يقدم شارل رزق في كتابه «بين الفوضى اللبنانية والتفكك السوري» (دار النهار- بيروت 2014) ما يمكن اعتباره سيرة لتجربته الشخصية في السياسة اللبنانية منذ الفترة الشهابية حتى الزمن الراهن. عايش التجربة الداخلية اللبنانية واتصالها بالقضايا العربية والإقليمية، خصوصاً مرحلة الوجود الفلسطيني والوصاية السورية على لبنان. وهو ينتقد بشدة تعامي الطبقة السياسية اللبنانية ونخبها عن الأخطاء التي ارتكبتها والمآل الذي وصلت إليه البلاد، وكانت ذروته الحرب الأهلية المتواصلة منذ اربعين عاماً، بشكل ساخن احياناً وبارد احياناً اخرى. ويسخر من شعار «حروب الآخرين على أرضنا» كونه يبعد كأس المسؤولية اللبنانية عما حصل، ويغطي هشاشة الأهلية اللبنانية وعجزها عن تحمل المسؤولية عن جعل لبنان كياناً ووطناً بكل معنى الكلمة. تحت عنوان «من تبخُّر الدولة اللبنانية الى الحماية السورية»، يقدم رزق جردة مختصرة لمرحلة حصول اللبنانيين على استقلالهم وكيفية إتمام هذه الصفقة، خصوصاً ما اتصل بالصراع البريطاني- الفرنسي على النفوذ في الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. انتهى عهد بشارة الخوري بتمرد على سلطته التي شاءها مضاعفة عما ينص عليه الدستور من خلال ما قيل عن تزوير للانتخابات النيابية والتجديد لاحقاً لرئاسته. ويختزل رزق عهد كميل شمعون بتعبير «حلف بغداد»، يقول: «يمكن اختزال عهد الرئيس كميل شمعون بعنوان واحد: حلف بغداد، فبعد إنشاء الحلف الأطلسي في العام 1949، توسّعت البنية العسكرية للحرب الباردة وصولاً الى الشرق الأوسط، وذلك تطبيقاً للخطة الغربية لاحتواء الاتحاد السوفياتي ومحاصرته». لكن شمعون دفع ثمن سياسته الإقليمية ومحاولة إقحام لبنان في حلف بدا معادياً في تلك المرحلة للصعود القومي العربي بقيادة جمال عبدالناصر والذي كان من شعاراته التصدي لحلف بغداد. كما دفع شمعون ثمن طموحاته لتجديد رئاسته على غرار سلفه بشاره الخوري. هذان العاملان، الخارجي والداخلي، تسببا في نشوب حرب أهلية في العام 1958. ويمثل عهد فؤاد شهاب مرحلة متميزة في التاريخ اللبناني، منذ الاستقلال وحتى المرحلة الراهنة، بل يمكن القول انه العهد الوحيد الذي شهد محاولة بناء دولة ومجتمع في لبنان، وقام بإصلاحات فعلية، خصوصاً على صعيد الإدارة. يسجل لشهاب انه رفض إقحام الجيش في الحرب الأهلية اللبنانية نهاية الخمسينات من القرن الماضي، وأنه سعى الى أقصى حد في إبعاد لبنان عن التورط في الأحلاف الاقليمية. سعى الى تهدئة علاقات لبنان العربية، خصوصاً مع الدولة الوحدوية المتكونة من مصر وسورية، فالتقى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وأسس لعلاقة تبعد لبنان عن الصراعات العربية– العربية. وانصرف شهاب الى إنجاز مشاريع إصلاحية في ميدان الإدارة، وسعى الى فصل المؤسسات الإدارية عن التدخلات السياسية، فأنشا مصرف لبنان، ومجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي وديوان المحاسبة. وإذا كان شهاب قد نجح في الإصلاح الإداري، إلا أنه عجز عن تحقيق هذا النجاح في الإصلاح السياسي، «إذ لم يتمكن من فرض نظام انتخابي يعزز الثنائية الحزبية، بين حزبين متعددَي الطوائف، وينتج طبقة سياسية جديدة ذات بنية تهتم بتحديث النظام السياسي وبالحفاظ على سائر الإصلاحات التي أجراها». ويعتبر عهدا شارل حلو وسليمان فرنجية ذروة انفجار المجتمع والدولة في لبنان. بدأت المقدمات مع هزيمة حزيران (يونيو) 1967 وما تبعها من صعود المقاومة الفلسطينية فنال لبنان حصة أساسية من وجود العمل الفدائي على أرضه، وتكريس هذا الوجود رسمياً في اتفاق القاهرة عام 1969، بحيث يمكن القول ان هذا التاريخ هو التاريخ الفعلي للحرب الأهلية اللبنانية. انتهى عهد شارل حلو ولبنان قد بات في عين العاصفة العربية والغليان الذي تبع الهزيمة، وكانت ذروته صعود العمل الفدائي، ومعه بدء البحث في تسوية للصراع العربي- الإسرائيلي، كان من أهم شروطها القضاء على قوى الاعتراض، خصوصاً المقاومة الفلسطينية. منذ عهد فرنجية والى اليوم، بات من الصعب الحديث عن وضع لبناني منفصل عن الوضع العربي. ومع توسع الحرب الأهلية، ستصبح سورية وتدخلات قيادتها عنصراً مقرراً في التطورات الداخلية والخارجية للأزمة اللبنانية. يتحدث رزق عن «حافظ الأسد والانتحار الجماعي اللبناني»، فيرى ان المرحلة اللاحقة في تاريخ لبنان ستكون محكومة بالسيطرة السورية، حين هيمن الأسد الأب على البلد حتى وفاته في العام 2000. قام مشروع حافظ الأسد منذ الانقلاب الذي نفذه عام 1970 على نظرية تقوية الداخل السوري والإمساك بالسلطة وقمع كل معارضة حتى الإفناء، ثم التحول الى الجوار باعتباره المدى الحيوي لسورية والإمساك بأوراق خارجية يستخدمها في علاقاته الإقليمية والدولية. من ضمن الاستراتيجية الاقليمية كانت السيطرة على لبنان. لم يكن حافظ الأسد بعيداً من تفجّر الحرب الاهلية الداخلية وإدارتها لاحقاً حتى وفاته. انخرط في الخطة الأميركية الإسرائيلية لضرب المقاومة الفلسطينية بوصفها عائقاً ضد تسوية النزاع العربي- الإسرائيلي. وما كان لحافظ الاسد ان ينجح لبنانياً لولا استقواء كل طرف لبناني بالسوري لتنفيذ استراتيجيته الداخلية، وهو ما يقول عنه رزق: «في الحقيقة لم تكن الحرب اللبنانية التي اندلعت العام 1975 حرباً بقدر ما كانت انتحاراً جماعياً، اذ ان اطراف النزاع اللبنانيين، وفي حالة من عدم التبصر الفتّاك تحولوا أدوات ونفذوا لعبة سورية معتقدين انهم يقاتلون لأنفسهم». استطاع الأسد إدارة الحرب الأهلية من خلال سياسة قامت في مرحلة اولى على نصرة المقاومة والحركة الوطنية، لينقلب عليها ويحاربها مقدماً نفسه حامي المسيحيين، حتى ان وفد «الجبهة اللبنانية» عرض عليه الوحدة بين سورية ولبنان عام 1976. اذا كان النظام السوري يحمل أطماعاً في لبنان، وينفذ خطته الخاصة بالهيمنة، إلا أن القوى اللبنانية، من هذا الطرف أو ذاك، مسؤولة عن تسهيل هذه الهيمنة، التي لم يكن لها أن تمر لولا وجود ممرات تستقبلها وحاضنة ترى فيها الخلاص من «العدو» الداخلي. لكن الحرب الأهلية، وبعد العام 1976 لم تعد الغلبة فيها للعوامل الداخلية، بل باتت حرباً اقليمية، استخدمتها اسرائيل وسورية والخطة الأميركية في ادارة الصراع الاقليمي. سيشهد لبنان احتلالاً اسرائيلياً لبعض مناطقه في الجنوب عام 1978، وستدور حروب بديلة على الساحة اللبنانية، كل طرف يبغي تصفية الحسابات على ارضها. في هذه المرحلة ستظهر سورية مجدداً وكأنها حامية للفلسطينيين، خصوصاً بعد معاهدة السلام بين اسرائيل ومصر في كامب ديفيد عام 1979، وفي الداخل سيركّز حافظ الاسد على دور الطائفة الشيعية انطلاقاً من تقارب مذهبي مع الطائفة العلوية. أما الطرف المسيحي، وجواباً على السياسة السورية التي انقلبت ضد الكتائب والقوات بعد العام 1978، فقد توجهت «الجبهة اللبنانية» الى التحالف مع اسرائيل وكانت «كالمستجير من الرمضاء بالنار»، التي اجتاحت لبنان عام 1982، واقتلعت المقاومة الفلسطينية من ارضه، وسعت الى فرض معاهدة سلام على لبنان من خلال مفاوضات 17 ايار (مايو) 1983. لم تنجح اسرائيل في فرض هذه المعاهدة، ودخل لبنان مجدداً في حرب أهلية انطلاقاً من حرب الجبل، ما أتاح لحافظ الأسد ان يعود الى التدخل في الحرب الأهلية اللبنانية ويستعيد دوره بعد الضربة العسكرية التي وجهت الى قواته خلال الاجتياح الإسرائيلي. والجديد هنا الدور الايراني المنسق سورياً من خلال تأسيس «حزب الله» والمقاومة التي أدارها ضد الاحتلال الاسرائيلي والتي انتهت بانسحاب اسرائيل من لبنان عام 2000. سيشكل عام 1988 مفصلاً في الحياة السياسية اللبنانية انطلاقاً من الفراغ الذي تركه عجز اللبنانيين عن انتخاب رئيس للجمهورية، وسيتبع ذلك انفجار الصراع الداخلي بين القوى المسيحية، لتنتهي تلك الفترة بتوقيع اتفاق الطائف عام 1989، والذي قبله اللبنانيون رغماً عنهم لوقف الحرب الأهلية. عن «لبنان والتفكك السوري»، يشير رزق الى مرحلة ما بعد اتفاق الطائف التي ستعرف شبه انتهاء للحد الأدنى من استقلالية السلطة السياسية اللبنانية، والتي باتت تدار من عنجر بواسطة مسؤول الامن السوري. في هذه المرحلة ستنصّب سورية الياس الهراوي رئيساً للجمهورية، وستمدد ولايته ثلاث سنوات، ثم ستفرض اميل لحود رئيساً وتمدد له ايضاً ثلاث سنوات. خلال عهد لحود، توفي الأسد الأب وخلفه الأسد الإبن الذي سار على خطى والده بالإمساك بالقرار اللبناني وإدارة حرب اهلية فيه. أهم ما ميّز حكم بشار اللبناني هو اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، الذي تسبب بالانسحاب السوري القسري من لبنان عام 2005. لكن النظام السوري لم يستسلم لهزيمته، خصوصاً ان في يده اوراقاً لبنانية داخلية، جعلت الساحة اللبنانية منقسمة بين اخصام النظام وحلفائه. ستتخذ معركة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان اهمية كونها تؤشر الى مسؤولية النظام السوري وحليفه «حزب الله» عن اغتيال الحريري. سيعود لبنان الى دوامة الصراع الداخلي حول المحكمة، وهو صراع لم ينته حتى اليوم. تركت الانتفاضة السورية عام 2011، والمتواصلة حتى اليوم، أثراً فعلياً على لبنان. ساهمت في المزيد من تفككه وازدياد حدة الصراعات داخله. ففي لبنان قوى مؤيدة للانتفاضة وقوى أخرى مناهضة لها، وزاد في الطين بلة ان هذه القوى تدخلت في الحرب السورية، مما جعل هذه الحرب عنصراً داخلياً في الوضع اللبناني، لا يتوقع له ان يتوقف في المدى المنظور. اذا كان لبنان قد وقع تحت وطأة الانهيار بسبب الحرب الأهلية والهيمنة السورية، فيبدو ان الثورة السورية ودخول اللبنانيين طرفاً فيها ستفاقم هذا الانهيار للدولة والمجتمع، مما يجعل من سؤال شارل رزق «هل يصبح لبنان دولة يوماً؟» سؤالاً يكتسب كل مشروعيته. يختتم رزق كتابه بنداء الى اللبنانيين قائلاً: «آن للبنانيين، بعد اربعين عاماً من الانقسام والتناحر، ان يستخلصوا العبر من الأخطاء الماضية، وأن يعودوا الى دولتهم. فبعدما جربوا كل الخيارات، ألا يفترض بهم اخيراً ان يقوموا بالخيار الأمثل، الخيار اللبناني؟ ربما يكون هو الخيار الأصعب، لكنه الوحيد الذي يجعلهم جديرين بالاستقلال». * كاتب لبناني