يقضي القانون، فيظهر تركيب جديد للاسم الأصلي يضيف كلمة أخرى اليه، وبهذا تحافظ على العنوان الأصل وتؤمن استمرار كيانها. ولم يكن هذا الالتفاف المقصود على موانع الإجراءات القانونية ليلغي الكلمة الأصلية من أفواه الناس، فكان القراء يذكرون الاسم على أنه جريدة "الأهالي" حتى ولو كانت معطلة وصدر ما يحل محلها باسم "صوت الأهالي" أو "صدى الأهالي". وفي هذا ما فيه من استمرارية كان القائمون على شؤون الجريدة يريدون تحقيقها كما هو واضح من التسميات اللاحقة. أما الشعار، و هو شعلة يحملها كف، فيظهر في الصفحة الأولى من الجريدة على رأس المقال الافتتاحي الذي يحتل العمود الأيمن، وهو مقتبس أيضاً من مجلة مصرية تدعى "العصور" كان يصدرها إسماعيل مظهر. وظل هذا الشعار يزين صدر الجريدة حتى عام 1952، عندما استبدل به شعار أحدث يتضمن شعلة أيضاً من تصميم الفنان جواد سليم.... عرضت الجريدة في الصفحة الثالثة من العدد الأول مزيداً من الإيضاحات لمبادئها التي تتضمن إيجاد علاج لحال المجتمع المتأخرة، فيكون نهجها البحث عن الأفكار والخواطر العصرية، وترجمة أعمال الفلاسفة والكتاب المعاصرين وتلخيص أعمالهم. وهناك قسم آخر في عنوان: "أخبار من أنحاء العراق" يركز عادة على شكاوى الناس مبيناً أحوال المعيشة في الريف ومظالم الشيوخ وموظفي الحكومة. وواظبت "الأهالي" على نشر المقالات الافتتاحية وعالجت فيها القضايا التي كانت مطروحة للنقاش، واتخذت منذ البداية خطاً واضحاً في تحليل المسائل التي كانت تواجه البلاد، وكانت تقف بالمرصاد لسلوكيات الفئة المستأثرة بالسلطة في تناولها لقضايا الاستقلال وتوزيع الثروة وتفاقم البطالة واستغلال موارد الوطن المالية المتمثلة بعائدات النفط والزراعة وغيرها. كما عالجت أمور التربية والتعليم وحرية الرأي والتعبير وصيانة حقوق الأفراد، وانتقدت عدم كفاءة جهاز الدولة وتفشي الرشوة، وركزت على المعاهدة مع بريطانيا وامتيازات النفط. وظهرت هذه المفاهيم قبل أن تظهر بمصطلحاتها الجديدة كالتعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وهكذا بذرت الجريدة مفاهيم المعارضة لسلوكيات الحكومة، وصارت منبراً يستقطب الآراء التي تسائل سلوكيات رجال السلطة. ولم تستقطب "الأهالي" بذلك الكتّاب فقط، بل كذلك القراء من شتى شرائح المجتمع المتبرمة من الأوضاع السائدة. ولم تقدم الجريدة تنظيراً مسهباً حول مفاهيم الديمقراطية، ومفهوم الدولة مقابل الحكومة، فإذا وردت هذه المفاهيم في المقالات الافتتاحية كانت في صيغ عرضية. ومع ذلك، كان هذا العرض، وصيغته المبسطة، الوحيد في العراق آنذاك الذي يبين المبادئ الديمقراطية، فهيأت الجريدة بذلك جيلاً أخذ يتقبل المبادئ الديمقراطية ويتفهمها. معارضة جديدة ومع تأسيس الدولة العراقية أخذت بذور المعارضة السياسية تظهر كمنظمات مكملة في تكوين الدولة العراقية، كما نص الدستور، واتسمت هذه بمناهج متعددة، وظهرت في صيغ أحزاب وتكتلات وتجمعات. ولم تكن غالبية تجمعاتها واستقطاباتها أكثر من تحالفات موقتة نفعية بين أفراد ذوي مصالح. ومع ذلك تبلورت هذه الاستقطابات لتأخذ في بدء تكوينها منحيين: تجمع متعاون مع الإدارة البريطانية وموال لها، وكان أبرز رجاله وقادته ومن الذين تولوا الوزارات عبدالرحمن النقيب وجعفر العسكري وعبد المحسن السعدون ونوري السعيد وعلي جودت الأيوبي وجميل المدفعي. وظهر مقابل ذلك تجمع خارج السلطة، لكنه ألّف احتياطاً لها وكان قادته مستعدين لقبول المنصب الوزاري، وأبرز رجاله ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني وحكمة سليمان وهم زعماء "حزب الشعب" و"حزب الإخاء الوطني". وهذه المعارضة، وإن كانت تهدف إلى تحقيق مواقف وطنية وتخفيف هيمنة الإدارة البريطانية، الا ان هدفها العميق كان مصارعة الفئة الحاكمة للحلول محلها، وكانت غالبية رجالها من الذين كوّنوا الفئة الحاكمة مع تأسيس الدولة العراقية. وظهر تجمع يقابل هؤلاء الذين رفضوا الوجود البريطاني في العشرينات وأوائل الثلاثينات، كما رفضوا إدارة الجهاز السياسي والنظام بأسره. ومن أهم قادته الذين تمتعوا بمقام سياسي عريض جعفر أبو التمن وأمين الجرجفجي ويونس السبعاوي ومهدي كبة وكامل الجادرجي. وكان هذا التجمع يهدف إلى تكوين دولة بالمفهوم المعاصر بما في ذلك نزاهة القضاء وحرية التنظيم السياسي، أي كانت فئة تسعى الى تثبيت مؤسسات الدولة وإدارتها بموجب نصوص الدستور وإجراء بعض الإصلاحات الاجتماعية. وكان مفهوم هذين النوعين من المعارضة، كما مفهوم تلك الفئة، أو غالبيتها في الحكومة وخارجها، أن تنحصر السلطة بالطبقة التي تنتمي إليها هذه الفئات السياسية التي تمثلها. فكانت الأحزاب والتكتلات التي تظهر، سواء في السلطة أو المعارضة لها، تفتقر إلى فلسفة اجتماعية واقتصادية وإلى مبدأ سياسي واضح. وكانت غالبيتها تجمعات تظهر وتأفل لتحقيق أهداف موقتة. ومع ظهور "الأهالي" و"جماعة الأهالي"، ظهر نوع رابع من المعارضة، مع مضمون جديد ذي محتوى إصلاحي وفلسفي، سياسي واجتماعي واقتصادي. اذ لم تكتف بالتأكيد على التزام السلطة بنصوص الدستور، وإنما سعت الى اشراك الشعب في الممارسة السياسية، كما طرحت إصلاح كافة الميادين، بما في ذلك التعليم والصحة وتكافؤ الفرص. واستمرت هذه الصحيفة الجديدة، حتى إلغاء "الدولة الدستورية البرلمانية" عام 1958، تطالب بتحقيق الإصلاحات السياسية والاجتماعية وإشراك الناس في تنظيم إدارة المجتمع وفي ممارسة سياسية علنية.... عندما صدر العدد الأول من "الأهالي"، كانت الحكومة العراقية عقدت لتوها مع بريطانيا معاهدة الصداقة والتحالف لسنة 1930، وبموجبها انتهى الانتداب البريطاني، ثم دخل العراق عضواً في عصبة الأمم. إلا أن المعاهدة ذاتها منحت قواعد عسكرية لبريطانيا في البلد، ونظمت عمل المستشارين البريطانيين في الوزارات المختلفة، مما أتاح للسفير البريطاني في بغداد، الذي كان يسمى قبل ذلك المندوب السامي، ممارسة نفوذ كبير على تسيير شؤون البلاد الخارجية والداخلية. وكانت تلك المعاهدة التي تمت بإتفاق مع البعض من رجال الحكم بما في ذلك فيصل الأول، مصدر تذمر ومعارضة لعددٍ آخر منهم. ولكنها، كانت مثار رفض كامل لدى القائمين على تحرير "الأهالي" التي شجبتها وحللت بنودها في مقالات متعددة وطالبت بالاستقلال عن هيمنة الإدارة البريطانية. ولم تمض بضعة أشهر على صدور الجريدة، حتى أخذت الحكومة تكرر إنذاراتها إلى إدارتها، ثم تطور الوضع في أحيان متعددة إلى التعطيل الموقت. وهكذا أخذت بوادر الاستقطاب تتفاقم تدريجاً بين الفئة المستأثرة بالحكم، وبين معارضة حثيثة وثابتة وذات صلابة في مقاومتها لسلوكيات الحكومة التي كانت تقدم بين حين وآخر على تعطيلها، لا سيما من قبل نوري السعيد الذي كان يتبع سياسة العنف تجاه المعارضين. ويتضح وجود هذا المحتوى عند مراجعة المقالات الافتتاحية التي دأبت عليها "الأهالي" منذ صدورها وحتى عام 1937، هي وشقيقتها "صوت الأهالي"، باستثناء فترات الاحتجاب بسبب التعطيل الإداري. وبلغت تلك المقالات الافتتاحية المئات عدداً. ولم يشب تلك الكتابات أي من صفات السطحية أو المبالغة، على عكس ما كان شائعا في أساليب الكتابة في الصحف الأخرى. كما لم تذيل المقالات الافتتاحية باسم كاتب معين لأنها كانت تعد بإشراف عدد من المسؤولين عن التحرير وبعد مداولات بينهم، ثم يكلف أحدهم كتابة النص بأسلوب يتسم بالبساطة والإيجاز. فاجتذبت هذه الميزات القراء، بخاصة الطبقة المتعلمة التي أخذت تتوسع، وتقرب المواضيع إلى عقولهم. فضلاً عن أن ذلك الأسلوب المبسط كان يحاول تدريب قراء الجريدة على ممارسة الحوار السياسي وتنمية روح مساءلة سلوكيات رجال السلطة. وتناولت المقالات الافتتاحية شتى المواضيع في مختلف الحقول، ومن موقف سياسي ناقد معارض يمتاز بالموضوعية والدقة، ولذا كان قراء الجريدة يجدون مقالاتها الافتتاحية مقنعة وتعبر عن آرائهم وطموحاتهم السياسية. وتطرقت المقالات إلى مسائل متعددة في المجالات كافة. اذ تناولت العلاقات مع بريطانيا، واهتمت في السياسة الخارجية بشؤون البلاد العربية لا سيما قضايا فلسطين وسورية ومصر، وأثارت في المسائل الاقتصادية شؤون النفط والعلاقة مع شركات الامتياز مطالبة بالمزيد من الحقوق للعراق، كما تطرقت إلى الكثير من القضايا الاقتصادية الأخرى التي تهم البلاد. وفي الشؤون الداخلية ألمت بمختلف العلاقات الاجتماعية وإدارة تنظيم المجتمع، بما في ذلك الحريات عامة وحرية الصحافة ومسائل الضرائب والتربية والتعليم والصحة والزراعة، فأحاطت بذلك بمعظم هموم المجتمع، وتميزت بأنها كانت المعارض الأول، من دون تردد، لمختلف رجال الحكومات المتعاقبة، بقدر ما كان أي منهم يفسد القانون ويتجاوز على سيادة الدولة. ونظراً الى خلفيتها العلمانية والموضوعية، لم تتسم مواقفها السياسية والإصلاحية بنهج طائفي أو تحيز أثني. وهذا ما جعل "جماعة الأهالي" تؤلف جبهة فكرية فعالة تهدد مصالح المستأثرين بالسلطة والإقطاع والفئوية وغيرها. والخلاصة لكل هذا، ان "جماعة الأهالي" أحدثت مفهوما جديدا للمعارضة على صعيدين: أولا، انها لم تسع للوصول الى الحكم، بل كان هدفها الأساس تحقيق تغيير جذري لصيغة إدارة "الدولة الدستورية البرلمانية"، فأقدمت على مساءلة سلوكيات رجال السلطة من موقف مبدئي وليس على أساس شخصي، إضافة إلى أن دعوتها انبنت على إصلاح المجتمع من النواحي الاقتصادية والتعليمية والصحية والإنتاجية وغيرها. وثانياً، قامت الجماعة، عن طريق "الأهالي"، بحملة تثقيفية لمبادئ الحركة التنويرية بما في ذلك مفهوم الديمقراطية. وبقيت طوال مدة صدورها، الوحيدة تدافع عن هذه المفاهيم والمبادئ كنظام في إدارة تنظيم المجتمع، وكممارسة في الحوار المتبادل العلني و الحر.... ومن أبرز الحملات الصحافية التي قادتها "الأهالي" حملة مقاطعة شركة الكهرباء الأجنبية التي كانت تعمل في بغداد وتتقاضى رسوماً مرتفعة. وكانت هذه المقاطعة شغل السكان الشاغل في بغداد، اذ قطع عدد غير قليل منهم اشتراك الكهرباء مع الشركة وعادوا إلى انارة بيوتهم بواسطة الفوانيس النفطية واستخدام الشموع، ومنهم بعض رجال السياسة مثل كامل الجادرجي وجعفر أبو التمن. بدأت الحملة في الجريدة اعتباراً من العدد 314 في أواخر عام 1933 فكانت تنشر بيانات في صدر صفحتها الأولى تطالب الأهالي بالمقاطعة. واستمرت الحملة 97 يوماً، وتلقت الجريدة إنذاراً شفهياً من ملاحظ المطبوعات يطلب الكف عن الدعوة الى المقاطعة، عندما كان جميل المدفعي رئيساً للحكومة. فكتبت الجريدة افتتاحية في العدد 329 في عنوان "إنذار غير قانوني". وفي اليوم التالي لم يظهر المقال الافتتاحي اليومي في الجريدة، وحل مكانه موضوع آخر كان عنوانه "طرق الوقاية من العمى للدكتور فوخش". وفي هذا إشارة احتجاج رمزية لا تخفى. ومن المسائل المهمة التي أولتها الجريدة عنايتها مكافحة الأمية، فكتبت في صيف عام 1932 افتتاحية تدعو إلى تأليف الجمعيات في أنحاء البلد لهذا الغرض، وتأسست بعض هذه الجمعيات فعلاً.... ثم برزت فكرة "الشعبية" التي طرحها عبد الفتاح إبراهيم أيضاً، ووضع منهاجاً لها وشرحاً لأهدافها، فصدر أولاً كراس صغير في عنوان: "الشعبية. المبدأ الذي تسعى الأهالي لتحقيقه". ثم تلته: "رسائل الأهالي إلى الشباب" وأهمها "مطالعات في الشعبية". ومن أهم المبادئ التي طرحها الكراس، مواضيع سياسية واقتصادية واجتماعية، بحث فيها: "الاطمئنان" بأن يكون كل شخص آمنا على نفسه وحقوقه، بما في ذلك حق الحياة والحرية والمساواة والعمل، و"رفاه المعيشة" بأن تؤمن للفرد حاجاته الضرورية المادية والمعنوية، كحد أدنى، ويكفل له تأمين الحاجات الكمالية بقدر ما تسمح به الثروة العامة، و"مفهوم التقدم" بالسعي نحو تحسن مطرد في مستوى معيشة أفراد المجتمع. ويشير الكراس إلى ضمانة حقوق الفرد عن طريق "تمتع الهيئة القضائية بالحرية التامة في مقاضاة الأفراد والهيئات وضمان المساواة أمام القضاء للجميع".... وما ان ظهر كراس "الشعبية" حتى أقدم بعض الشيوعيين على اصدار كراس مضاد كتبه قاسم حسن، حملوا فيه على كراس "الشعبية" بشدة، واعتبروا ما جاء فيه ذيلا للطبقة الحاكمة.