بدأ العمل اعتباراً من اليوم بنظام المحكمة الدولية التي كلفت بمحاكمة المسؤولين عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه والاغتيالات الأخرى التي سبقت وأعقبت ذلك. وإذا ما أطلق على قرار مجلس الأمن رقم 1757"معركة المحكمة"بكل ما رافقها من تجاذبات وسجالات وتهديدات، فإن ما تشهده الساحة اللبنانية منذ بعض الوقت طغى على ما عداه من تطورات لم تكتمل فصولاً بعد. فالشرارة التي انطلقت من مخيم نهر البارد وضعت لبنان في مواجهة مباشرة مع الإرهاب الإقليمي والدولي، وظهرت واحدة من اغرب المقاربات والمفارقات في الوطن الذي يستضيف مجموعة كبيرة من القوات ذات الجنسيات المتعددة للحفاظ على السلام المتاخم للحدود مع إسرائيل، فإذا بالإرهاب المتعدد الجنسيات يغزو لبنان ويضعه في منازلة قاسية لا تبقي أمامه سوى خيار واحد وهو اجتثاث هذا النوع من الإرهاب رغم التضحيات الغالية التي ترافق هذه المواجهة. واختار الإرهاب الذي يعصف بلبنان تسمية حركية عرفت ب"فتح الإسلام"التي تعمل بالاصالة عن نفسها وبالوكالة عن جهات أخرى في الداخل والخارج ويطرح بإلحاح الكثير من التساؤلات عما ينتظر الساحة اللبنانية المستباحة - حتى اشعار آخر - وما الذي يجب عمله وسط الانقسامات الحادة القائمة بين مختلف الأطراف حتى بدا حديث الأرقام عن تأليف حكومة جديدة تافهاً حيال ما يترصد لبنان وقاصراً عن تنبيه صناع القرار الى ما يجب الإقدام عليه لمواجهة الأخطار المحدقة التي حولّت الوطن إلى مخيمات منها الثابت والمتحرك، والمخيمات إلى مخازن أسلحة وسط الفتنة المتنقلة بين المناطق اللبنانية، ويعبرّ عنها بموجة التفجيرات التي أثارت ولا تزال موجة من الذعر والتخويف. وإذا كانت المحكمة الدولية تحتاج إلى رحلة زمنية طويلة كي تبدأ عملها سنة على الأقل من أجل أن تأخذ العدالة مجراها أملاً بالكشف عن المخطط الرهيب، فإن الأمر الملح والداهم الذي يواجه لبنان هو الأمن، وكيف يمكن صيانته وتأمينه وسط هذا الصراع بين الامكانات المتاحة أمام السلطة اللبنانية وما توفر للإرهاب المقيم منه والوافد ليطرح أحد الأسئلة الكبيرة، وما أكثرها في الوطن الصغير: لماذا لم يتم العمل على تزويد الجيش اللبناني بالأسلحة الأساسية التي يحتاجها غير أجساد العسكريين التي ازهقت في عملية الغدر التي استهدفتهم وهم نيام؟ ومنذ فترة وأحاديث كثيرة متداولة بين الهمس والعلن حول وصول عناصر تابعة لتنظيم"القاعدة"عبر الحدود من دون التعقب الكافي لتحركات هذه العناصر. وكالعادة يشهد لبنان أحداثاً هي أكبر منه، ومن طاقته ومن امكاناته، ويرغم أهله على دفع الضرائب الباهظة من حياتهم وأمنهم وممتلكاتهم من دون توفر الرؤى الواضحة والمحددة لما ينتظر لبنان من مخاطر. وكما في كل مرة تتفجر على الساحة اللبنانية الأحداث الكبيرة والصغيرة ويجري تداول العديد من التساؤلات حول الأهداف والمرامي إذ رافق إرهاب مخيم البارد بقيادة شاكر العبسي وشركاه وامتداداته نحو مخيم عين الحلوة الكلام المتجدد عن بلوغ خطة توطين الفلسطينيين في لبنان مرحلة متقدمة انطلاقاً من إصرار إسرائيل على الرفض القاطع للاعتراف بحقهم في العودة إلى الأراضي المحتلة، والاكتفاء بإعادتهم إلى الدولة الفلسطينية العتيدة. ويتزامن ذلك مع بدء المفاوضات العربية - الإسرائيلية انفاذاً لمضمون المبادرة العربية التي جرى التأكيد عليها في القمة العربية الأخيرة في الرياض، وتشديد إيهود أولمرت ووزيرة الخارجية تسيبي ليفني على"اقتطاع"البند المتعلق بحق العودة من هذه المبادرة، على أن يجري البحث في البنود الأخرى. ولأن الأمور الإقليمية مترابطة مع الداخل اللبناني، جرى الكلام القديم - الجديد عن دور سوري في ما يجري كواحد من فصول العلاقة اللبنانية - السورية التي ازدادت تعقيداً منذ خروج القوات السورية من لبنان قبل عامين. ووسط الجدال القائم سئل السفير الروسي في بيروت فلاديمير بوتين عن الاتهامات الموجهة إلى سورية في أحداث مخيم نهر البارد وتوابعها فأجاب:"أنا لم أر ولم أسمع وليس لدي أي دليل على تورط سورية في ما يجري". وأضاف:"إنني استغرب كثيراً عندما أسمع مثل هذا الاتهام". وإذا ما جرت المقارنة بين حالة الانقسام الداخلي في لبنان والانقسام الخارجي حول الأحداث الجارية يمكن فهم امتناع روسيا عن التصويت في مجلس الأمن على قيام المحكمة الدولية والخوف الذي عبرت عنه موسكو من حيث قلقها البالغ حول ما سيشهده لبنان في الأيام والأسابيع المقبلة. ويعطف ذلك على بعض التحركات الدولية باتجاه تجديد الحوار مع سورية"لإخراجها من العزلة"مقابل إسهامها في الحلول المطروحة لأزمات المنطقة. ويشار في هذا المجال إلى الزيارة التي قام بها وزير خارجية إيطاليا ماسيمو داليما إلى دمشق وانتقاله لاحقاً إلى بيروت وحديثه عن إمكانية إجراء"مقايضة"بين الأزمات والطروحات المعروضة لإيجاد الحلول لها، حيث تتركز المساعي الأوروبية على ضرورة قيام سورية بدور فاعل في اتجاهات مثلثة الاتجاهات والأبعاد: العمل على التهدئة في لبنان، وضبط الحدود مع العراق لجهة تسلل المزيد من الإرهابيين، والتعاون في فلسطين للتخفيف من الأزمات القائمة. ولوحظ أن الزعيم اللبناني وليد جنبلاط أبدى امتعاضاً شديداً من استخدام الوزير داليما"المثقف والواعي"لتعبير"المقايضة"، وقد يكون هاجس جنبلاط في محله، إذ كلما نفت الولاياتالمتحدة وبعض الدول الغربية وجود صفقات مع سورية وإيران كلما ازداد اليقين الحسي بإمكانية حدوثها. وما تشهده المنطقة ولبنان تحديداً يندرج في إطار تحديد السقف التفاوضي لكل طرف، في مرحلة هي من أكثر المراحل دقة وحساسية. وحيال تشعب ما تشهده الساحة اللبنانية من توترات بركانية الطابع يمكن التركيز على نقاط بارزة ستكون محور الأيام الآتية: * ان استمرار الخلافات السياسية في الداخل اللبناني بلغ مرحلة بالغة الخطورة ويهدد بتصدع الوطن كما هو التصدع القائم بين التكتلات والأحزاب والتجمعات. وإذا لم يتم استدراك هذه المخاطر بالتوافق ولو المرحلي على وضع حد لحالة التشرذم القائمة، فإن الأمور مرشحة لمزيد من التصعيد مع إمكانية خروج الأزمات وتداعياتها عن السيطرة العامة. * وما بين لبنان"الإيراني - السوري"ولبنان"الأميركي - الفرنسي"يخشى تكريس حالة من الاقتسام الوطني الذي يتجاوز في حدوده وفي مخاطره الوضع القائم. * ان الاستحقاقات المقبلة على لبنان ومنها انتخابات رئاسة الجمهورية تحتاج إلى معالجات من نوع آخر يختلف كلياً عما هو قائم. وإذا كان الحديث يجري عن احتمال قيام حكومتين ورئيسين للجمهورية إذا لم يتم التوافق الوطني يخشى أن تتحول الهواجس إلى أخطار حقيقية جاثمة على لبنان. ورغم التجارب التي عاشها الوطن في المجالات التقسيمية والوطنية التي لا تزال ماثلة في الأذهان تحتم على زعماء المرحلة استشعار أخطار ما هو آت وصدق القول: المهم أن تبقى الجمهورية وبعدها الرئاسة. * كنا نتوقع نتائج هزيمة الولاياتالمتحدة في لبنان وفق توقعات المرشد الأعلى للثورة الإيرانية السيد علي خامنئي فإذا بحرب أخرى تندلع وكالعادة باسم الدين والقومية وكلاهما براء مما يرتكب باسم الأديان والقوميات. * من مفردات قاموس مرحلة الأيام الأخيرة في لبنان: الحديث عن"فتح الإسلام"وعن"فتح الانتفاضة"وعن"فتح عرفات"وعن"فتح أبو مازن". وهذا هو النموذج عن تشققات المرحلة الحالية في لبنان والمنطقة. * أكدت التجارب اندفاع العديد من الخلايا الإرهابية لإثارة الموت والرعب والدمار. وتختار هذه الخلايا في العادة الخواصر"الرخوة"ولبنان يندرج على هذه اللائحة. وكما أوضحت طبيعة المنازلة مع هذه الجماعات، فإن الحلول العسكرية والأمنية لا تكفي وحدها لمواجهة الإرهاب الإقليمي والدولي، كما تؤكد التجارب بما لا يقبل الشك أن ما من طرف بمنأى عن مخاطر هذا الإرهاب في شتى أرجاء المنطقة وفي خارجها. وإذا كان الرئيس جورج دبليو بوش يعتبر عدم وقوع أي حادث إرهابي في الولاياتالمتحدة منذ أحداث 11 ايلول سبتمبر، هو الانجاز الكبير، عليه أن يتذكر أن ما يعاني منه لبنان وبعض دول المنطقة هو نتاج هذه السياسة التي أججت مبدأ الحروب الاستباقية، فإذا بالحرب الأميركية - البريطانية على العراق تستحضر الإرهاب بأبشع صوره وأشكاله و"تخرج"المزيد من العناصر التي امتهنت القتل والتدمير عملاً و"رسالة"أكثر مما نجحت في محاربة الإرهاب. * تعيش القوات الدولية العاملة في جنوبلبنان حالة استنفار بعدما تلقت العديد من التهديدات في الآونة الأخيرة. وتخشى قوات"اليونيفيل"أن تنعكس الأحداث الجارية على وضعها وعلى الدور الذي تقوم به. وعبّر سفير اسبانيا في بيروت عن"بالغ قلقه"لهذا الوضع. وهذا يؤكد إلى حد كبير المعلومات التي تحدثت عن استهداف دور القوات الدولية وإعادة تحريك جبهة الجنوب. ان الحقيقة المؤلمة التي يجب أن تقال وان يدركها اللبنانيون قبل غيرهم أن لبنان دخل مرحلة أكثر صعوبة من المراحل السابقة ومصيره سوف تحدده رياح"صفقة التسويات"، الإقليمية منها والدولية، وأقل ما يمكن تمنيه قيام صحوة حقيقية لدى جميع الأطراف ويقظة ضمير تحفظ للوطن ما تبقى له من مقومات عيش حقيقية بعيداً عن القصائد والأحلام. شعب يريد العيش بأمان واستقرار افتقدهما طويلاً، كما يتمنى العيش للآخرين لكن ليس على حسابه. * كاتب وإعلامي لبناني