رويداً رويداً، بدأت تتحطم في اسرائيل، أساطير هدفت الى بناء اطار من الرموز والمفاهيم والقيم والتصورات والأبطال، اعتبرت من مكونات الثقافة "القومية"، وهو ما تشتمله وتنص عليه المادة الثانية من قانون التعليم الاسرائيلي. فهي اضافة الى مهمتها توفير معرفة أعمق بالتراث الثقافي اليهودي، والتقاليد والعادات، وكجزء مهم من نظام التنشئة، لمجموعة الاتجاهات والمشاعر التي تنظم العملية السياسية، تهدف ايضاً الى مواجهة مشكلة اللاتاريخية. على هذا نسجت الأساطير حول رموز، واحاطتها بهالة كبيرة من التقديس وربطتها بمجموع العناصر المتناقضة في الفكر السياسي الاسرائيلي "الصلة بين اليهودي والأرض"، التي تفترض علاقة لا تنفصل. فالعودة فرض مقدس، او الخلط بين اليهودي والشعب اليهودي… والعديد من ركائز الايديولوجية للصهيونية، وعمليات الصياغة السياسية "للشرعية". اخذت الأساطير تتحطم حين بدأت تظهر دراسات معينة، تستهدف العودة الى البدء، وتثير قضايا لا زالت محل جدل في الحركة السياسية، وتقوم بتوجيه نقد لمفاهيم سائدة في اسرائيل، كان مجرد تناول عناوينها يعتبر مصدراً للخطر. ومنها ما يتناول النشأة، كما فعل كتاب "الكفاح من اجل أمن اسرائيل"، وأهميته تكمن انه من اصدار الجمعية الاسرائيلية للتاريخ العسكري، وكتبه قسم التاريخ في الجيش الاسرائيلي، وقدمه على شكل ابحاث. فالكتّاب مجموعة من الضباط والمؤرخين الذين بحثوا في مواضيع الكتاب لسنوات عدة، ونشروها كأبحاث سرية في اطار قسم التاريخ والأبحاث التاريخية في وزارة "الدفاع". وفي قراءة اسرائيلية للكتابة، يعرض موشيه رونين في صحيفة يديعوت احرونوت 4 تموز/ يوليو 1999 وتحت عنوان "حرب الاستقلال لم تكن حرب الأقلية ضد الأكثرية"، وملخص قراءته ان الوحدة 101 الاسطورية كانت قليلة العدد، نحو 30 شخصاً، نفذت ثماني عمليات انتقامية صغيرة ولا اهمية لها، وعملت فقط لمدة خمسة اشهر، وان عشرات المظليين في عملية "كديش" قتلوا، لأن رئيس هيئة الاركان موشي دايان لم يوضح لقائد وحدة المظليين، الرائد ارييل شارون لماذا ارسل الرجال للهبوط هناك. وكانت "حرب الأيام الستة" نتيجة لصراع في الكرملين. هذه أربع حقائق جديدة، تنشر في كتاب التاريخ شبه الرسمي للجيش الاسرائيلي، الذي يصدر في هذه الأيام - والكلام لموشي رونين - وهو يعتبر ان البحث ينسف الأساطير. فكل ما ورد في الكتاب نال تأييد الهيئة الأكاديمية التي تضم خبراء مثل العقيد احتياط البروفيسور يهودا فالخ، العقيد احتياط دكتور مائير بعيل، البروفيسور آلون كديش، البروفيسور جدعون بيفر، دكتور عميتسورايلان، دكتور ديفيد طال، المحرر الرئيسي العقيد بني ميكلسون، دكتور موطي غولاني، وغيرهم. وهو يرى ان نسف الأساطير لم يكن الهدف من الكتاب، الا ان "عدداً من الأبحاث التي تنشر في الكتاب الجديد، من شأنها ان تنسف اساطير تحولت هنا الى حقائق، وترعرت عليها أجيال في اسرائيل، فقد تعلمنا مثلاً انه في 15 ايار مايو 1948 عند اعلان الدولة، اجتاحت البلاد سبع دول عربية، واضطرت المستعمرة اليهودية الصغيرة شن حرب الأقلية ضد الأكثرية"، ويكشف عميتسور ايلان الذي كتب هذا الفصل عن حرب "الاستقلال"، النقاب عن انه "لم يكن للعرب افضلية عددية: كان عدد القوات في الجيوش العربية السبعة بما في ذلك غير النظاميين الفلسطينيين 32.500 جندي، في حين كان الجيش الاسرائيلي يعد 32 الف جندي، وكان للعرب 26 كتيبة سلاح مشاة، بما في ذلك عصابات القاوقجي والحسيني، في حين كان للجيش الاسرائيلي 27 كتيبة منظمة وست كتائب حرس حدود". ويعرض الكتاب في هذا الفصل، التفوق العربي من حيث النوع، وبغض النظر عن الأرقام التي يقدمها من جديد، فهي محل تدقيق لكنها جديدة لدى اسرائيل تجاه السابق ويوردها عميتسور بالأرقام "كان لهم 154 مدرعة مقابل 15 مدرعة للجيش الاسرائيلي، و154 مدفعاً مقابل 25 مدفعاً اسرائيلياً، و45 طائرة حربية مقابل طائرتين اسرائيليتين فقط، كذلك في فترة تسلل الفدائيين والعمليات الانتقامية تم نسج أساطير كثيرة - كما يعلق رونين - لقد تعلمنا في المدرسة ان عصابات القتل العربية تسللت في ظلمة الليل الى خط النار من اجل قتلنا"، في حين يكشف ديفيد طال في الكتاب ان الكثير من الذين تسللوا كانوا من اللاجئين العرب الذين اجتازوا الحدود من اجل زيارة القرى التي هربوا منها، ولأخذ اغراضهم التي تركوها في بيوتهم عام 1948، وزيارة اقربائهم الذين لم يهربوا، وزيارة قبور افراد العائلة وما شابه ذلك. أيضاً وفي هذا الكتاب يجري تحطيم اسطورة الوحدة 101، وحدة الكوماندوس البطولية، وأسطورة قائدها ارييل شارون - الرائد في حينها - وذلك حسب ما أورده المحرر الرئيسي العقيد بني ميكلسون، ذلك ان الكتاب "يضع الوحدة في مكانها الصحيح في التاريخ، وبكلمات اخرى: كانت الوحدة صغيرة من 30 شخصاً، استمرت فقط لخمسة اشهر، ونفذت ثماني عمليات صغيرة الحجم. وعلى سبيل المثال لها، احدى العمليات كانت التسلل الى قرية عربية وراء الحدود، وإلقاء قنبلة يدوية باتجاه بيت صادفه جنود الوحدة في مدخل القرية"، ويقول الباحث العقيد ميكلسون "لم يكن العدو يعرف اصلاً شيئاً عن الوحدة 101، وتقريباً لم يشعر بنشاطاتها، كانت الوحدة 101 اعلامية داخلية، على خلفية عجز الجيش. وكانت مجموعة شجاعة مستعدة لتنفيذ عمليات هجومية، والقيمة العسكرية للعمليات كانت هامشية، وسبب اهمية 101، الأسطورة التي نسجها مقاتلوها". الفصل الخامس ب"حرب سيناء"، 1956 العدوان الثلاثي على مصر، كتبه موطي غولاني، الذي بحث في الموضوع لسنوات عدة وكشف به النقاب عن ان حكومة اسرائيل لم تكن معنية بالحرب، ودُفِعَتْ لهذه الحرب من قبل مدير عام وزارة "الدفاع" شمعون بيريز ورئيس هيئة الاركان موشي دايان. وشارك بيريز بهذا البحث، واستخدم علاقاته المتشعبة مع فرنسا من اجل ان يمكن باحثي قسم التاريخ في الجيش الاسرائيلي من الدخول الى الارشيفات الفرنسية المغلقة، ويكشف غولاني ان العملية المشهورة جداً في هذه الحرب - إنزال كتيبة روفائيل ايتان خلف مضائق المتلا - لم تتم أبداً لأسباب عسكرية، اذ ان الكتيبة نزلت على "بعد 16 كم من قناة السويس، وكانت من اجل ايجاد سبب للانكليز والفرنسيين، الذين جرّوا اسرائيل للحرب للتدخل فيها". ويدعي غولاني ان قصد رئيس هيئة الاركان دايان ان تهبط الكتيبة هناك من دون فعل شيء، ولكنه لم يكشف ذلك لضباطه - قائد المنطقة الشمالية آساف سمحوني وقائد كتيبة المظليين شارون - عن الهدف الحقيقي للانزال، غير ان الضابطين تجاوزا الأوامر التي صدرت لهما، وخاضا بقرار منهما معارك غير ضرورية شوشت المخططات وأسفرت عن مقتل العشرات، وأول معركة خاضها شارون في المتلا "أدت الى مقتل 38 مظلياً اسرائيلياً وحوالي 200 جندي مصري، ولكنها لم تكن ضرورية ذلك ان الجيش لم يعتزم نقل القوات الى المضائق او الاحتفاظ بها". ويقول العقيد ميكلسون "ان المتلا هي ثقب، لم يكن له اي اثر على نتائج الحرب، وكان القصد هو ان يبقى المظليون هناك من دون فعل شيء، لقد كان مجرد ذريعة لهجوم فرنسي بريطاني". الفصل الخاص بعدوان حزيران يونيو 1967، "حرب الأيام الستة" وكتبه العقيد البروفيسور يهودا فالخ، يدعي ان اسرائيل لم تخطط للحرب، و"فوجئت" بها بسبب صراع القوى في الكرملين، وبصرف النظر عن الشكوك في روايته، والحقيقة الواضحة لعدوانية اسرائيل. ومن الجدير نقل ملخص لهذه الرواية بزيفها وتزويرها وكما اوردها: "في عام 1966 اصيب وزير الدفاع السوفياتي المارشال روديون مانيونوبسكي بمرض السرطان، وأدركت قيادة الكرملين ان أيامه معدودة، فبدأ الصراع على المنصب، وكان مانيونوبسكي عيّن من قبل الرئيس السوفياتي خروتشوف، الذي خدم في الحرب العالمية الثانية، وخلف خروتشوف عام 1964 ثلاثة: الرئيس نيقولاي بودغورني، رئيس الحكومة اليكسي كوسيغين، وسكرتير الحزب الشيوعي بريجينيف، وكان الأول والثاني يريدان تعيين يوستونوف وزيراً للدفاع، الذي لم يكن عسكرياً، بينما فضل بريجينيف الادميرال غراتشوف الذي خدم معه في الحرب العالمية الثانية، ومن اجل ان يثبت ان وزير الدفاع يجب ان يكون عسكرياً، قرر بريجنيف تسخين الجو في مناطق مختلفة من العالم ومنها الشرق الاوسط، وبعث الروس لمصر معلومات كاذبة عن تعزيزات اسرائيلية مقابل الحدود السورية وعن النية في الاعتداء عليها، نفت اسرائيل الادعاءات، ولم يكشف مراقبو الأممالمتحدة استعدادات اسرائيلية خاصة في الشمال، وأرسل جمال عبدالناصر الذي عرف السوفيات جيداً ولم يصدقهم بمبعوثين لفحص حقيقة المعلومة، وكان المبعوثان نائب الرئيس أنور السادات، ورئيس هيئة الأركان عبدالحكيم عامر، تطلع رئيس هيئة الأركان نحو اسرائيل من هضبة الجولان، ولم يكشف علامات استعدادات خاصة، وأبلغ الرئيس ناصر بأن الجيش السوري لم يعلن استعداده، وأنه ليس هناك اي سبب. لذلك قال أنور السادات الذي توجه الى موسكو، بأن السوفيات مصرون على رأيهم بأن اسرائيل تريد الهجوم، ومما عزز من ذلك مقابلات رئيس هيئة الأركان اسحق رابين التي حذر فيها السوريين. ونظر الرئيس ناصر الى اقوال رابين كتهديد، وقرر ادخال القوات المصرية الى سيناء، وصلت هذه المعلومة الى رئيس شعبة الاستخبارات اللواء أهارون ياريف ونقلها بدوره الى رئيس الحكومة ليفي اشكول الذي فوجئ بذلك، ولم يتخذ اي خطوة، الأمر الذي فسره الرئيس ناصر بأنه ضعف من جانب اسرائيل، وقرر اغلاق مضائق تيران". في الختام، فان المحصلة العامة والمباشرة لهذه المراجعة، ان اسرائيل ستبقى أسيرة ظروف نشأتها الأولى الاستيطانية الاستعمارية، وبما تغفله هذه الأبحاث من انها تشكلت بدعم وتأييد النظام الاستعماري التقليدي عموماً، وكفرع من فروعه خصوصاً، ولاعتبارات استراتيجية، وليس عن طريق التطور الطبيعي والنمو الديموغرافي الطبيعي او النشأة التاريخية، كما تشهد أمم العالم الطبيعية. والدراسات المعنية التي تستهدف العودة الى نقطة البدء، طرأ أمر جديد عليها، انها لم تعد تخفي ممارسة العنف والارهاب بمختلف صوره، من اجل اجلاء اصحاب الأرض، وممارسة العنصرية على من تبقى من السكان لدفعهم الى اللجوء والنزوح، الأمر الذي يوقع تاريخها بمشكلة ذات أبعاد سياسية وانسانية وأخلاقية واجتماعية. فهذه الأبحاث تفضح الأسطورة الدارجة بأن المؤسسين ليسوا "من صلب آباء كانوا ثائرين، تركوا بلدان مولدهم ثواراً وجاءوا للعيش بأسلوب ثوري"، الأمر الذي يعتبر مشكلة انسانية ثقافية اجتماعية، بفعل صعوبة التوفيق بين ازمة القيم ونظام المعتقدات المبطن بالاحقاد بما ينطوي عليه من قيم ومعتقدات متباينة ومتناقضة. بهذا المعنى تأتي هذه الأبحاث، اما لماذا الآن؟ فهي ذات دلالة على مؤشرات عديدة، حين جرى تلافي طرح مسائل كهذه في فترة سابقة، فهي في هذا الوقت تشعر بقوتها وسطوتها وتفوقها العسكري في ظل غياب الموقف العربي وضعفه، اذ ان الشعور بالقوة يجعل الروح الجمعية اكثر تساهلاً إزاء تجنيات افرادها او تقويماتها لتاريخها، أما في حالة الضعف فان آراء كهذه تبعث البلبلة وعدم الثقة. كما انها تعكس في الجانب الآخر او حال الاستقطاب بين طرفين، يحاول الأول ان يؤسطر رموزه ويعظمها، بينما يحاول الثاني نفي هذه الأسطرة وزعزعة الرواية بغية الوصول الى تعامل حذر مع التاريخ. * كاتب سوري.