منذ بداية الأزمة اللبنانية كان الرأي السائد في لبنان وخارجه ان الوضع الداخلي والاقليمي والدولي لن يسمح بتطور الازمة الى حرب اهلية، وزاد من وجاهة هذا الرأي تماسك الوضع الداخلي في لبنان وبقاؤه ضمن السجال السياسي رغم كل الاغتيالات والتفجيرات. وجاءت حرب الصيف الماضي لتعطي لهذا الرأي صفة اليقين بأن لبنان يعيش ازمة سياسية فحسب. لكن دخول الفلسطينيين على خط الأزمة بدد هذا التفاؤل، فالفلسطينيون كانوا أداة الحرب الاهلية الماضية، وهم اليوم مرشحون للعب هذا الدور برغبتهم أو من دونها، فأحداث مخيم نهر البارد الجارية تقول بكل وضوح ان التاريخ سيعيد نفسه في لبنان، وان الفلسطينيين سيكونون وقود هذه الحرب وأداتها، فمنذ اغتيال الحريري وما تلاه من جرائم كان الحديث عن تدخل اسرائيلي في الأزمة اللبنانية يعد نوعاً من الخيال السياسي عند كثيرين، او على الاقل من وجهة نظر أولئك الذين يرفضون أي تحليلات تنطوي على ايحاءات تعفي سورية من مسؤولية ما جرى ويجري. اما اليوم، فإن استبعاد التدخل الاسرائيلي ضرب من العناد، فدخول الفلسطينيين على النحو الذي جرى يوم الاثنين الماضي قدم لإسرائيل فرصة ذهبية لتأكيد ان المقاومة الفلسطينية شكل من اشكال"الارهاب"، فما يسمى"منظمة فتح الاسلام"ظاهرة ارهابية، وزج المنظمات الفلسطينية بما جرى على يد هذه الجماعة سيعطي الجيش الاسرائيلي غطاء دولياً لممارسة ارهابه ضد المدنيين الفلسطينيين بحجة ان ما يقوم به جزء من الحرب الدولية على"الارهاب". لا شك ان احداث مخيم نهر البارد وضعت الفلسطينيين في موقف لا يختلف كثيراً عن الظروف التي مروا بها في لبنان في عام 1982، ففي تلك الفترة رأى الراحل ياسر عرفات ان المواجهة هي الحل، فخاض حرباً على الاراضي اللبنانية لحماية نفسه ورجاله بعد الاجتياح الاسرائيلي، والنتيجة كانت ترحيل الفلسطينيين الى المنافي وتشتيت شملهم السياسي، وعوضاً عن المطالبة بحقوقهم التاريخية، اصبحت منظمة"فتح"تسعى لإيجاد ملاجئ لقياداتها وكوادرها، فوجد أبو عمار نفسه مرغماً للقبول باتفاق اوسلو وما تلاه من تنازلات، واليوم يبدو اننا امام مرحلة اخرى من تجريد الفلسطينيين مما تبقى لهم، ولهذا فإن المنظمات الفلسطينية مدعوة الى ما هو ابعد من المشاركة في لجان التهدئة، فالتعاطي مع"ارهاب"منظمة"فتح الاسلام"باعتباره جزءاً من مشاكل المخيمات الفلسطينية في لبنان خطأ سياسي فادح في احسن الاحوال، وتسويغ لتصفيتهم باسم محاربة الارهاب في اسوأها، وليس امام القوى السياسية الفلسطينية سوى الاتحاد امام ما يجري في لبنان والوقوف في شكل كامل مع الجيش اللبناني، حتى لو اقتضى الامر مساعدة الحكومة اللبنانية في مقاومة ما يسمى"فتح الاسلام". لقد خسر الفلسطنيون قضيتهم في السابق لأنهم وافقوا على الانخراط في المشاكل العربية - العربية، لكن اتفاق اوسلو، على رغم كل التنازلات، ساعد القيادات الفلسطينية على التخلص من التبعية لهذا النظام او ذاك، ومنحها فرصة تاريخية للتفرغ لقضيتها بمعزل عن مصالح الآخرين، واستطاع الفلسطينيون بناء مرجعية فلسطينية مستقلة، لكن يبدو ان أحداث مخيم نهر البارد ستعيدهم مجدداً الى ازمتهم التقليدية، فوجود بعض القيادات الفلسطينية في سورية سيمنع بعض الفصائل من التصرف على نحو مستقل، والوقوف على الحياد بين السوريين واللبنانيين وهذا الموقف لو تم فإن الانفراج في الاحداث الجارية سيكون مجرد أمنيات. الأكيد ان تجاهل سورية لخطورة ما يجري في لبنان، والاصرار على اذكاء الأزمة السياسية بين"حزب الله"وتيار"المستقبل"سينعكس سلباً على أمنها. فما يجري في لبنان اليوم سيصل الى سورية وعلى نحو مفجع، فتطور المواجهات بين الجيش اللبناني وما يسمى منظمة"فتح الاسلام"سيؤكد كل التهم الاميركية ضد دمشق، اذا استمرت سورية في انكار أي دور لها على الساحة اللبنانية، ولهذا فإن سورية مدعوة الى التخلي عن موقفها القائم على ان ما يجري في لبنان مؤامرة دولية، ورفع يدها عن قرار المنظمات الفلسطينية المقيمة على ارضها. فنحن اليوم أمام أزمة تحمل في طياتها أبعاداً دولية أهمها أمن اسرائيل، والحرب الدولية على"الارهاب". وستفرض هذه الأبعاد تطورات تتجاوز المحكمة وبقية الاشكالات التي افضت اليها جريمة اغتيال الحريري. وبإمكان سورية تحويل احداث مخيم نهر البارد الى فرصة سياسية لتطويق التداعيات السياسية ضدها، وذلك من خلال الوقوف بحزم ضد الانفلات المتوقع في المخيمات الفلسطينية، وبغير هذا الموقف فإن الوضع سيحول الافكار التى يجري تداولها حول استهداف سورية الى حقيقة واقعة. فمن الصعب تصور انفراج في الأزمة الخطيرة التي يمر بها لبنان من دون اعتراف سورية بأخطاء سياستها في لبنان في المرحلة الماضية، وموقف سوري مختلف. فدخول الفلسطينيين على خط الأزمة جعل كل الاشكالات السياسية بين بيروتودمشق تفاصيل في خضم أزمة اسمها المواجهة مع اسرائيل، والحرب على الارهاب، فهل تستوعب دمشق هذه الخطورة التي تنذر بها احداث مخيم نهر البارد؟