بعد مرور أربعين سنة على حرب حزيران 1967، قررت حكومة ايهود اولمرت الاحتفال بهذه الذكرى على نحو مختلف بهدف تغطية الانتكاسة التي مني بها "الجيش الذي لا يقهر" خلال حرب تموز يوليو الماضي. لهذا السبب سمحت الحكومة الاسرائيلية بالكشف عن بعض الوثائق السرية المتعلقة بظروف تلك الحرب، وما رافقها من اشكالات سياسية. علماً بأن وثائق اللجنة الوزارية لشؤون الأمن بقيت محفوظة في الأدراج على أمل تحريرها بعد عشر سنوات. ومعنى هذا أن الوثائق الأمنية الاسرائيلية تحتاج الى مدة نصف قرن قبل الافراج عن خفاياها، في حين تخضع وثائق الدول الأخرى الى نظام يسمح بالاطلاع عليها عقب مرور ثلاثين سنة فقط. ما هو الجديد في هذه الوثائق؟ أهم ما تضمنته من حيث التفاصيل تناقض المخططات التي كشفت عنها 1500 صفحة من الوثائق المدونة تغطي 15 جلسة من جلسات الحكومة الاسرائيلية. والملفت أن المناقشات كانت مرتجلة بدليل أن مهاترات الوزراء طغت على أجواء الجلسات، وحرمت أشكول ووزير الخارجية ابا ايبان من الاستمتاع بفرحة النصر. واستغل وزير الدفاع موشيه ديان الخلافات القائمة بين السياسيين والعسكريين ليهاجم أشكول بسبب تأخره في اطلاق شارة الهجوم مدة شهر تقريباً. ورد عليه رئيس الوزراء بالقول إن واشنطن هي التي فرضت التلكؤ بسبب تردد الرئيس جونسون في إعلان دعم اسرائيل من دون تحفظ. وجاء في تبريره لدوافع التباطؤ بأن سيد البيت الأبيض كان غارقاً في أوحال فيتنام، أو أنه كان يتوقع عدول الرئيس عبد الناصر عن قرار إغلاق مضائق تيران وسحب قوات الطوارئ الدولية. وهي القوات التي أرسلت لتنفيذ قرار مجلس الأمن الصادر عقب إرغام اسرائيل على الانسحاب من سيناء مع حليفتيها في الاعتداء الثلاثي سنة 1956. وذكر في حينه أن عدد أفرادها لا يزيد على 3378 جندياً توزعوا فوق الحدود الفاصلة على مسافة 164 ميلاً. تشير إحدى الوثائق الى الجلسة الصاخبة التي أظهرت تحدي ديان لرئيس الوزراء الذي لاقى دعماً قوياً من وزير الخارجية ابا ايبان. وتبين من مضمون النقاش ان ديان ألح على ضرورة تقديم موعد الهجوم لاقتناعه بأن الملك حسين لا يستطيع مقاومة الحملات الإعلامية القاسية التي شنتها مصر وسورية والاتحاد السوفياتي ضده. أي الحملات التي دفعته الى إعلان تحالفه مع مصر، وأجبرت اسرائيل على احتلال الضفة الغربية. وكان من نتيجة تغيير الموقف الأردني احتلال الضفة الغربية، واضافة أعداد جديدة من الفلسطينيين الذين وصفهم ديان ب"القنابل البشرية الموقوتة". والواضح أن تلك المهاترات كشفت عن احداث مهمة وقعت خلال الفترة التي سبقت الحرب. وتبين ان وزير الخارجية ابا ايبان قد ضلل الحكومة بعد عودته من واشنطن حيث أجرى محادثات مع الرئيس جونسون، وزعم أثناء نقل الحديث، ان الرئيس الأميركي أبلغه أن ادارته تسعى الى فك الحصار الذي فرضته مصر على مضائق تيران. وانما في حال الفشل، يتولى الأسطول السادس تحقيق المهمة من دون أن تضطر القوات الاسرائيلية الى خوض الحرب. ولدى التحقيق في صحة أقوال ابا ايبان، تبين للحكومة أنه أراد تضليلها خوفاً من هيمنة العسكريين على شؤون الدولة الحديثة. خصوصاً بعدما أطلعه رئيس الموساد مئير عميت، على تفاصيل الضغوط التي مارسها الجنرالات على أشكول، وكيف هددوه بانقلاب عسكري إذا لم يذعن لإرادة القيادة. رئيس الوزراء أشكول حاول إرضاء وزير الدفاع موشيه ديان، عن طريق تقديم اقتراح يخفف من غضبه حيال مشكلة لاجئي حرب 1967 المضافة الى مشكلة لاجئي حرب 1948. اقترح أشكول في الجلسة الأولى، حسب الوثائق، نقل مئة ألف لاجئ فلسطيني الى العراق. ودافع عن رأيه بالقول إن اسرائيل استقبلت حوالي مئة ألف لاجئ يهودي من العراق. ورأى أشكول في اقتراحه"عدالة في التوازن البشري"، خصوصاً ان العراق يملك أرضاً شاسعة، ومياهاً غزيرة، وثروة نفطية هائلة. وهذه كلها عوامل جيدة لتبادل السكان. أول رد فعل على الاقتراح جاء من وزير العدل شمعون شابير، الذي رفض الموافقة على هذه التسوية. ولما سأله أشكول عن السبب، قال: لا أرى سبباً منطقياً لاخراج هؤلاء السكان الذين ولدوا هنا... الى العراق. انهم سكان هذه البلاد التي تحكمها أنت بعد الحرب. وانتفض أشكول ليدافع عن موقفه بمنطق صهيوني ويقول: توجد في العراق أراض واسعة فارغة من السكان. هل يمكن الافتراض ان مئة ألف لاجئ سيقلبون الأوضاع. ويمكن القول أيضاً حسب هذا المقياس، إن الذين يعيشون في الأردن اليوم كانوا من قبل يعيشون هنا. هذه ليست كارثة. في نهاية الأمر إن اسرائيل لم تدخل الى الضفة الغربية على شكل عصابات. فقد دخلتها بعدما أعلنت أن هذه الأرض هي أرض اسرائيل. وهنا قاطعه وزير الصحة يسرائيل برزيلي، بالقول: ولكن الفلسطينيين هم أيضاً سكان اسرائيل. وأجابه أشكول بانفعال معترضاً: جميع اليهود في العالم هم سكان اسرائيل. وانما اقُتلعوا من هذه الأرض وجرى استيعابهم في دول أخرى. في الفصل الثاني من الوثائق التي نشرتها صحيفة"يديعوت أحرونوت"يكشف أرشيف الدولة الاسرائيلية عن النية المبيتة لإنشاء دولة درزية مستقلة تكون بمثابة كيان عازل يفصل سورية عن الأردن. وعليه يعترف رئيس جهاز الموساد ابان حرب 1976 مئير عميت، بأنه اقترح على القيادة تمديد الحرب يوماً آخر كي يتسنى للجيش تنفيذ المهمة. والهدف من وراء هذه الدولة التي ستقام في جبل الدروز في سورية، كان إفشال كل خطة لتشكيل وحدة دفاعية بين الأردن وسورية. وعندما قدم عميت هذا الاقتراح لرئيس الأركان اسحق رابين اعتذر بحجة أن الجيش لا يستطيع الانتشار فوق مساحات اضافية، وأن الأيام الستة كانت كافية لتنفيذ استراتيجية المقايضة بين الأرض والسلام. في الجزء الأخير من الوثائق حذف مدير الارشيف فقرات من جلسات مجلس الوزراء، الأمر الذي يعطي الانطباع بأن لدى إسرائيل ما تخفيه. ولدى الاطلاع على ما نُسب إلى وزير الأديان زيرح فيرهتيغ يتبين أن المقاطع المحذوفة تتعلق باقتراح"تشجيع الولادة والانجاب عند اليهود فقط". ومن الواضح أن الاقتراح كان يتلخص بتشجيع اليهود على الانجاب والتكاثر بواسطة تسهيلات اقتصادية ومعيشية يفترض حرمان العرب منها. وكان من الطبيعي أن يثير هذا الموضوع جدلاً بين وزير العدل شابير ووزير الشؤون الاجتماعية يوسف بورغ، حول إمكانية اخفاء هذا الأمر بحيث لا تظهر إسرائيل بمظهر الدولة العنصرية. واتفق الاثنان على أن كشف هذا النقاش سيثير الشكوك ويوقع الضرر بسمعة دولة اليهود. لذلك اتُّفق على اخفاء تفاصيله من الأرشيف المعلن. جزء من الفقرات التي حُذفت أيضاً يتعلق بالمعلومات التي تشتمل على المناقشات الصاخبة التي جرت حول مصير أربع قرى فلسطينية في منطقة"اللطرون". وحدث أثناء الحرب أن أصدر موشيه ديان أوامره بهدمها بعد أن قام الجيش الإسرائيلي بطرد سكانها. وعندما بحثت الحكومة في إمكانية إعادة سكان القرى الأربع، اعترض ديان على الاقتراح. جلسة الحكومة في التاسع عشر من حزيران يونيو 1967 كانت مخصصة لبلورة توجيهات محددة لوزير الخارجية أبا ايبان، حول ما يجب طرحه في الجمعية العامة، وما سيبحثه مع الإدارة الأميركية. وتم الاتفاق على ضرورة إعلان استعداد إسرائيل لإعادة سيناء إلى مصر والجولان الى سورية في إطار اتفاقات سلام علنية، مع الإصرار على عدم الانسحاب من غزةوالقدسالشرقية. وفي ذلك الوقت قدم الوزير بلا حقيبة مناحيم بيغن، اقتراحاً يقضي بعدم السماح للزوار بالتدخين قرب حائط البراق في القدس، وعم إلقاء أعقاب السجائر عند قاعدته. في الكتاب الذي أصدره المؤرخ ميشال أوران، سؤال زعم المؤلف أنه فشل في الحصول على جواب بشأنه من الاستخبارات السوفياتية كي جي بي. ومع أن أرشيف ال"كي جي بي"فُتح أمام رجال الصحافة، إلا أن كل التفسيرات التي اعطيت لم تكن مقنعة. السؤال هو: لماذا سرب الاتحاد السوفياتي معلومات غير صحيحة حول حشود إسرائيلية كانت تتجمع لمهاجمة سورية؟ ثم تبين بعد الحرب أن هذه الحشود لم تكن موجودة، وأن وسائل الإعلام السوفياتية هي التي ضخمت الخطر بقصد إقلاق الرئيس عبد الناصر ودفعه إلى اغلاق مضائق تيران وطرد قوات الطوارئ الدولية. وقد قام بهذه الخطوة المتهورة لإشعار السوريين بأنه مستعد لحماية الاتفاق المعقود معه. وذكرت الصحف اللبنانية في حينه أن أجهزة عبد الناصر في بيروت استوضحت ضباط المكتب الثاني اللبناني حول هذه المسألة الخطيرة، وما إذا كانت إسرائيل تحشد قواتها ضد سورية. وفوجئ عبد الناصر بجواب ضباط المكتب وبادعاءاتهم أن الحشود موجودة. ويستنتج المؤرخ أوران من كل هذا أن الاتحاد السوفياتي نصب فخاً لعبد الناصر ولسورية وللعراق ولليمن الجنوبي، بهدف الاستفادة من الهزيمة وإسقاط الدول العربية في حضنه الدفاعي. ويجزم المؤلف أن موسكو كانت واثقة من هزيمة العرب، ولكنها شجعتهم على خوض الحرب لجني مكاسبها السياسية والعسكرية. وهذا ما حدث بالفعل! * كاتب وصحافي لبناني